حرية – (10/4/2023)
فجر الجمعة 25 شباط (فبراير) من عام 1994، وهو يوم الجمعة الثاني من شهر رمضان المبارك، وقف المستوطن المتطرف باروخ غولدشتاين خلف أحد أعمدة المسجد الإبراهيمي في الخليل، وانتظر حتى سجد المصلون ليفتح نيران سلاحه الرشاش عليهم وهم سجود. اخترقت شظايا القنابل والرصاص رؤوس المصلين وأعناقهم وظهورهم، وأسفرت مجزرة الحرم الإبراهيمي عن استشهاد 29 مصلياً وإصابة 15 آخرين قبل أن ينقضّ مصلون على غولدشتاين ويقتلوه.
أغلقت السلطات الإسرائيلية الحرم الإبراهيمي والبلدة القديمة في الخليل لستة أشهر، وشكلت لجنة تحقيق من طرف واحد عرفت باسم “لجنة شمغار” التي خرجت في حينه بتوصيات عدة، منها تقسيم الحرم الإبراهيمي إلى كنيس ومسجد. وضعت إسرائيل الحراسات المشددة على الحرم وبوابات إلكترونية وكاميرات، وفرضت واقعاً جديداً على السكان الفلسطينيين في البلدة القديمة في الخليل، وأعطت اليهود السيادة على الجزء الأكبر من الحرم الإبراهيمي، 60 في المئة، لتهويده والاستيلاء عليه، كما منعت الأذان.
التقسيم الزماني والمكاني …. التاريخ يعيد نفسه
على مدار الـ29 عاماً الماضية سعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى تعزيز تقسيم الحرم الإبراهيمي والبلدة القديمة في الخليل على حد سواء، من خلال تغيير ملامح البلدة القديمة وزيادة الاستيطان والاستيلاء على الأملاك، وإغلاق الأسواق والشوارع المحيطة وإقامة الحواجز للتضييق أكثر ومنع السكان من ممارسة حياتهم الطبيعية.
وعملت الحكومات الإسرائيلية على استنساخ الأسلوب نفسه لفرض واقع جديد على الحرم القدسي الشريف في القدس، من خلال محاولة إحكام قبضتها عليه بتركيب البوابات الإلكترونية التي جوبهت برفض تام واعتصامات وتظاهرات داخل البلدة القديمة استمرت زهاء الشهر، ولا تزال تحاول فرض سيادتها المطلقة وتغيير الوضع القائم “الستاتيكو” كلما واتتها الفرصة لذلك.
بين فترة وأخرى يظهر مصطلح التقسيم الزماني والمكاني للحرم القدسي الشريف والمسجد الأقصى، قد تكون إسرائيل قد نجحت فعلياً خلال السنوات الماضية بتقسيم الحرم القدسي زمانياً بين المسلمين والمستوطنين اليهود الذين يدخلون عنوة برفقة أمنية مشددة من الشرطة الإسرائيلية المدججة بالأسلحة، على شكل اقتحامات يومية بين يومي الأحد والخميس من كل أسبوع بين الساعة 07:30 صباحاً وحتى 11:00، وفي فترة الظهيرة بين 01:30- 02:30 ويطالبون بفترة مسائية بعد صلاة العصر، بحجة أن لا صلوات للمسلمين في هذه الأوقات.
ويرى المحتلون أن على المسلمين مغادرة المكان لليهود، لذلك يتم خلال هذه الاقتحامات الاعتداء على المصلين والمعتكفين والمرابطين من المسلمين، وكل من يكبّر ويعترض على دخول المستوطنين بهذا الشكل المؤلم واللا أخلاقي، كما يتم استخدام كل الوسائل اللا إنسانية لإسكات المسلمين المكبرين واعتقالهم وسحبهم وإبعادهم لأيام وأشهر وسنوات عن المسجد الأقصى. وفي عام 2015 أصدرت السلطات الإسرائيلية قانوناً يجرّم المرابطين والمرابطات في الحرم القدسي ويعتبرهم “تنظيماً إرهابياً”، وسمحت باستدعائهم وإبعادهم وسجنهم ومحاكمتهم وفقاً لأوامر الشرطة.
أما التقسيم المكاني فهو مخطط تسعى السلطات الإسرائيلية إلى تنفيذه بالقوة، وبات أمراً أشد إلحاحاً وعلى رأس أولويات هذه الحكومة، مع تولي المستوطنين المتطرفين وزارات استراتيجية في الحكومة الإسرائيلية الحالية، ويهدف إلى تخصيص أجزاء واقتطاع مساحات من الحرم القدسي الشريف ليقوم المستوطنون اليهود بتأدية ثلاث صلوات يومياً فيها، إضافة إلى طقوسهم التلمودية، كذلك بسط السيطرة الإسرائيلية بالقوة على الساحات الخارجية التي تحيط بمسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى.
إضافة إلى كل ذلك، تكشف المخططات الإسرائيلية نية المتطرفين هدم قبة الصحرة وإقامة كنيس وتغيير معالم الحرم الشريف وهويته الإسلامية، ويطالبون بتخصيص المسجد خلال الأعياد اليهودية التي يقارب مجموع أيامها سنوياً 100 يوم، إضافة إلى أيام السبت التي يبلغ عددها 50 يوماً في السنة لليهود على غرار الحرم الإبراهيمي.
