حرية – (25/4/2023)
اشترك في قناة حرية الاخبارية على التيليكًرام ليصلك كل جديد
مرت الحرب الروسية– الأوكرانية طوال عامها الأول بتطورات عسكرية كثيرة، بدءاً من إعلان موسكو “التأهب النووي”، وتفجيرات أنابيب “نورد ستريم” الغامضة، ووصولاً إلى قرار إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مد أوكرانيا بدبابات “أبرامز”، وموافقة ألمانيا المترددة على دعم كييف بدبابات “ليوبارد”، خشية جر القوى العظمى في حلف “الـ”ناتو”” إلى حرب مباشرة مع روسيا.
وعلى صعيد التحليلات السياسية ومبادرات السلام الجدلية، فاجأ إيلون ماسك كثيرين بعد أن اقترح أواخر العام الماضي خطة سلام تتضمن تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها، ما دفع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنيسكي إلى توبيخ الملياردير الأميركي، قائلاً إن “عليه زيارة أوكرانيا لفهم الوضع والاطلاع على الأضرار التي لحقت بالبلاد جراء الحرب الروسية قبل الإدلاء بتصريحات حولها”.
لكن تظل خطة السلام الأكثر جدلاً تلك التي طرحها هنري كيسنجر، ليس لفحواها فقط فهي تتقاطع مع بعض ما قاله السيد ماسك، ولكن لأنها آتية من دبلوماسي مخضرم ترك بصمة خالدة في تاريخ السياسة الأميركية إبان عمله وزيراً للخارجية ومستشاراً للأمن القومي في إدارتي ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، وهو الذي قاد بواقعيته السياسية خروج بلاده من مستنقع فيتنام، ولعب دوراً في التهدئة مع الاتحاد السوفياتي، وتدشين علاقات دبلوماسية بين واشنطن والصين.
ولذلك، تتذكر القيادة الأوكرانية جيداً إطلالة كيسنجر في مؤتمر “دافوس” العام الماضي، حيث دعاها إلى التخلي عن أراضيها لروسيا مقابل وقف الحرب، وهو التصريح الذي أثار غضباً واسعاً في كييف، فالرئيس الأوكراني عقب قائلاً “لسنا في عام 1938″، في إشارة إلى اتفاق ميونيخ الذي وقعته كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا قبل أكثر من نصف قرن، وجرى بموجبه منح أدولف هتلر أراض تابعة لدولة تشيكوسلوفاكيا في محاولة فاشلة لإقناعه بإلغاء مخططاته التوسعية.
لكن ما يميز مبادرة الدبلوماسي الذي يقترب من دخول قرنه الأول ويجعل البحث والتنقيب في ردود الفعل تجاهها مغرياً هو تعقيب كيسنجر نفسه عليها، ومراجعته التي وصفت بـ”الجريئة”، واستشهد بها البعض كمثال للتشجيع على تصحيح الذات ونبذ التزمت، فبعد أشهر من تلك التصريحات المناوئة للموقف الأوكراني، بدا كيسنجر يميل إلى موقف متصالح مع نهج كييف، إذ دعا إلى ضمها إلى حلف “الـ”ناتو””، وهي الخطوة التي حذر منها مراراً، لتجنب استفزاز الدب الروسي.
كيسنجر ودعوة “التضحية المحدودة”
رغم أن كيسنجر أثار السخط في كييف بسبب موقفه الأولي الصيف الماضي، فإنه لم يخف حينها إعجابه بالقيادة الأوكرانية، ورئيسها الممثل الكوميدي، الذي جاء بحسب تعبيره “بالصدفة”، وهو “محبط” من السياسات الداخلية في أوكرانيا، قبل أن يجد نفسه أمام محاولة روسيا ابتلاع بلاده وإعادتها إلى موقع تكون فيه تابعة لها.
ولذلك، يشيد كيسنجر بقدرة زيلنيسكي على حشد دولته والرأي العالمي خلف قضيتها، فذلك “إنجازه العظيم” كما يقول الدبلوماسي التسعيني الذي يشركنا في التساؤل عما إذا كان بإمكان الرئيس الأوكراني “الحفاظ على ذلك أثناء إرساء السلام، خصوصاً السلام الذي ينطوي على بعض التضحية المحدودة”.
