حرية – (27/3/2023)
في شباط (فبراير) 1906، كتبت صديقة الخالدي إلى ابنها روحي، القنصل الذي يمثل الدولة العثمانية في مدينة بوردو الفرنسية، رسالة من أربع صفحات وثقت فيها مراحل زواج شقيقه ثريا. “ولدي وبهجة كبدي.. أسعده مولاه في الدارين آمين، أهديك التحية … أبدي أنني أخذت تحريرك وسررت بوجودك بالصحة والعافية، وبه تعرفني بأنه ما أحد حرر لك شيئاً، ولا عرفت عن شيء، وحيث إن أخاك خجل منك فلذلك لا يقدر أن يعرفك عن شيء، والآن الحمد الله الكنة الجديدة تقرأ وتكتب فقد وضعتها بجانبي لتكتب لك هذا المكتوب”، كتبت.
أضافت: “أرسلت ورا أبو جميل أفندي وعرفته بأن مرادي زواج ولدي ثريا بنشأت خانم، بشرط ألا يعرف أحد حيث إن عمه الباشا يوسف ضياء الخالدي موجود في يافا وما عنده خبر، فشاور أنت أباك طاهر بن علي بن محمد صنع الله الكبير وأمك ورد لي الجواب، في اليوم الرابع حضر أبو جميل أفندي وأفادني بأن البنت بنتك والولد ولدك، عندها حررنا تليغراف لعمك الباشا بسرعة حضوره، فحضر في مساء اليوم الذي حررنا له التلغراف، وسألني عن السبب فقلت له الحكاية، وأرسلت خبراً إلى أبو جميل بأنه بيوم الخميس سنحضر لوضع الملاك (الحلق الألماس) وبدلة جنفاص تساوي خمس ليرات فرنساوي، وصندوق صغير وبقجة مقصبة وخمس محارم حرير وصندوق لوانده وماتيه، جميعها وضعتها داخل صندوق العنبر، وركبنا العربة أنا والست نبيهة خانم وهي ابنة طاهر بن محمد علي الخالدي وعمة أبو جميل موسى شفيق، وزينب خانم عمتك، والست أم موسى، وزهرة خانم، وأمينة خانم، وعائشة خانم السعودية، وفاطمة مرت شوكت أفندي، وعمك الباشا، وعثمان نوري، ذهبنا إلى دار أبو جميل وتغدينا هناك دجاج محشي وكوسا محشي وخيار محشي ومسقعة لحم وأرز، وبطيخ أصفر وبطيخ أخضر وضحكنا ودقت الست أمينة على العود ورجعنا على البيت”.
وتابعت صديقة: “جرى الزفاف في دارنا ولم يحضره إلا الأكابر وقد وضعنا شادراً كبيراً، فجاء العريس ومعه عمه الباشا وقعدا في الصدر، وبعد برهة من الزمن جئت وأم العروس وعندما وصلت العروس عندها قام العريس برش المتاليك، ورفع عن رأسها البرنجكو وجلست على جانبه الأيمن، عندها نقطت الست عائشة العريس بالكستك والساعة، تبعها خاتم من الألماس، ثم رقصنا وبعد ساعة ذهب العروسان إلى البيت، الذي تم فرشه بأثاث من خشب الزيتون الغالي شغل دمشق، أما السرير فإنني أتيت به من بيروت مصنوع من السندرين الأصفر الغالي وثمنه 15 ليرة فرنسية والناموسية ثمنها 11 ليرة فرنساوي، في صبيحة العرس نقط العريس عروسه بشكلة ألماس، ومن طرفك شكلة أخرى من الماس أتى بها خالك من الأستانة، ونقطها والدها خاتماً من الألماس وجميل أفندي حلقاً من الألماس”.
وختمت: “هذا ما به الكفاية من هنا الخالة نبيهة تهديك أشواقها.. وتبارك لك بقولها جعلها الله مباركة عليك وعلى أمك وأخيك ورزقك الله عروساً مباركة وأدام شريف وجودك، ومتعني برؤيتك قريباً على أحسن حال يا ولدي أرجوك عدم تأخير مكاتيبك عني لأني لا أتسلى إلا بخطك”.
هذه واحدة فقط من مئات الرسائل والأوراق المختلفة المواضيع التي عثر عليها في المكتبة الخالدية، وتخص أفراداً مختلفين من عائلة الخالدي وتعود إلى حقب تاريخية مختلفة، بعدما تقرر إعادة فتحها أمام الباحثين، ما اقتضى القيام بتصنيف للمطبوعات وتصوير ما تمتلكه من وثائق ومطبوعات ومخطوطات.
تعتبر الرسالة نادرة، إذ إنها تصف الأوضاع الاقتصادية للعائلات الكبرى وطبقة المتعلمين والموظفين في الدولة، كما أنها تصف مراحل إتمام الزواج في تلك الحقبة، الذي لم يتم التطرق إليه إلا نادراً في المصادر التي تعود إلى الفترة الزمنية نفسها، والتفاصيل التي لم يسبق أن تم تداولها حتى بين المختصين، إذ إنها تسلط الضوء على الحياة الاجتماعية وطقوس الزواج التي كانت منتشرة بين مجتمع العائلات المقدسية الفلسطينية في بداية القرن العشرين. كما أنها تعطي فكرة عن العادات والتقاليد الاجتماعية التي كانت متبعة في مدينة القدس خاصة، والتي يمكن للقارئ أن يتبين من خلالها أن قسماً منها ما زال سارياً حتى يومنا هذا، وبإمكانها أن تخلق مقارنة بين عادات القرية والمدينة، بخاصة في ما يُعرف بالنقوط أو هدايا الزواج.
