حرية – (12/4/2023)
حمزة مصطفى
أول مغرور في التاريخ هو فرعون الذي قال “أنا ربكم الأعلى”. ولأنه مثل ماحصل لكبار المتفرعنين وجد من يفرعنه من حاشية وحبربش فإنه سرعان ماتراجع عندما أصبحت الحديدة حارة, فحين أدركه الغرق إدعى الإيمان “قال آمنت إنه لا أله الإ الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين”. لا عزيزي .. “ماكو هيج بطة تلعب شناو”. راحت عليك. نجاه الله ببدنه لكي يكون آية. وهاهو فرعون آية لكل المتفرعنين الذين لم يعتبروا . كان إبن نوح من بين من لم يعتبروا إذ رأى أن الجبل يمكن أن يعصمه من الغرق. لم يستمع لصيحات أبيه “وحال بينهم الموج فكان من المغرقين”.
الإسكندر المقدوني لم يكن مغرورا برغم إنه فتح ثلث العالم القديم, وقد مات ولم يتجاوز الثالثة والثلاثين من العمر. كان تلميذا لأرسطو. تلاميذ الفلاسفة لن يصيبهم الغرور. الإسكندر كان معتدا بنفسه. كان ذلك من حقه. المتنبي, شاعرنا العظيم, الذي يقول إنه “جالس رسطاليس والأسكندرا” وسمع “بطليموس دارس كتبه.. متملكا متبديا متحضرا” كان مغرورا. مع ذلك هناك من يبرر للشاعر غروره من منطلق يجوز للشاعر ما لايجوز لغيره إن كان على صعيد الضرورة الشعرية أو العبقرية في حالة شاعر من وزن أبي الطيب. الغاوون لعبوا دورا في تضخيم ذوات الشعراء.طبقا للنص القراني يتبعونهم لأنهم يقولون مالا يفعلون وفي كل واد يهيمون.
يبقى هناك حدود للغرور شأن غرور شاعرنا الفحل الآخر أبو تمام. فعندما سأله أحدهم “لماذا تقول ما لايفهم”. كانت الإجابة قاطعة “ولماذا لاتفهم مايقال”؟ أبو تمام لاعب ماهر على الكلمات والصور. هو حكيم مثل المتنبي حسب نص قول المتنبي (أنا وأبوتمام حكيمان والشاعر البحتري”. لكن غرور المتنبي “مايلبس عليه عكال”. اليس هو القائل “وما الدهر الإ من رواة قصائدي.. إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا”. والقائل “أريد من زمني ذا أن يبلغني .. ماليس يبلغه من نفسه الزمن”. والقائل ” أرى كل يوم تحت ضبني شويعر.. ضعيف يقاويني قصير يطاول”. هذا البيت الأخير غرور مقبول. فلا أحد يقاوي المتنبي او يطاوله. ومع كل مايمكن قوله بشأن غرور المتنبي فإنه يبقى غرورا مبنيا على قاعدة شعرية صلبة ومتينة بعكس غرور عمر بن أبي ربيعة الفارغ ” قالت الكبرى أتعرفن الفتى .. قالت الوسطى نعم هذا عمر.. قالت الصغرى وقد تيمتها .. قد عرفناه وهل يخفى القمر” عمر بن ابي ربيعة كان نرجسيا باحثا عن “الطشة” بلغة هذه الأيام.
شاعر المعرة أبو العلاء المعري ,رهين المحبسين, لايصنف بين المغرورين مع إنه قائل بيت شعر جلب له مصيبة الدهر “إني وأن كنت الأخير زمانه .. لآت بما لم تستطعه الأوائل” حيث حاججه صبي كما تقول الحكاية فأفحمه. قال له الصبي “الأولون جاءوا بثمانية وعشرين حرفا للهجاء .. فبماذا أتيت أنت”؟ هذا الصبي يبدو إنه باحث عن “الطشة” هو الآخر. فلقد ترك كل عناصر الشعر العظيم من لغة وبيان وبلاغة وسبك ومعان و”جلب” بحروف الهجاء. شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري القى بحضور عميد الأدب العربي طه حسين في مهرجان الفية المعري في دمشق قصيدته العصماء “قف بالمعرة أمسح خدها التربا .. واستوح من طوق الدنيا بما وهبا”. ويمضي أبو فرات مشرقا مغربا في واحدة من كبريات قصائده “أبا العلاء وحتى اليوم مابرحت صناجة الشعر .. تهدي المترف الطربا .. يستنزل الفكر من عليا منازله .. رأس ليمسح من ذي نعمة ذنبا”. وحين وصل الجواهري الى البيت التالي “لثورة الفكر تاريخ يحدثنا .. بأن الف مسيح دونها صلبا” وقف طه حسين مصفقا طالبا إعادة البيت الف مرة, فأعاده الجواهري “لثورة الفكر تاريخ يحدثنا .. بأن الف الف مسيح دونها صلبا”. الجواهري المغرور شعرا لم يعط بطه حسين الذي كان رفض الجلوس حتى يعيد الجواهري البيت الف مرة. الجواهري أعاده مرة واحدة .. الف مرة. هكذا يفعل الكبار.
القضاة الذين يذبحون بغير سكين حين يقبلون منصب القضاء ليسوا من صنف المغرورين. هم ممن يعتدون بأنفسهم. فحين دخل القاضي شريح أحد المجالس وجلس حيث وجد له مكانا قيل له “الصدر ., الصدر” بمعنى تصدر المجلس, قال جملته الشهيرة “الصدر حيث أنا”. القاضي شريح يريد أن يقول “المكان بالمكين” وقد كان مكينا ملأ مكانه.