لكن حديث “التضحية المحدودة” مقابل مصلحة أكبر لم يشفع لكيسنجر عند المسؤولين الأوكرانيين الذين انبروا بالهجوم على أفكاره. ومع ذلك، تمسك الوزير السابق برأيه حول أهمية أن يقدم الطرفان بعض التنازلات، ومنها أن يتضمن مقترح خطة السلام عودة الوضع إلى ما قبل الحرب الحالية، وذلك يعني بقاء أجزاء من دونيتسك ولوغانسك تحت سيطرة الانفصاليين الموالين لموسكو، واستمرار شبه جزيرة القرم جزءاً من روسيا، كما كان الحال منذ عام 2014. وهذا بحسب الوزير السابق يضمن إيجاد مكان لكل من أوكرانيا وروسيا، وإلا فإن روسيا بعزلها عن القارة العجوز سينتهي بها الحال في أحضان الصين، أو كما يقول، ستصبح “بؤرة استيطانية للصين في أوروبا”.
أوكرانيا المحايدة من الماضي
سبب موقف كيسنجر صداعاً لحكومة زيلنيسكي الحريصة على حشد الشخصيات المؤثرة وراء قضيتها، خصوصاً في ظل وجود أصوات جمهورية في الولايات المتحدة ليست راضية عن آلية إدارة بايدن في دعمها لكييف. ومع ذلك، فضل الدبلوماسي الجمهوري أن يكون موقفه متسقاً مع دعوته القديمة إلى تجنب استفزاز موسكو، إذ كتب في مقالة عام 2014 محذراً أوكرانيا من الالتحاق بحلف “الـ”ناتو””. وأشار إلى أن عليها اتباع نهج فنلندا التي تحافظ على استقلالها وتعاونها مع الغرب، في الوقت الذي تتجنب فيه معاداة روسيا.
وبعد أشهر من مواقفه المثيرة للجدل، أطل كيسنجر مجدداً من مؤتمر “دافوس” في يناير (كانون الثاني) الماضي ليدعم هذه المرة ضم كييف إلى “الـ”ناتو””، مشيراً إلى أن الاجتياح الروسي لأوكرانيا أظهر أنه لم يعد هناك من مبرر لبقاء الأخيرة خارج الحلف. وقال، “قبل هذه الحرب، كنت معارضاً لعضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي لأنني كنت أخشى أن تتسبب في الضبط بالعملية التي نشهدها الآن” [لكن] “الآن وقد وصلت هذه العملية إلى هذا المستوى، فإن فكرة أوكرانيا المحايدة في ظل هذه الظروف لم تعد ذات جدوى”.
لم يكن موقف كيسنجر الجديد خبراً عابراً بالنسبة إلى الرئيس الأوكراني الذي عبر عن سعادته بدعم وزير الخارجية السابق انضمام أوكرانيا إلى الـ”ناتو”، مشدداً على دور الشخصيات المؤثرة في الضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وأضاف “ندرك أننا لم ننضم بعد إلى حلف الـ’ناتو’، ولسوء الحظ، روسيا مدركة لذلك أيضاً وتقاتل لمنع حدوثه، لكنني أدرك أننا نسير على هذا الطريق، والـ’ناتو’ هو أفضل ضمان أمني لأوكرانيا ومجتمعنا ومستقبل أطفالنا”.
“الصمت الغربي شجع بوتين”
وفي حديث مع “اندبندنت عربية”، لمحت آنا بورشفسكايا الباحثة المتخصصة في السياسات الروسية في معهد واشنطن إلى أن السياسة الأولى التي دعمها كيسنجر لعبت دوراً في تشجيع روسيا على التدخلات العسكرية وقالت إن “صانعي السياسة الغربيين تخوفوا لفترة طويلة من أن أي إجراءات يتخذونها ستؤدي إلى تصعيد مع روسيا، إلا أن ذلك الجمود لم يكن نتيجته إلا تشجيع عدوان بوتين”، لافتة إلى أن وجهة نظرها “أقرب إلى وجهة نظر كيسنجر المعدلة”.
وذكرت مؤلفة كتاب “حرب بوتين في سوريا، السياسة الخارجية الروسية وثمن الغياب الأميركي” أن الرئيس الروسي لم يدفع ثمن تدخلاته الثلاث قبل أوكرانيا، في جورجيا عام 2008، وشبه جزيرة القرم عام 2014، وسوريا عام 2015″، مشيرة إلى أنه “كان ينبغي السماح لأوكرانيا باختيار مسارها الخاص، وفق قواعد النظام العالمي القائم على التقاليد الليبرالية الذي يسعى بوتين إلى تدميره”.
