حرية – (12/4/2023)
ياسين البكري
في العراق، المسافة التي تفصل الحلم عن الواقع كبيرة جداً، هكذا علمتنا التجارب، فالتحولات الدراماتيكية الكبرى تبدأ بفرصة وتنتهي لمآلات صادمة، هي نفسها المسافة التي شهدناها عبر عقدين بين إفراط الوعد الذي يقترب من الوهم لسوء تدبيره، والتفريط بالوقائع بملابساتها، أوالعجز عن فهم المسار،أو بالتبريرات المطروحة من مختلف الفاعلين.
الحلم بعد 2003، كان بنظام سياسي عادل ديمقراطي، مبني على المواطنة كركيزة وقيمة عليا، غير ان تلك القصة إصطدمت بواقع مفارق اسمه المكونات، وما زال هناك من يعمل أن تسود المواطنة على المدى الطويل، ولا ضمانات للنجاح في ظل المعطيات.
الواقعية في الزمن المتاح تفرض التفتيش ضمن السياق على مفردات الإستقرار في نظام سياسي صمم على أساس التوافقية والتوازن والمشاركة، كمرحلة إنتقالية بانتظار تطور ونضوج أركان الثقافة المجتمعية والسياسية والديمقراطية ورسوخ قيمها.
معادلة النظام السياسي الجديد صيغت على قاعدة المكونات في بلد متعدد الأطياف والقوميات، وفي نفس الوقت إن تلك المكونات غير متناظرة عددياً، ما رشح مفهوم الأكثرية والأقلية بتفصيل إنتقائي قومي طائفي ترتب عليه إمتيازات لطرف .
محنة السنة إبتدأت مع العزل القسري من معادلة قومي قومي، ومن معادلة مذهبي مذهبي.
المعضلة الأولى التي واجهت العرب السنة بعد 2003، هي في عزلهم الهوياتي القسري في تمثيلهم السياسي، حيث وًضعوا في خانة الهوية المذهبية دون الجذر القومي الذي يجمعهم مع العرب الشيعة، وفي سياق الهوية المذهبية، قطع عنهم الإمتداد نحو كردستان بجدار الهوية القومية التي كانت أولوية طامحة ومقدمة عند الكرد كتمثيل سياسي.
النتيجة لهذا العزل القسري، أصبح هناك أكثرية مذهبية في مقابل أقليتان، واحدة منها مكون قومي محمي بحق فيدرالي ضُمن في قانون إدارة الدولة ومن ثم في الدستور، والإقليم الفيدرالي هو سر النجاح الكرد رغم كل صراعات أربيل والسليمانية، والثانية أقلية مذهبية لم تكتشف ذاتها بعد وملحقة سياسياً لضرورات تشكيل العراق الجديد بصورته المكوناتية.
التحولات السريعة في المشهد العراقي بعد الإحتلال لم تتح للمكون السني صياغة مشروعه الذاتي في قبال نضوج المشروعين الشيعي والكردي كعمق إشتغال في المعارضة، فضلاً عن ذلك ان التصورات السنية للدولة لم تستوعب خط المكونات وكانت إطروحة غير مفكر بها وغير مستساغة، بل الأكثر إن المكون السني كان رافضاً لهذا التشكل الذي عده غريباً وشاذاً ومستورداً لا يناسب البيئة العراقية، وكان ينظر الى مشروع المكونات على انه مقدمة تفتيت وتقسيم العراق، وخطوة نحو إضعاف السنة، مع ما خالط هذا السياق من أوهام سنية، المشكلة الأساس ان هكذا مشروع يفرضه الواقع العراقي كان ما يزال بعيداً عن التداول السني، وكل خطواتهم لعراق ما بعد 2003، كانت ردود فعل تملئها العواطف، وفاقدة للحسابات المستقبلية، ومجرد تكتيك مرحلي مجتزأ، جعلهم على الهامش وأصبحوا مجرد ورقة تمرير تهمل لاحقاُ.
المراجعات الدقيقة لكل الحافات الحرجة والنقاط المفصلية لتشكيل الدولة بعد 2003، تؤكد خطأ تموضعهم وقصور النظرة لهم من الفواعل الأخرى على انهم لحظة تأريخية إنقطعت ويجب أن لا تعاد، وتؤشر لإرادة إبقائهم كم كتلوي غير مؤثر في القرار السياسي، يُستدعى لإكمال أرجل قدر(جدر) الوليمة، ويهمل بعد نضوجها ليعادوا الى الهامش، وربما مقاربة (شمهودة) في المثل العراقي الدارج تنطبق عليهم لسوء تموضعهم وخياراتهم المستعجلة وخطأ النظرة اليهم ومكانتهم ودورهم لبناء عراق جديد.
