حرية – (30/3/2023)
أحدثت الحرب الروسية – الأوكرانية الكثير من المتغيرات حول العالم، وتركت بصماتها على العديد من الصراعات والخلافات السياسية والعسكرية التي تقف فيها روسيا والولايات المتحدة على طرفي نقيض، وكان للملف السوري حصةٌ لا بأس بها من هذه الانعكاسات التي بدأت في الآونة الأخيرة تأخذ شكل التصعيد العسكري بين القوات الأميركية المنتشرة في الشرق السوري، والقوات الروسية والإيرانية، وهو ما تجلى عملياً في جولات القصف المتبادل على قواعد أميركية ومواقع إيرانية، بالإضافة إلى تحليق الطائرات الروسية فوق قاعدة التنف الأميركية.
وكان من الواضح منذ بدء الحرب الأوكرانية في شباط (فبراير) من العام الماضي، أن ثمّة تعليمات وصلت أو صفقات عُقدت أدّى تنفيذها إلى خلق رابط عضوي بين بعض التطورات الميدانية في سوريا ونظيرتها الجارية في أوكرانيا.
فلم يكن من قبيل الصدفة أن تُفتح الحدود التركية للمقاتلين الأجانب الراغبين بالانسحاب من الجبهة السورية والالتحاق بالجبهة الأوكرانية للقتال ضد القوات الروسية هناك، إذ غادر مئات المقاتلين من الجنسيات الشيشانية والألبانية الأراضي السورية، وتوجهوا إلى أوكرانيا التي رحبت بهم بحفاوة ملموسة. ويعتبر عبد الحكيم الشيشاني من أبرز القادة الذين منحتهم وسائل الإعلام الأوكرانية اهتماماً كبيراً من خلال إجراء المقابلات معه، ربما لتوظيف ذلك في استقطاب المزيد من المقاتلين للقتال إلى جانب القوات الأوكرانية.
ولم يكن خروج هؤلاء سهلاً، بل لعبت “هيئة تحرير الشام” أدواراً واضحة في الضغط على بعض الكتائب المسلحة من جنسيات أجنبية، لا سيما من آسيا الوسطى، لتدفعهم إلى اتخاذ قرار المغادرة والتخلي عن حلم تحرير أرض الشام بما له من أبعاد دينية، والمشاركة عوضاً عن ذلك في الدفاع عن أوكرانيا.
ولعل أبو ماريا القحطاني، القيادي البارز في “هيئة تحرير الشام”، لم يكن ينطق عن عبث عندما أفتى بعد أيام قليلة فقط من بدء الحرب الأوكرانية بأن “المسلم الذي يُقتل هناك وهو يقاتل ضد الروس فهو شهيد”.
وانطلقت كل التحليلات التي رصدت ظاهرة مغادرة المقاتلين الأجانب سوريا إلى أوكرانيا، من أنها تقتصر على كونها من تجليات الخلافات الأيديولوجية والسياسية بين أبي محمد الجولاني قائد “هيئة تحرير الشام”، وقادة الكتائب من الجنسيات الأجنبية. ووضعوا ذلك في خانة استغلال الجولاني للحرب الأوكرانية من أجل التخلص من خصومه العقائديين.
ولكن بدأت أخيراً بعض الأصوات تتحدث عن وجهة نظر مختلفة، وعن أن مثل هذه المغادرة لمئات المقاتلين تتطلب استعدادات لوجستية وإمكانات مادية وتنسيق بين العديد من الدول لإتمامها. ولا يستبعد البعض أن تكون روسيا نفسها موافقة على مثل هذه الصفقة من باب أن مغادرة هؤلاء الجبهة السورية يمكن أن يخفف من ازدحام الجهاديين في هذا البلد الذي تعمل حثيثةً على عقد تسوية بشأنه، كما أن وجودهم في أوكرانيا قد يخدم الدعاية الروسية لجهة أن عدوّها يتحالف مع كتائب ومجموعات إرهابية.
ولا شك في أن قوافل هؤلاء الجهاديين لم يكن لها أن تنطلق نحو أوكرانيا لولا وجود رضا تركي بفتح المطارات التركية أمام مغادرتهم، ولولا أيضاً وجود تغاض أميركي عن هذه التحركات، لا سيما أنها تتعلق بأشخاص مصنفين على قوائم الإرهاب العالمية.
