حرية – (29/3/2023)
سلط مقال تحليلي، الضوء على حقوق الإنسان في العراق، بعد مرور 20 عاماً على الغزو الأميركي للبلاد.
وأوضح مقال الباحثة المختصة في العراق، قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بلقيس والي، (28 آذار 2023)، “أتذكر ذلك اليوم في 2016 الذي أيقنت فيه أن الحكومات العراقية ليست مهتمة بتعزيز المساءلة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان. منذ 2003، رفضت السلطات العراقية التعامل بشكل مناسب مع “هيومن رايتس ووتش”. نادرا ما توافق السلطات على طلباتنا للاجتماع معها أو حتى ترد على رسائلنا. كلما نُشرت تقارير هيومن رايتس ووتش حول الانتهاكات في العراق، كانت الحكومة تنتقد عملنا على الدوام باعتباره متحيزا، وغالبا ما تدّعي دون وجه حق أننا لم نمنح السلطات فرصة للرد. لم نكن وحدنا من يواجه هذا الأمر، فقد تم تجاهل مجتمع حقوق الإنسان الأوسع في العراق”.
تالياً نص المقال:
بحلول أواخر 2016، بعد توثيق هيومن رايتس ووتش لاختفاء أكثر من 600 رجل– جميعهم من العرب السنة تقريبا – في أواخر مايو/أيار وأوائل يونيو/حزيران من ذلك العام أثناء العملية العسكرية لاستعادة الفلوجة، كان من الملح أكثر من أي وقت مضى العثور على شخص في الحكومة على استعداد لمقابلتنا والتفاعل مع نتائجنا وتوصياتنا. أتذكر امرأة من عشيرة المحامدة أخبرتني أثناء بحث هيومن رايتس ووتش أنها تنقلت من مكتب إلى آخر في محاولة للحصول على أخبار عن زوجها وابنها، اللذين أُخِذا خلال العمليات العسكرية. كانت مرهقة عندما تحدثنا، مُنهكة بعد تجاهلها مرارا وتكرارا.
بعد ضغوط خارجية كبيرة، صرّح رئيس الوزراء حيدر العبادي علنا في 4 يونيو/حزيران 2016، أنه أنشأ لجنة للتحقيق في عملية الفلوجة. كان إنشاء مثل هذه اللجنة فرصة نادرة وكنّا حريصين على اغتنامها.
بعد طلب المساعدة من سفراء عراقيين ذوي نفوذ في الخارج والذين كانوا داعمين لـ هيومن رايتس ووتش، حصلنا أخيرا على لقاء مع ممثل مكتب رئيس الوزراء. بعد انتقاد عملنا لمدة 15 دقيقة، اتفق الموظف الذي التقى بنا على أننا بحاجة إلى جهة اتصال من الجانب الحكومي.
وهكذا، بعد أسبوع، وجدت نفسي أقف خارج مبنى في المنطقة الدولية [المنطقة الخضراء]، متحمسة أخيرا لاحتمال لقاء مسؤول حكومي مكلف بالتعامل مع قضايا حقوق الإنسان. سألتقي بخبير كبير في حقوق الإنسان، هذا ما قيل لي. لكن في غضون دقائق من دخولي إلى مكتبه، استنتجت أنه لا هو ولا الحكومة التي كان جزءا منها، لديهم أي اهتمام حقيقي فيما يتعلق بحقوق الإنسان. ولا حتى قليلا.
كان الاجتماع، حسبما فسرته، بمثابة ازدراء محسوب وتجاهل لحقوق الإنسان من قبل الحكومة العراقية. المكتب الذي التقينا به كان في المبنى الأكثر تهالكا من بين جميع المباني التي رأيتها في العراق من عهد صدام حسين. هذا الهيكل المتداعي – بمصعده الذي يبدو أنه لم يعمل منذ سنوات، والطلاء المتشقق، والسجاد الملطخ والمهترئ، والجدران التي بدت وكأنها على وشك أن تنهار – زادت من إلى الانطباع بأن هذه المؤسسة لا تحمل أي أهمية لمن هم في السلطة.
بدا لي أن الحكومة العراقية لم يكن بوسعها أن ترسل إشارة أوضح بأنها ليست مهتمة بالاستماع، ناهيك عن الرد، إلى اقتراحات من هيومن رايتس ووتش أو جماعات حقوق الإنسان الأخرى حول كيفية احترام التزامات العراق بشكل أفضل بموجب قوانينه الخاصة والقانون الدولي والمعاهدات التي صادق عليها. تأكّد انطباعي الأولي عبر الرجل الذي قابلته. أوضح في غضون لحظات من جلوسي أنه لا يملك أي سلطة على الإطلاق ولن يكون قادرا على المساعدة في أي طلبات للحصول على معلومات أو الانخراط في أي موضوع.