الصدمة السنية الأولى مع النظام السياسي الجديد، كانت صياغة الدستور وتشريعه في 2005، الذي كان بحاجة لشرعية إكتمال وموافقة أضلاع المثلث المكوناتي والذي كان يواجه خطر إسقاطه من قبل السنة. (الصفقة )، كانت كلمة السر لتمريرالدستور ب (وعد) مراجعته في المادة 142، لمعالجة تحفظات السنة عليه، وبسقف زمني أمده أربعة أشهر إستطال الى الزمن الحاضر دون حراك.
في التمثيل المكوناتي ليست مستغرباً أن تكون (الصفقة) تحت ظل القواعد الدستورية والقانونية جزء من آليات عمل النظام، غير ان تمرير أي صفقة لن يكون ذو فائدة دون ضمانات تنفيذها، ومن غير ذلك، لن يكون لورقة بنود الإتفاق قيمة أكبر من ثمن الحبر الذي وقع عليها، وتتحول آلية الصفقة لمجرد وعد لا أثر حقيقي له دون قوة تحول الإتفاق والصفقة الى إجراءات وسياسات على أرض الواقع وليست مجرد وعد يتم التنصل عنه بمجرد تمرير قرار ما.
ذاكرة عقدين من سوق الصفقات السياسية المتلاحقة بين المكونات، تؤكد ان ساسة السنة كانوا خاسرين إلا من شراكة شكلية على تخوم العملية السياسي.
في النظم التوافقية يكون توازن القوة بين المكونات دينامكية الإشتغال الفعال وتلافي أزمات كبرى، ويصبح التوازن الضامن الحقيقي لتنفيذ الصفقة بين المكونات.
إحدى مشاكل إشتغال النظام التوافقي العراقي، تكمن في ركن أحد مكوناته على هامش القرار، وبقاءه مشتركاً في التمثيل السياسي شكلياً، وغير مشارك في القرار واقعياً.
أدرك ساسة المكون السني هذا الخلل، وادركوا أن مطالب جمهورهم ليس من السهل تمريرها في واقع ملتبس بالإتهامات والتصورات والنكول وأمراض التحول من نظام لنظام وأعراضه الملازمة، و الذي أصبحوا مسؤولين عنه دون النظر لمقدمات حدوثه، لذلك لجأ ساسة المكون لاستثمار أوقات الحاجة لهم لتقديم ورقة مطالبهم.
مراجعة أوقات الحاجة للمكون السني كمشارك وقتي في القرار وليس كشريك برسم الديمومة في النظام السياسي التوافقي، تؤشر الى 3 توقيتات، الأولى مرت دون عودة وهي تمرير الدستور الذي ترافق مع وعد لم يتحقق، والثانية أوقات تمرير الحكومة، والثالثة أوقات تشريع الموازنة، وفي كل مرة كانت هناك ورقة مطالب سنية وصفقة مسبقة على انها ستنفذ لاحقاً مقابل تمرير الحكومة أو الموازنة، وفي كل مرة تترك ورقة المطالب على طاولة النسيان أو التسويف المستمر أو تدخل في مفاوضات إستهلاك وقت بلا نهاية وبمررات عدم إنطباق ورقتهم مع القواعد الدستورية.
السؤال الذي يصبح ضرورة لطرحه هو، إذا كانت أوراق المطالب السنية لعشرين سنة غير دستورية لماذا يشرع في كل مرة بالتفاوض عليها ومن ثم توقيعها؟
وإذا كانت أوراق المطالب السنية دستورية ومشروعة لماذا يتم التنصل عنها؟
الجواب، هو في إختلال توزان القوة في نظام توافقي يفترض تصميمياً ونظرياً قائم على التوازن بين المكونات في القضايا الكبرى.
يتوضح إختلال التوازن في محنة السنة في النظام التوافقي العراقي بالمقارنة مع أوراق مطالب المكون الكردي الذي يستثمر ساسته أيضاً نفس التوقيتات، وينجحون في تمريرها والحصول على أغلبها، لان ببساطة مطالب الكرد محمية بفيدرالية الأقليم وتتحول لسلته مباشرة، ولأن لهم تمثيل في المركز وعدم قدرة المركز على التدخل في الإقليم.
محنة السنة، وتتبعه محنة نظام سياسي أتفق تأسيسياً على أن يكون توافقياً مكونانياً، وعدم إستقراره، تتجلى في عدم قدرة السنة، وفي عدم السماح لهم بتنفيذ حق دستوري في تشكيل إقليم يحقق توازن القوة بين مكوناته ومن خلال الدستور الذي ينص في مادته الأولى (على ان العراق دولة إتحادية).
بعد عقدين من التجربة التوافقية، يمكن القول ان إستقرار النظام السياسي العراقي وتجاوز السنة لمحنتهم السياسية تتلخص في تطبيق مواد الدستور، ومنها الحق في تشكيل أقاليم تحقق توازن القوة بين المكونات، دون ذلك سيبقى النظام التوافقي مختلاً وغير مستقر.