حرية – (30/3/2023)
في إنجاز سياسي ملحوظ وغير متوقع، توسطت الصين في صفقة بين الخصمين اللدودين السعودية وإيران، التي اتفقت بموجبها الدولتان المتنافستان على إعادة العلاقات الدبلوماسية الرسمية، واستعادة التدفقات الثنائية للتجارة والاستثمار، فهل تكون هذه الوساطة بداية تراجع النفوذ الأمريكي بالخليج؟
ويبدو أن نجاح الصين لأول مرة في معالجة أزمة شرق أوسطية، بحجم الخلاف السعودي الإيراني، وفي منطقة نفوذ خالصة للولايات المتحدة، يؤرخ لمرحلة جديدة لدبلوماسية التنين، بشكل قد يجعل بكين أكثر انخراطاً في أزمات المنطقة وقد يكون ذلك على حساب الغرب.
والصين لم تكتفِ بإبراز فاعلية دبلوماسيتها في المنطقة، بل استعرضت قوة أسطولها رفقة حلفائها الروس والإيرانيين، عبر مناورات عسكرية مشتركة بين أساطيل الدول الثلاث، ما بين 15 و19 مارس/آذار الجاري في خليج عُمان الذي لطالما صالت وجالت فيه الأساطيل الأمريكية وحدها.
وبثت المبادرة الصينية حياة جديدة في اتفاقية تعاون أمني انتهت فترة سريانها. وقد أدى الاتفاق، أو بالأحرى دور الصين في إبرامه، إلى بعض القلق المفرط في واشنطن وأماكن أخرى، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
ومثل هذه الردود الأمريكية ليست مفاجئة. ففي النهاية، تحب الولايات المتحدة التفكير في الخليج على أنه منطقة خاصة بها. فهي تحافظ على وجود عسكري كبير جداً في جميع أنحاء المنطقة، وتميل إلى خوض الحروب هناك، وكانت لعقود من الزمن الضامن الأساسي لعدم إعاقة نفط الخليج من الوصول إلى الأسواق العالمية.
هل تؤدي المبادرة الصينية إلى تراجع النفوذ الأمريكي بالخليج؟
الأمريكيون استثمروا منذ فترة طويلة في هذه الالتزامات ولذا لديهم سبب للاعتقاد بأنَّ النفوذ الأمريكي بالخليج ومجمل الشرق الأوسط يتضاءل، في المقابل يرون أن تأثير الصين يتصاعد بشكل مثير للقلق.
ومن المهم عدم السماح للجعجعة بأنَّ تتقدم على الحقائق، حسب التقرير، وأياً كان مدى الترحيب بهذا الاتفاق (أو عدم الترحيب في نظر البعض)، تظل المنطقة مليئة بالصراعات والتنافسات السياسية المعقدة. ولم يتضح بعد ما الذي تريد جمهورية الصين الشعبية تحقيقه، وما لديها من القدرة على تحقيقه؛ وهو أكثر بقليل من المساهمة في تحقيق الاستقرار في منطقة كانت موقعاً للمنافسة السياسية العنيفة والمريرة، مع مكافأة إضافية متمثلة في اختزال الأمريكيين إلى مقاعد المتفرجين على إنجازاتهم الدبلوماسية.
وربما ليس من قبيل الصدفة أنَّ المملكة العربية السعودية قد أبلغت الآن عمّا تريده ثمناً لتطبيع العلاقات مع إسرائيل؛ وهي ضمانات أمنية أوضح للمملكة من الولايات المتحدة، والحق في شراء أسلحة أكثر تطوراً، ودعم تطويرها لبرنامج “مدني” نووي.
يقول كاتب التقرير” النبأ السار هو أنَّ أياً من هذا ليس خبراً سيئاً. بل في الواقع، يمثل فرصة ذهبية للولايات المتحدة للانخراط في إعادة تقييم طال انتظارها لالتزاماتها العسكرية والسياسية في المنطقة”.