ورداً على من يقول إن روسيا اضطرت إلى الحرب بعد استشعارها تهديداً وجودياً متمثلاً في الـ”ناتو” الذي لا يكف عن التوسع، قالت “الـ’ناتو’ لم يتوسع، بل طلبت دول أخرى الانضمام إليه، ومرت بعملية صارمة للوفاء بمعايير العضوية، وفي الوقت نفسه استشيرت روسيا في كل خطوة على الطريق من خلال مجلس روسيا- الـ’ناتو’ الذي أنشئ على وجه التحديد لأخذ مخاوف روسيا بعين الاعتبار، ولتحقيق هدف طموح وطويل الأجل يتمثل في ضم روسيا إلى الـ’ناتو’”.
وشددت الباحثة على حاجة الولايات المتحدة إلى “ضمان انتصار أوكرانيا، لأنها الطريقة الوحيدة لإنهاء هذا الصراع الذي لا يتعلق بأوكرانيا فقط، بل بالنظام العالمي الليبرالي”. وأضافت “لا تأخذ نظرة بوتين للعالم في الحسبان أنه وعلى عكس حلف وارسو، الذي لم يكن منظمة تطوعية، فإن الدول في نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، يحق لها اتخاذ خياراتها الخاصة. يريد بوتين عالماً مختلفاً، حيث تمتلك القليل من القوى العظمى حقوقاً أكثر من الدول الأصغر الأخرى، ويكون لها الحق في فرض إرادتها على تلك البلدان تحت تهديد السلاح”.
ماذا ستفعل روسيا المهزومة؟
من جانبه قال بافيل بايف الباحث في السياسة الخارجية الروسية في معهد بروكينغز في حديث لـ”اندبندنت عربية”، إن مشكلة الالتزام الغربي الراسخ بضمان فوز أوكرانيا في الحرب تكمن في أنه لا يمكن لأحد أن يخطط أو يتنبأ بالطريقة التي ستتصرف بها روسيا المهزومة، مبدياً في الوقت نفسه دهشته من قوة وحيوية التحالف الغربي الداعم لكييف، الذي لم تتوقعه موسكو.
وعن مواقف كيسنجر المتغيرة، قال “كيسنجر سياسي حاذق ومفكر ذكي، ولذلك تتغير تقييماته مع تغير مسار الحرب، فلا شيء مفاجئاً في ذلك”، مضيفاً “ما كان من الصعب التنبؤ به هو قدرة أوكرانيا على حشد هذا الجهد البطولي للدفاع عن سيادتها. استندت توصية [كيسنجر] الأولية إلى تصور أن أوكرانيا أضعف من أن تقاوم، وقد ثبت أنه مخطئ كغيره الكثير، واستعداده لمراجعة آرائه يستحق الثناء”.
ويرى بايف أن الـ”ناتو” يمكنه الوقوف مع أوكرانيا وضمان قدرتها على إلحاق الهزائم بالجيش الروسي المنهك والمحبط، لكن المشكلة على حد تعبيره هي أن حرباً استنزافية طويلة، وهو خيار ينظر إليه الآن على أنه الأكثر احتمالية، يمكن أن تتحول فجأة إلى هزيمة سريعة لروسيا، وهذه الصدمة يمكن أن تجلب معها حزمة جديدة من المخاطر.
ولدى سؤاله عما إذا بالغ بوتين في تقدير إمكانات جيشه، أجاب الباحث المتخصص في إصلاحات الجيش الروسي ومؤلف كتاب “الجيش الروسي في وقت الاضطرابات” قائلاً “نعم، لقد بالغ بوتين بالتأكيد في تقدير قدرات الجيش الروسي. تزامنت هذه الغطرسة مع فشل كامل في فهم قوة الدولة الأوكرانية وسوء تقدير خطر لوحدة الغرب. إن قرار اللجوء إلى التعبئة كان متأخراً للغاية ومن دون تحضير، وقد أدى إلى تفاقم الوضع الداخلي وسير العمليات القتالية”.
وأضاف “لدينا الآن تطوران متباينان، الأول الجيش الأوكراني يصبح أكثر حداثة، والجيش الروسي يتحول إلى نسخة فقيرة من القوات المسلحة السوفياتية. يتعلم الأوكرانيون استخدام أنظمة الأسلحة الحديثة ومهارة إجراء عمليات معقدة بقدرات مشتركة، ويعود الروس إلى تكتيكات الحرب المعتادة بين عامي 1943 و1945”.
وختم حديثه قائلاً “ليس من الصعب التكهن بأي جانب سيحقق النصر”.