بعد بضعة أسابيع، عدت إلى المنطقة الخضراء للقاء سفير بلد يجاهر ويفخر بالتزامه بحقوق الإنسان. كنت ما زلت أكافح لاستعادة تفاؤلي بعد ذلك الاجتماع العابر مع المسؤول العراقي، وأثرت مخاوف من أنه بعد مرور أشهر على حالات الاختفاء، لم يكن هناك أي مؤشر على أي نتيجة من لجنة تحقيق الفلوجة. سألت هذا السفير المتعاطف عادة ما إذا كان سيواصل الضغط على الحكومة بشأن المساءلة.
رد باختصار، وكان الجواب بالنفي. أخبرني أن أولوية المجتمع الدولي هي تمكين رئيس الوزراء الحالي وضمان بقائه في منصبه. من وجهة نظره، فإن تسليط الضوء علنا وإثارة المخاوف بشأن الانتهاكات المنسوبة إلى الحكومة الحالية يمكن أن يقوض هذا الهدف. وعد السفير “سنثير كل هذه المخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان مع رئيس الوزراء”، “بعد الانتخابات”. كانت المماطلة تكتيكا شائعا بين ممثلي الحكومات الأجنبية العاملين في العراق.
لم يحصل العبادي على ولاية ثانية في منصبه. وربما بشكل متوقع، لم يخرج أي شيء عن لجنة التحقيق التي أنشأها. لم تكن هذه هي المرة الأولى في تاريخ العراق الحديث التي تمر فيها انتهاكات بهذا الحجم دون عقاب. لكن في هذه الحالة، بدا أن هناك شعورا واسع النطاق بعدم الاهتمام بهذه الانتهاكات بين المسؤولين الحكوميين، والمجتمع الدبلوماسي، وأجزاء من المجتمع المدني العراقي. ولأن ضحايا تلك الانتهاكات كانوا رجالا عاشوا في ظلّ “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش)، وبالتالي ربما كانوا مرتبطين به، فقد بدا أن هؤلاء ليسوا ضحايا يستحقون الكثير من الاهتمام.
في أواخر 2016 وأوائل 2017، اندلعت معركة الموصل. ارتكب داعش والقوات العراقية جرائم حرب، لكن أعضاء في السلطات العراقية وبعض الدبلوماسيين الأجانب على حد سواء أخبروني أن الجرائم لا تستحق إثارتها بسبب الطبيعة “البغيضة” للضحايا. الأدلة على مثل هذه الجرائم تُركت بهدوء وشأنها. في الأشهر التي أعقبت المعركة، بدأت فئة جديدة من ضحايا انتهاكات الدولة واسعة النطاق بالظهور – العائلات الموصومة بصلاتهم المزعومة برجال انضموا إلى داعش. كان يُنظر إلى هؤلاء الضحايا على أنهم أكثر استحقاقا لأنهم كانوا في الغالب من النساء والأطفال. دعا المجتمع الدبلوماسي، إلى جانب بعض أعضاء الحكومة، إلى إنهاء العديد من إجراءات العقاب الجماعي. لكن هذه الممارسات استمرت، وأثبتت المساءلة مرة أخرى أنها بعيدة المنال.
عدت إلى المنطقة الخضراء في أواخر 2019 لمقابلة خليفة السفير الغربي المذكور سابقا. أعرب السفير الجديد عن صدمته من أعمال القوة المفرطة التي راح ضحيتها مئات المحتجين في شوارع بغداد ومدن أخرى في وسط وجنوب البلاد. اندهش من أن مثل هذه الأعمال يمكن أن تمر دون عقاب. في النهاية، “نحن نتحدث عن إطلاق النار على شباب شيعة وقتلهم”، بحسب ما قال. شارك هذا الرأي العديد من الأشخاص الذين تحدثت إليهم في المنطقة الخضراء، الذين افترضوا أنه في حين أن بعض المجتمعات كانت أكثر عرضة للوقوع ضحية للسلطات في نظام سياسي عرقي طائفي، فإن الأغلبية الشيعية ستُترك وشأنها.
مع ذلك، لم أكن متفاجئة من أن أنماط الانتهاكات قد أصبحت متأصلة – وأن الانتهاكات على ما يبدو لم تعد تميّز بين الناس على أساس المعتقد الديني. شعرت بالقلق من الطرق التي بدا فيها أن الإفلات من العقاب قد تفشّى في النظام السياسي في العراق بأكمله. أنشأ رئيس وزراء مختلف لجنة أخرى للتحقيق في أعمال العنف والقتل، والتي كانت هذه المرة موجهة ضد المتظاهرين السلميين. لم تحقق هذه اللجنة أيضا أي نتائج ذات مغزى.
الضغط من أجل المساءلة
تعمل هيومن رايتس ووتش على التوثيق الدقيق لانتهاكات حقوق الإنسان، ونشر النتائج على الملأ وتقديم تلك النتائج مباشرة إلى المسؤولين عن الانتهاكات. يعتمد هذا النهج على فكرة أنه من خلال نشر انتهاكات الحكومات لحقوق الإنسان وقوانين الحرب علنا، فإننا نرفع تكلفة استمرار مثل هذه الانتهاكات. ننشر أيضا توصيات مع النتائج التي توصلنا إليها، والتي تهدف إلى حمل الحكومات – سواء بسبب الاقتناع أو الإحراج أو دوافع أخرى – على التوقف عن انتهاكاتها ومحاسبة المسؤولين عنها.
