حرية – (9/4/2023)
في مقبرة في تكساس يوجد قبر كتب عليه: “ديفيد فيتر، لم يلمس العالم قط ولكن العالم تأثر به”. الطفل المدفون في ذلك القبر هو طفل وُلد بمرض نادر اسمه “نقص المناعة المشترك”.
ما أجبر ديفيد على عيش حياته داخل “فقاعة بلاستيكية”، منذ اللحظات الأولى بعد ولادته وحتى قبل آخر أسبوعين من حياته في سن 12 عاماً. وأصبح معروفاً في الإعلام والصحافة باسم “فتى الفقاعة”.
لم يقضِ ديفيد من حياته خارج الفقاعة سوى أسبوعين داخل غرفة معقمة في مستشفى، في محاولة يائسة لإنقاذ حياته من مضاعفات عملية جراحية كان هدفها علاج مرضه النادر، لكنها مع الأسف كانت السبب في وفاته.
وعلى الرغم من الفترة القصيرة التي عاشها، أظهر ديفيد الشجاعة والصبر والتفهم. وتقبل الظروف الفريدة في حياته، وبقي منتظراً طريقة للخروج من فقاعته بلهفة. وأنقذ حياة الآلاف من الأطفال بعد وفاته.
تاريخ عائلة ديفيد فيتر ومرض “نقص المناعة المشترك”
قبل ولادة ديفيد، أنجب والداه “كارول آن” و”ديفيد فيتر جونيور” طفلتهما كاثرين والتي كانت تتمتع بصحة جيدة، ثم أنجبا ابنهما الثاني عام 1970، والذي توفي عن عمر 6 أشهر فقط بسبب ولادته بمرض “نقص المناعة المشترك”.
أخبر الأطباء الوالدين أن وفاة طفلهما قد تكون ناجمة عن جين متحور، وإذا كانا سيرزقان بطفل آخر، كانت هناك نسبة 50% أن الطفل سيكون مصاباً بنفس المرض.
هذا المرض هو مجموعة من الاضطرابات النادرة التي تسببها طفرات في جينات مختلفة تشارك في تطوير وظيفة الخلايا المناعية المكافحة للعدوى. وعدم وجودها يعني أن الطفل كأنه ولد بدون جهاز مناعي تقريباً، ما يعني أن أي جرثومة يلتقطها الطفل، سواء كانت من لمس شخص آخر أو استنشاق الهواء الطبيعي حتى، يمكن أن تكون قاتلة بشكل أكيد.
ويُصاب معظم الرضع الذين يعانون من مرض “نقص المناعة المشترك”، بالالتهاب الرئوي، والعدوى الفيروسية المستمرة، والإسهال الشديد والعديد من الأمراض الأخرى. وبالعادة لا يستطيع الأطفال المصابون بالمرض، العيش أكثر من 6 أشهر أو عام واحد.
لكن الأطباء أخبروا “كارول آن” و”ديفيد فيتر جونيور” أنه في حالة اختيارهم إنجاب طفل آخر، وكان يعاني من المرض، يوجد خيار آخر وحل يمكن أن ينجح، اقترح الأطباء وضع الطفل في مساحة معزولة ومعقمة بشكل صارم، لحمايته من الجراثيم والعدوى، وعندما يكبر قليلاً في العمر، يمكن علاجه بزراعة نخاع العظام من شقيقته الكبرى كاثرين.
اعتقد الأطباء أن علاجه كان مجرد مسألة وقت، ولم يكن هناك نقاش حول المدة التي يمكن أن يبقى فيها الطفل في عزلة في تلك المرحلة، وربما لم تتم مناقشة أي أسئلة أخلاقية حول احتجازه في تلك البيئة المعقمة، دون أي تلامس مع أي أحد ولا حتى أمه وأبيه.
“فتى الفقاعة” والعيش في عزلة من اللحظات الأولى للولادة
في 21 سبتمبر/أيلول 1971 ولد “ديفيد فيتر” في غرفة مستشفى تم تنظيفها وتعقيمها عدة مرات لجعلها خالية من الجراثيم قدر الإمكان.