بين غولدشتاين وبن غفير
في ذكرى مجزرة الحرم الإبراهيمي التي تزامنت مع عيد المساخر اليهودي “بوريم” عام 1995، وفي مستوطنة “كريات أربع” المقامة على أراضي جبل الخليل وبعض القرى المجاورة، ظهر أحد المحتفلين خلال مقابلة تلفزيونية وهو يرتدي زي الأطباء الأبيض وعلى كتفيه رتبه عسكرية كالتي وضعها غولدشتاين عند ارتكابه المجزرة، وكان الشاب يلصق على وجهه شعراً مستعاراً ليبدو لحية طويلة تشبّهاً بغولدشتاين، كما وضع على صدره ورقة مكتوباً عليها “باروخ القديس الذي يطلق النار ويثق الله به”، قال الشاب خلال المقابلة: “غولدشتاين بطل، لذلك أنا أرتدي زياً يشبه زيه…. إنه بطلي”.
بعد 26 عاماً من هذه المقابلة، تحول هذا الشاب إلى عضو كنيست، وبعد 29 عاماً أصبح وزيراً للأمن القومي في الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو. المتطرف إيتمار بن غفير، هو من يعطي الأوامر المباشرة للشرطة الإسرائيلية باقتحام الحرم القدسي الشريف ومنع وصول المصلين والتضييق عليهم، وهو من يأمر الشرطة بتعزيز وجودها في البلدة القديمة.
في كانون الثاني (يناير) الماضي، اقتحم بن غفير ساحات المسجد الأقصى بعد أسبوع من توليه وزارة الأمن القومي بطريقة استفزازية ولـ13 دقيقة، وطالب بفرض السيادة الإسرائيلية على الحرم القدسي الشريف، أو كما يدعوه “جبل الهيكل” وفقاً لعقيدته التوراتية المتطرفة، كما طالب بتغيير الوضع القائم وإنهاء وصاية المملكة الأردنية الهاشمية على أهم المقدسات الإسلامية في القدس.
ليل الثلثاء – الأربعاء الماضي، اقتحم عناصر من الشرطة الإسرائيلية المسجد القبلي بأحذيتهم وبنادقهم، وقاموا بضرب المصلين المعتكفين بالهراوات وأعقاب البنادق، وارتكبوا أعمال عنف وحشية لا يمكن أبداً تصور أنها ترتكب في مسجد له حرمته، كل ذلك من أجل إخلاء المسجد من المصلين المسلمين بالقوة للسماح صباح الأربعاء للمستوطنين باقتحام الحرم القدسي الشريف عشية عيد الفصح اليهودي، واعتقلت ما يقارب 500 شاب، في مشهد يعيد إلى الأذهان صور المعتقلين الذين كان يتم اقتيادهم إلى أبشع المعسكرات النازية “أوشفيتز”.
لم تكتف الشرطة الإسرائيلية بذلك، بل أعادت اقتحام المسجد مرة أخرى ليل الأربعاء – الخميس، ما تسبب باندلاع اشتباكات بين المصلين وعناصر الشرطة، اشتعلت على إثرها البلاد عن بكرة أبيها من الشمال إلى الجنوب.
الدكتور مصطفى أبو صوي، عضو مجلس الأوقاف الإسلامية في القدس، قال , إن “من الضرورة بمكان أن نفهم أن المسجد الأقصى هو اسم لكل ما دار حول سور الحرم القدسي الشريف، أي 144 دونماً، وبالتالي رحاب المسجد وكل ما هو مسقوف ومفتوح وما تحت الأرض وما فوقها يسمى المسجد الأقصى، هناك مناطق يمنع الصلاة فيها وهي منطقة بابي الرحمة والمنطقة الشرقية، طيلة ثلاث سنوات بعد دخول أرئيل شارون إلى الحرم القدسي الشريف في أيلول /سبتمبر عام 2000، بقي الحرم مغلقاً أمام الزوار والسياح حتى عام 2003 عندما قامت شرطة الاحتلال بإدخال الزوار من باب المغاربة من دون التنسيق مع دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس، وهي جزء لا يتجزأ من وزارة الأوقاف الأردنية، وبذلك فرضت الشرطة الإسرائيلية أمراً واقعاً جديداً وبمسار جديد، يؤدون صلوات ويمنع حراس الأقصى من الاقتراب منهم ويمنع دخول المصلين المسلمين تحت سن 40 إلى المكان”.
وأشار أبو صوي إلى أنه “يجب التنبيه إلى أن الحاخامات اليهود الأرثوذكس لا يسمحون لليهود بدخول المسجد الأقصى، والسبب أنهم يعتقدون أن بقايا الهيكل المزعوم قد تكون في موضع من مواضع المسجد الأقصى، هناك نظريات كثيرة جداً حول موضع “الهيكل” أنا مطلع على خمسة مواضع على الأقل، اثنان منها خارج الحرم القدسي الشريف، حقيقة هم لا يعرفون ذلك، وهناك علماء آثار وتاريخ إسرائيليون قالوا إنهم لا يعرفون أين يقع، كما أن هناك عدم اتفاق بين سلطة الآثار الإسرائيلية التابعة للحكومة وعلماء التاريخ والآثار اليهود، بخاصة في جامعة تل أبيب، هناك تغليب للأيديولوجية القومية الصهيونية على الأيديولوجية الدينية”.
وختم أبو صوي بأن قضية الحرم القدسي الشريف “قضية مهمة عالمياً ويجب تفعيل العمل الدبلوماسي، سواء على مستوى مجلس الأمن أم داخل أروقة اليونسكو، وعلى الأرض من المهم الاعتكاف والصلاة والمرابطة داخل المسجد الأقصى، وهناك دعم لا محدود من الملك عبد الله الثاني في ما يخص حماية الحرم القدسي الشريف والوصاية الهاشمية عليه”.