إذا كانت الحكومة غير راغبة في التحرك، نلجأ إلى الحلفاء بما في ذلك شركاء المجتمع المدني والحكومات الأخرى التي لها نفوذ. قد تشكل الاجتماعات مع الدبلوماسيين جزءا كبيرا من منظومة حقوق الإنسان – فمنظمات مثل هيومن رايتس ووتش توثق الانتهاكات وتقترح الإصلاحات، ثم تطلع الأعضاء المتعاطفين من المجتمع الدولي على نتائجها وتوصياتها. غالبا ما يشارك الدبلوماسيون من البلدان التي لها علاقات ثنائية مهمة أو ذات نفوذ متعدد الأطراف مخاوفنا وينضمون إلى حملات صامتة، لكن فعالة في بعض الأحيان، لإقناع الحكومة بتغيير سلوكها.
رغم أن اجتماعاتي على مر السنين مع شركاء المجتمع المدني كانت لا تقدر بثمن لعمل هيومن رايتس ووتش، وقدرتنا على دعم مجتمع حقوق الإنسان داخل العراق، فإن تفاعلاتي مع الحكومة والسفراء في بغداد المذكورة أعلاه توضح دون لبس أن نظام التفاعل والاهتمام، في العراق على الأقل، قد توقف منذ سنوات بسبب غياب الإرادة السياسية الكافية. أما الضحايا الذين يسعون إلى المساءلة عن الانتهاكات فيعانون من العواقب.
ماذا الآن؟
يبدو أنه بمجرد إثبات سابقة الافتقار إلى المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان، يصبح هذا الأمر مقبولا – لا بل متوقعا – بمرور الوقت، في العديد من المجالات والأماكن. يمكن أن تتصاعد الصفقة السياسية قصيرة الأجل إلى طريقة عامة للقيام بكل الأمور. يمكن عندئذٍ إدامة الإفلات من العقاب وفكرة فرض أي مظهر من مظاهر القانون تنجرف بعيدا عن متناول اليد أكثر من أي وقت مضى.
في العراق، حاولت الكثير من أصحاب المصلحة محاسبة الحكومة بعد 2003. يواصل النشطاء والضحايا العراقيون توثيق الانتهاكات، وهم على استعداد، حتى وهم عرضة لخطر كبير، للإدلاء بشهاداتهم علنا. تحاول هيئات المراقبة مثل “المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق” استخدام سلطاتها المحدودة للتحقق من الانتهاكات التي ترتكبها الحكومة. في بعض الأحيان، يعمل بعض المسؤولين الحكوميين – من أعضاء البرلمان إلى موظفي السلطة التنفيذية، وأحيانا شخصية قوية مثل وزير أو حتى الرئيس – على تأكيد حقوق الإنسان. ومن الأمثلة على ذلك الخيار الذي اتخذه الرئيس العراقي السابق برهم صالح بتأجيل التوقيع على عدد من أحكام الإعدام، مشيرا إلى مخاوف بشأن معايير المحاكمات التي أدت إلى فرض عقوبة الإعدام في تلك القضايا.
لكن مثل هذه البوادر لم تغير الاتجاه العام بعيدا عن المساءلة. من واقع خبرتي، أبدى الكثير من الممثلين العراقيين والدوليين استعدادهم للتغاضي عن الجرائم التي ترتكبها قوات أمن الدولة من أجل تحقيق “الاستقرار” كما رأوه على المدى القصير. حتى أنصار حقوق الإنسان في سياقات وحالات مختلفة، سواء في الشرق الأوسط أو في أي مكان آخر، تجاهلوا الجرائم المرتكبة ضد المجتمعات في العراق التي اعتبروها غير مرغوب فيها في نهاية المطاف. بحلول 2019، ساعد “غض النظر” هذا على ترسيخ أنماط الإفلات من العقاب في هياكل الحكم العراقية. يمكن لبعض السلطات العراقية أن تستهدف، وقد استهدفت، بالفعل أي شخص تختاره، بما في ذلك المتظاهرين السلميين، دون خوف من عواقب ذلك.
قد لا يكون العراق استثنائيا في هذا الصدد. لكن السلطات العراقية كانت ولا زالت قادرة على التصرف بهذه الطرق لفترة طويلة ويرجع ذلك جزئيا إلى قلة التدقيق والمحاسبة من قبل المجتمع الدولي، الذي يبدو أن أعضاءه يروجون لمصالح متنافسة. يأتي هذا التقاعس عن تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها على حساب مصالح الشعب العراقي – بما في ذلك المرأة من المحامدة التي، بعد مرور أكثر من ست سنوات على لقائنا الأول، ما زالت لا تعرف ما إذا كان زوجها وابنها على قيد الحياة.