بعد ثوانٍ فقط من إجراء العملية القيصرية، وُضع ديفيد في بيئة معقمة للغاية، وبعد ذلك، نُقل إلى مستشفى تكساس للأطفال، حيث بدأ حياته في فقاعة بلاستيكية عازلة صممها مهندسو ناسا
خصوصا له، كانت “الفقاعة” مزودة بأنابيب موصولة بأجهزة تعقيم الهواء، ومثبت على جانبيها قفازات مطاطية تتيح للأطباء التعامل معه وحمله.
لكن الأطباء وعائلة ديفيد كانت تنتظرهم صدمة كبيرة، فقد تبين لاحقاً أن أنسجة شقيقته كاثرين ليست مطابقة أو مناسبة لعملية الزراعة وعلاج ديفيد. ومع تقدم الصبي في العمر ومع استمرار الأطباء في البحث عن علاج، أصبح واضحاً أن الحياة في الفقاعة ستكون حياته الدائمة. وهذا لم يكن شيئا سهلاً على الإطلاق.
أي شيء يحصل عليه ديفيد داخل فقاعته يجب أن يكون معقماً 100%، وإدخاله من فتحة خاصة إلى “فقاعة ديفيد”.
سواء كان الطعام الماء أو الحفاظات والملابس، كل شيء كان لا بد من تعقيمه بطريقة خاصة، ولم تكن تلك الطريقة تنفع مع جميع أنواع الأطعمة دون المخاطرة بإفساده، لذلك أصبحت خيارات ديفيد في الطعام محدودة لحد ما بالمعلبات والطعام المجفف الذي يتم تعقيمه بنفس الطريقة لساعات.
عندما أصبح عمر ديفيد عامين، كان تعليمه استخدام المرحاض الخاص به معقداً لأسباب جسدية وطبية. وعندما أصبح عمره 3 سنوات تم إنشاء فقاعة خاصة له في منزل عائلته، وذهب ليعيش مع عائلته بشكل كامل.
في عيد ميلاده، كانت والدته تخبز كعكة وكان ديفيد يشاهد عائلته وهي تطفئ الشموع من أجله. في عيد ميلاده الخامس، تم العثور على كعكة معلبة ومعبأة بالفراغ ليأكلها. وخلال كل هذه السنوات لم يختبر ديفيد أي تلامس مباشر على جلده مع أي إنسان آخر. ولم يشعر أبداً بالرياح على جلده أو يشاهد النجوم.
وعندما طُلب من “ديفيد فيتر” تعريف الشجرة، “أجاب بأنه مستطيل بني مع شكل بيضاوي أخضر في الأعلى”، فعلى الرغم من معرفته الأشكال الهندسة، ولكن وعيه بالحياة اليومية قليل جداً. وبشكل عام كان تصور ديفيد يوصف أحياناً بأنه أحادي البعد.
في سن 7 سنوات وصلت قصة ديفيد للإعلام، وأصبح يعرف باسم “فتى الفقاعة”، وحصل على الكثير من التعاطف والدعم المعنوي، وزيارات من الأطباء الذين حاول إيجاد علاج لحالته، ومحاولة جعله يعيش تجربة حياة طبيعية مثل أي طفل آخر قدر الإمكان.
فصنعوا له غرفة لعب صغيرة داخل فقاعة ثانية تم ربطها بالفقاعة الرئيسية، ما أعطاه مساحة أكبر للتحرك واللعب، وتمت إضافة الكتب وتلفاز، وحصل على تعليم مدرسي في منزله.
كما صنعت له وكالة ناسا بذلة عازلة يمكن ارتداؤها، شبيهة ببذلة رواد الفضاء، ولكنها كانت أكثر تعقيداً، ليستطيع ديفيد ارتداءها والخروج لدقائق خارج المنزل.