ويضيف: “ونعني بإعادة التقييم الانسحاب”.
وتستند عملية إعادة التقييم هذه إلى منطق واقعي جيد. سيكون من الصعب العثور على شخص واقعي يجادل بأنَّ المشاركة العسكرية والسياسية الأمريكية العميقة في الخليج يمكن تعريفها اليوم على أنها تصب في المصلحة الوطنية الأمريكية.
ففيما يتعلق بالخليج، فإنَّ الولايات المتحدة الآن في الموقف الذي لخصه بوب ديلان: “كنت أهتم.. لكن الوضع تغير”. لقد تغيرت أسواق الطاقة العالمية؛ إذ صارت الولايات المتحدة الآن ثالث أكبر مصدر للنفط في العالم وثاني أكبر مصدر للغاز الطبيعي.
ويتدفق نفط الخليج الآن إلى حد كبير إلى الصين (وهذا هو سبب اهتمام الجمهورية الشعبية بالاستقرار الإقليمي هناك). علاوة على ذلك، نظراً لتحدي تغير المناخ العالمي، ليس من المنطقي أن يدعم الأمريكيون السعر العالمي للنفط من خلال توفير الضمانات الأمنية التي تضمن تدفقه.
إضافة إلى ذلك، من الصعب للغاية إثبات أنَّ المشاركة الأمريكية النشطة في المنطقة قد حققت نجاحاً ساحقاً. وإذا كانت للولايات المتحدة بالفعل أية مصالح متبقية في الخليج، فإنَّ التاريخ يشير إلى أنه ربما من الأفضل لها أن تبتعد عن الطريق، حسب كاتب التقرير.
ولعل الأهم من ذلك أنَّ الولايات المتحدة، القوية لكن غير الحصينة ضد الاستنزاف، يجب عليها توزيع قدراتها على أفضل مع مصالحها، لا سيما أنها تواجه مشكلات سياسية داخلية شاقة وتحولات في ميزان القوى العالمي. وفيما يتعلق بالدفاع عن المصلحة الوطنية الأمريكية، فإن بعض أجزاء العالم – ولا سيما أوروبا وشرق آسيا – هي أكثر أهمية من غيرها.
باختصار، بدلاً من التحسر على احتمالية تزايد نفوذ الصين في المنطقة، يجب على الولايات المتحدة أن تنفصل عن التزاماتها هناك، وتسحب قواتها وتعيد تخصيصها لخدمة الأولويات الأهم والأكثر إلحاحاً، وكل ذلك بطريقة منظمة. ويرجع هذا لأنَّ الولايات المتحدة ليست لديها مصلحة أمنية وطنية ذات أولوية عليا في الخليج العربي، إلا أنَّ لديها مصالح حيوية أخرى في العالم، مُفصّلة بوضوح بمنطق الواقعية.
لماذا يفضل بعض الأمريكيين انخراط بلادهم في أزمات أوروبا وليس الخليج؟
على المسرح العالمي المُتغيِر، وفيما يتعلق تحديداً بالمصلحة الوطنية الأمريكية، يبرز هدفان سياسيان أساسيان ومُلحّان. يظل من الضروري بالنسبة للولايات المتحدة الحفاظ على أمن حلفائها والموالين لها في أوروبا، وقيمهم الديمقراطية وإخلاصهم تجاه بعضهم بعضاً.
وبالتالي، فإنَّ الانسحاب من الخليج ليس الخطوة الأولى في فك الارتباط الأوسع بالسياسة العالمية.
فعلى الرغم من الأصوات المتعالية التي تدعو الولايات المتحدة إلى الانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فإنَّ مثل هذه الخطوة ستكون كارثية. والمسألة لا تتعلق، كما يؤكد بعض أنصار “ضبط النفس”، بما إذا كان التحالف قد أنجز المهمة التي صُمِّم من أجلها في الأصل، أم لا. والمقياس الوحيد المهم هو ما إذا كانت الفوائد السياسية للمشاركة الأمريكية المستمرة في الناتو تفوق تكاليفها.