إضافة إلى كل ذلك، أنها تخلق مجالاً للمقارنة بين طقوس الأعراس في المدينة والريف الفلسطيني، حيث الأجواء أكثر بساطة وتقتصر على الأغاني الشعبية والدبكة والسمر، وقد تمتد لأسبوع، أما وجبات الغذاء فتتنوع بين الأرز واللحم أو المفتول (المغربية).
أهميّة المكتبة الخالديّة
تكتسب المكتبة الخالدية التي أسسها الحاج راغب الخالدي عام 1900 أهميتها من كونها أول مكتبة عربية عمومية تؤسس بمبادرة شخصية في فلسطين. تقع المكتبة داخل البلدة القديمة في القدس – حي باب السلسلة، وتتكون من ثلاثة أبنية مملوكية من القرن الثالث عشر، أحدها هو ثاني أقدم مبنى مملوكي في القدس، يحتوي على أضرحة 3 أمراء خوارزميين شاركوا في الحرب ضد الصليبيين وتحرير المدينة خلال القرنين 12 و13، يفصلها 140 متراً فقط عن بوابة السلسلة، إحدى البوابات الكبرى التي تؤدي إلى الحرم القدسي الشريف، وهي جزء من الوقف الذري لعائلة الخالدي.
تحتوي المكتبة على أكبر مجموعة خاصة من المخطوطات العربية النادرة في فلسطين، وإحدى أكبر المجموعات العائلية في العالم (قرابة 2000 مخطوطة) يعود أقدمها إلى 1000 عام تقريباً، فيما تحتوي مجموعتها المطبوعة على 5500 مجلد، إضافة إلى مجموعة ضخمة من أرشيف العائلة يعود معظمها إلى القرن 18. بعد حرب 1967، كانت المكتبة مهددة بالمصادرة من قبل السلطات الإسرائيلية والمستوطنين في مناطق محيطة بها، إلا أن مقاومة العائلة أحبطت تلك الجهود.
جزء من تاريخ الشعب الفلسطيني
الدكتور خضر سلامة مدير المكتبة منذ 10 أعوام قام بتصوير كل الكتب والوثائق والمخطوطات بطريقة “المايكرو فيلم” لحفظ هذا الكنز، إذ إن مستقبل الديجتال ربما يكون مجهولاً. وقال لـ”النهار العربي” إن “المكتبات العائلية في القدس هي جزء من التراث ومن تاريخ الشعب الفلسطيني ككل في هذا البلد، وهذه المكتبات توثق جزءاً من الحقب التاريخية التي عاشها الشعب الفلسطيني بكل بساطة، رغم تصريحات المتطرفين إيتمار بن غفير وبتساليئيل سموتريتش التي تنفي وجودنا”.
ولفت إلى أن أقدم مخطوط في المكتبة عمره 1200عام، “ونحن كفلسطينيين موجودون هنا منذ آلاف السنين، لكن للأسف البروباغندا الخارجية تؤثر في روايتنا لأنه ببساطة يتم التخطيط لها من قبل دول. هذه المكتبات تدل إلى مستوى الثقافة التي كانت موجودة في ذلك الوقت ومنتشرة بين الفلسطينيين ونوعها، لأننا نتحدث هنا عن مدينة مقدسة تمثل الديانات الثلاث، لكن 70 في المئة من رواد المكتبة هم من المختصين بالديانة الإسلامية لأن معظم الكتب مختصة بالديانة الإسلامية واللغة العربية والفلك الذي يختص بأوقات الصلاة والحسابات الأخرى، مع وجود بعض الكتب العلمية”.
وأشار سلامة إلى “أن المخطوطات تتوزع بين اللغات العربية والتركية القديمة والفارسية، لكن أهمها الرسائل التي تتعلق بمراسلات شخصية وفرمانات، وتعيينات في المحاكم الشرعية والوظائف الحكومية في الدولة، أحد الأمثلة رسالة السيدة صديقة لابنها روحي”.
وتطرق سلامة إلى الأعداد التي قرأها من جريدة كانت تصدر في مدينة طرابلس “طرابلس الشام” التي كانت تصل إلى القدس وكان لها 67 مشتركاً من فلسطين، 5 من غزة، 7 من الخليل، 8 من بيت لحم، والباقي من القدس، وكانت جريدة إصلاحية.
ورأى سلامة أن المكتبات “لن تنتهي من حياة الناس رغم كل التطور العلمي الذي وصلنا إليه، فتاريخ المدينة هو تاريخ العائلات التي تحكمها وتعكس طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية فيها، ونظام المكتبات العائلية موجود في القدس منذ القرن السادس عشر”، مذكراً كذلك بمكتبة المسجد الأقصى ومكتبة مسجد يافا ومكتبات فردية، الكثير منها اختفى لأسباب مختلفة، ومنها مثلاً مكتبة ضخمة لعائلة قطينة كانت موجودة في الطبقة الثانية من باب العمود، ولا معلومات كافية عن أسباب اختفائها.
وتحدث سلامة عن الكتب التي سرقتها إسرائيل وهي نحو 37 ألف كتاب موجودة الآن في الجامعة العبرية والمكتبة الوطنية، وقال: “نحن بحاجة لمؤسسة لبناء مشروع مكتبة وطنية لحفظ المكتبات وتطويرها، بما يتلاءم مع العصر، وللحفاظ على ما تبقى منها في فلسطين”.