استخدم ديفيد تلك البذلة 7 مرات في حياته فقط، لأنها كانت تحتاج وقتا طويلاً من التحضير لارتدائها وخلعها، ولم ترغب عائلته بالمخاطرة بأن تتعرض تلك البذلة لثقب أو التلوث أثناء تواجدهم في الخارج.
لحظات الوداع وأول قبلة يحصل عليها من والدته
عندما بلغ ديفيد 12 عاماً، طور الأطباء علاجاً تجريبياً لزراعة نخاع العظام حتى وإن لم يكن مطابقاً يمكن أن يساعد ديفيد فيتر في إنشاء جهاز مناعي. ذكرت والدة ديفيد: “أخبرنا الأطباء أن نسبة نجاح العملية كانت مرتفعة، وقالوا إنها إما ستنجح أو لا تنجح. ولكن إذا لم تنجح، سنرجع ببساطة إلى المربع الأول”.
في الواقع، ذلك العلاج تمت تجربته مرتين فقط ونجح مرة وفي الحالة الثانية لم ينجح. لقد كان إجراءً تجريبياً جديداً وقررت العائلة والأطباء إجراءه؛ لأن بقاء ديفيد معزولاً عن العالم الخارجي أصبح غير مقبول.
شرح والدا ديفيد العملية له وما أخبرهما به الأطباء، وعلى الرغم من عدم تأكدهما من النتيجة، قرر ديفيد وعائلته المضي قدماً وتجربة العلاج الجديد، وكان القرار أن يستخدموا عينة النخاع من شقيقته كاثرين والتي لم تكن مطابقة من قبل، على أمل أن تنجح هذه المرة بفضل العلاج التجريبي.
بعد إجراء العملية بقي ديفيد فيتر عدة شهور في المستشفى، ولكن بدأت حالته تسوء وأصبح يتقيأ وعانى من الإسهال، وكان بحاجة لعناية خاصة خارج الفقاعة، وتناقش الأطباء مع عائلته حول نقله إلى غرفة معقمة خاصة. ورداً على سؤال من والده حول ما عليهم فعله، أجاب ديفيد: “أبي، سأوافق على أي شيء لأشعر بتحسن”.
وفي 7 فبراير/شباط عام 1984، تم نقل ديفيد لغرفة معقمة. ولأول مرة بحياته لمسته عائلته بشكل مباشر وليس من خلف فقاعته، ولكن وهم يرتدون ملابس وقفازات معقمة، حين لمست والدته شعره ابتسم ديفيد، وكانت أول مرة يسمعون صوت بعضهم بعضاً خارج الفقاعة، ما جعل والدته تجهش بالبكاء.
بعد عدة أيام تدهورت حالة ديفيد أكثر، وقال لوالدته: “أنا متعب، لماذا لا نسحب كل هذه الأنابيب وأعود إلى المنزل؟”.
في 22 فبراير/شباط قال ديفيد لوالدته: “أحبكم جميعأً” وكانت تلك الكلمات الأخيرة التي يقولها وأغمض عينيه ودخل في غيبوبة. خلعت والدته قناعها وقبلت طفلها لأول مرة. ولكن بعد بضع دقائق، أعلن وفاة ديفيد. ومع ذلك، فإن إرثه مستمر لغاية اليوم.
يقول الدكتور ويليام تي شيرر، الطبيب الذي أشرف على حالة ديفيد فيتر: “بفضل دراسة حالة ديفيد فيتر، يعيش اليوم الآلاف من الأطفال الآخرين الذين يعانون من نقص المناعة”.استخدم الأطباء الدراسات على خلايا ديفيد لإعطاء أمل جديد للعديد من الأرواح. اليوم، لم يعد عليهم استخدام فقاعة للأطفال الذين يعانون من نفس المرض، ويمكن توفير علاج لتمكينهم من عيش حياة دون أن يكون أحدهم “فتى الفقاعة” التالي، أو العيش محتجزين داخل سجن بلاستيكي طوال حياتهم.