ومن المستبعد أنَّ الولايات المتحدة ستوفر بعضاً من المال – بل توفر أية أموال على الإطلاق- من خلال الانسحاب من الناتو، وهي تميل إلى زيادة مستويات إنفاقها العسكري المرتفعة جداً بالفعل.
لكن التكاليف السياسية (والمخاطر الجيوسياسية التي سيجلبها الانسحاب) قد تكون باهظة للغاية، إذ كان للمشاركة الأمريكية النشطة في أوروبا العديد من الآثار المفيدة، حسب التقرير.
فقد عززت ثروات البلدان الصديقة ذات التفكير المماثل في إحدى البؤر الجيوسياسية والاقتصادية في العالم، وجعلت الحرب هناك -التي كانت لتجلب دماراً بالغاً للمصالح الأمريكية- أقل احتمالاً بكثير. لذا من منظور استراتيجي أوسع، لم يكن الناتو عبئاً ثقيلاً، بل هو أفضل صفقة حصل عليها الأمريكيون على الإطلاق.
وهناك أولوية استراتيجية رئيسية أخرى تتمثل في شرق آسيا. من المصالح الوطنية الحيوية للولايات المتحدة ألا تهيمن أية قوة بمفردها سياسياً على هذه المنطقة الهائلة والديناميكية.
هذا الاحتمال المحفوف بالمخاطر ليس مستبعداً، كما توضح قوة الصين المتزايدة هناك.
ولكن عادةً ما يساء وصف الآثار المترتبة على هذا على السياسة. إذ يبدو أنَّ الكثيرين في واشنطن يرغبون بشدة في القتال، أو على الأقل المواجهة العسكرية مع الصين.
وهذا التصرف غير ضروري ومتهور ويفتقر للحكمة.
فعلى الرغم من أنَّ المخاطر في شرق آسيا هائلة، لكن التحدي والاستجابة المطلوبة ذات طبيعة سياسية. والقدرات العسكرية مهمة، لكن ليس عند محاولة الفوز بسباق تسلح إقليمي، أو لتأكيد الهيمنة المحلية، التي تزداد صعوبة تحقيقها، بل بصفتها عنصراً من عناصر استراتيجية سياسية أوسع.
إنَّ المشاركة الأمريكية المستدامة والعميقة مع الحلفاء التقليديين والجهات الفاعلة ذات التفكير المماثل ستعزز ثقتهم والمقومات اللازمة لفعل ما يرغبون فيه، وهي مقاومة الضغط السياسي الصيني.
يقول كاتب التقرير: “باختصار، من منظور المصلحة الوطنية الأمريكية، فإنَّ أوروبا وشرق آسيا مهمتان؛ بينما الخليج العربي لا”.
وعلى أفضل تقدير، هي مسافة بعيدة وهامشية في عالم متغير، يجب أن تكون الولايات المتحدة فيه أكثر انتباهاً لمطابقة مواردها مع أولوياتها.
والصين المتعطشة للطاقة لديها مصالح مهددة في المنطقة أكثر من الولايات المتحدة. كما أن لديها القدرة (على عكس الولايات المتحدة)- على لعب دور الوسيط النزيه فيما يتعلق بالنزاعات المحلية.
بالإضافة إلى ذلك، ومن الناحية العملية، فإنَّ احتمال تثبيت الصين لمكانتها باعتبارها فاعلاً خارجياً مهيمناً في المنطقة سيستغرق سنوات إن لم يكن عقوداً.
لكن إذا أرادت الصين محاولة الجلوس في مقعد القائد الجيوسياسي في الخليج -أو حتى إذا لم تفعل ذلك- فسنكون حمقى إذا لم نُسلّم مفاتيح القيادة لهذه المختلة، ونسحب ضماناتنا الأمنية، ونرحل عن المنطقة مدركين أنَّ الحظ قد حالفنا.