هل يعقل أن تجري مثل هذه التحركات التي تتعلق بأخطر صراع عالمي حالياً عبر “التخاطر” بين “هيئة تحرير الشام” والدول التي لها مصلحة في القيام بها من أجل تقوية الموقف الأوكراني ضد الروس؟ أم أن ثمة اتصالات سرية جرت بين بعض أجهزة الاستخبارات الغربية وقيادات في الهيئة من أجل التباحث في اللوازم اللوجستية التي تستلزمها عملية الترحيل الجماعية هذه؟
مناهضو “هيئة تحرير الشام” يؤكدون وجود مثل هذه الاتصالات، لا سيما مع الاستخبارات البريطانية، ويشددون على أن الجولاني لم يكن لينخرط في لعبة ترحيل الجهاديين من سوريا إلى أوكرانيا لولا حصوله على ثمن مقابل.
وهناك من يعتقد بين هذه الأوساط أن الثمن الذي قد يكون الجولاني حصل عليه هو رفع مستوى التنسيق بينه وبين بعض أجهزة الاستخبارات لتكثيف الضغوط على خصومه في إدلب، لا سيما جماعة “حراس الدين” وقيادات تنظيم “داعش” الموجودة بكثرة في تلك المنطقة.
غير أنه في الآونة الأخيرة، بدأ العديد من النشطاء المحسوبين على “الثورة السورية” يبدون شكوكهم في طبيعة الصفقة التي عقدها الجولاني من أجل السماح لمئات المقاتلين الأجانب الالتحاق بالجبهة الأوكرانية.
وتحدث أحد هؤلاء للمصدر شرط عدم الكشف عن هويته، وقال إنه يمتلك معلومات عن وجود ضباط أوكرانيين في محافظة إدلب حيث تسيطر “هيئة تحرير الشام”، وإن هؤلاء الضباط يقومون بالعديد من الأنشطة التجسسية التي تستهدف جمع معلومات عن القوات الروسية المنتشرة في سوريا. ولم يستبعد المصدر أن يكون الهدف هو البحث عن خطة مشتركة بين هؤلاء الضباط الأوكرانيين وقادة “هيئة تحرير الشام”، من أجل وضع بعض القواعد العسكرية الروسية في سوريا، وبخاصة مطار حميميم في دائرة التهديد إذا استلزمت التطورات ذلك.
وأشار المصدر كذلك إلى أن الضباط الأوكرانيين يقومون بتدريب عدد من القادة العسكريين في “هيئة تحرير الشام” على استخدام أنواع معينة من الأسلحة، وشدد على أن عمليات التدريب تجري ضمن دائرة ضيقة منعاً لحدوث أيّ تماس بين الضباط الأوكرانيين وعناصر الهيئة لضمان السرية.
وفي هذا السياق، كشفت “شبكة أمن المعلومات” على موقع تلغرام، وهي معرّف مناهض لـ”هيئة تحرير الشام”، عن معلومات تفيد بوصول الدفعة الأولى من صفقة أسلحة تمت بين تجار للأسلحة في أوكرانيا والهيئة عن طريق إحدى المافيات التركية. وأضافت أن الصفقة تقدر بعشرة ملايين دولار وصل منها ما يقارب المليون دولار، معظمها صواريخ م.د، بانتظار دخول باقي الشحنات. وقالت إنها ستنشر تقريراً مفصلاً حول هذه المعلومات.
ولم يستبعد مراقبون أن تقوم أوكرانيا بممارسة بعض الأنشطة الاستخبارية في الأراضي السورية، لا سيما تلك الخارجة عن سيطرة الحكومة نظراً إلى أن سوريا تعتبر من أبرز الساحات التي تنشط فيها القوات الروسية المعادية لها، غير أنهم ترددوا في تفسير ذلك على أنه يشكل دعماً لبعض الجماعات الإرهابية مثل “هيئة تحرير الشام”، مشيرين إلى أن الأمر قد يكون مجرد تقاطع مصالح أسفر عن خلق بيئة آمنة للاستخبارات الأوكرانية من أجل القيام بجمع معلومات حول الانتشار العسكري الروسي في سوريا، من دون أن يكون واضحاً سبب قيامهم بذلك، وما إذا كان يمثل تدشيناً لخط جديد في الصراع، أم أنه مجرد مساع للتأكد من أن القوات الروسية لا تقوم بأي أنشطة ضد أوكرانيا انطلاقاً من الأراضي السورية.