حرية – (1/5/2023)
اشترك في قناة حرية الاخبارية على التيليكًرام ليصلك كل جديد
احسان الشمري
اتسم الوضع السياسي العربي منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى في الغالب بحالة انقسام متعدد الأوجه، واستمر على ذلك بعد تشكل جامعة الدول العربية في عام 1945م، التي تألفت من الدول العربية السبع المستقلة آنذاك، فتجلى ذلك الانقسام في عدة أوجه بما في ذلك تشكل محاور تختلف توجهاتها بين الدول وأما حالات التوافق فلم تظهر إلا في قرارات الجامعة العربية ( المنظومة التي تعد مؤشرًا على العمل العربي المشترك ) والقمم العربية ظاهرًا أو تقاطعًا، مما انعكس على التعاون العربي وأيضًا زاد من القناعة ما بعد قرابة ثمانية عقود على تأسيس جامعة الدول العربية، بعجز هذه المؤسسة عن الإيفاء بما نص عليه ميثاقها ومعاهداتها وبروتوكولاتها تجاه تحقيق التكامل وحماية الأمن العربي القومي، فبات من المحتم إعادة النظر في نظمها وهياكلها بما يحقق الأهداف الرئيسية التي نص عليها ميثاقها.
ثمة سببان رئيسيان لحالة الانقسامات في الوضع العربي، الأول :طبيعة التجزئة العربية أو طبيعة دول الاستقلال المجزأة، مثل ما ولدته طبيعة التجزئة من تنافس على الزعامة والقيادة بين الدول الكبيرة أو المتوسطة من جهة، وما ينشأ من تناقض عند محاولة احتواء الصغير الذي يسعى إلى أن يمارس الندية التي تنبع من كونه دولة مستقلة ذات سيادة، كما يعترف له بذلك ميثاق الجامعة العربية وميثاق هيئة الأمم المتحدة، فضلًا عن الاستراتيجيات الدولية التي تذهب إلى التعامل مع كل دولة على حدة، لأن التعامل مع الدول العربية كتلة واحدة يعني التعامل مع قوة كبرى عصية على الإملاءات.
العامل الثاني، هو ميزان القوى العالمي والإقليمي الذي تتحكم فيه استراتيجيات الدول الكبرى ومصالحها وسياساتها بما يعني أن التكامل والتنسيق ووحدة الموقف بين الدول العربية ولو على مستوى التضامن إزاء القضايا والتحديات الوجودية أو السياسية ولاسيما قضية فلسطين، وحتى مستوى تشجيع العلاقات الاقتصادية البينية أو نشوء سوق عربية مشتركة يتعارضان مع تلك الاستراتيجيات والمصالح والسياسات.
إن ميزان القوى العالمي والإقليمي وما يتولد عنه من مناطق نفوذ وهيمنة وسيطرة يفاقم حالة الانقسامات والصراعات العربية، فهذان العاملان هما اللذان يفسران فشل الجامعة العربية في تحقيق الحد الأدنى من قراراتها، وهما اللذان يفسران حالات الضعف والعجز وفشل التنمية والنهوض، ولكن في المقابل هناك تعارض بين حالة التجزئة وحالة الأمة الواحدة، وثمة تعارض بين المصلحة العربية العامة وحالة الانقسام والافتقار إلى التضامن والعمل المشترك. وهذان العاملان، عامل الأمة العربية الواحدة والمصالح العربية العليا، المترجمان من خلال رأي عام عربي ووعي شعبي في مصلحتهما، أوجبا إبقاء هذا الخط بالنسبة إلى التضامن وإصدار بيانات مشتركة أو إلى انعقاد القمم العربية وعدم التسليم بأن ترسم كل دولة سياساتها منعزلة عن الأخريات.
تقف أمام العمل العربي المشترك مهمتان أساسيتان لا تنفصلان، الأولى هي تصحيح المسار السياسي الداخلي لعدد من الدول العربية، والثانية هي البناء بصيغة التراكم أحيانًا، والوثبات النوعية في أحيان أخرى، نحو تحقيق المشروع العربي الوحدوي المنشود، فالعمل العربي المشترك في بنيته الرسمية والشعبية إذا ما أراد له صانعو القرار السياسي أن يرتقي إلى مستويات مختلفة، فإن عليه في الوقت الذي يلتزم برؤى وثوابت قومية أن يأخذ بالحسبان ما تجذر على الأرض من اعتبارات وطنية محلية، معمقًا ثقافة جديدة أن العمل القومي ليس تعارضًا مع الإخلاص والولاء للتراب والانتماء الوطني، إنما ترسيخ لهما، إذ أن أي صياغة عملية في اتجاه تعضيد العمل العربي المشترك ينبغي أن ينطلق من الاعتراف بالوضع القائم لا يتجاوزه، والعمل من خلاله على تحسين صورة المستقبل، وهذا الواقع يشير إلى أن الدول والنظم السياسية العربية باتت أمرًا واقعًا لا يمكن إلغاؤه أو التنكر له، فقد ترسخت بعض هذه الدول منذ ما يقارب القرن وأصبحت لها ركائزها الفكرية والثقافية.
إن خيار التضامن العربي والتكامل السياسي والاقتصادي والثقافي بين الدول العربية على قاعدة الالتزام بالثوابت القومية، هو وحده الطريق في ظل وضع دولي يتجه بقوة نحو صناعة تكتلات سياسية واقتصادية كبرى، وهو السبيل لمواجهة الأخطار المحدقة بالأمن العربي من كل مكان؛ كذلك فإن صياغة مشروعات المستقبل العربي وبضمنها العلاقات العربية ينبغي أن تركز على مختلف الأهداف التي تتمكن من تجاوز الأخطاء المتعاقبة والتشرذم، وأن تؤكد أهمية التلازم والتلاحم بينها، وتبني سياسات داخلية مختلفة ومتباينة بين الدول العربية، وتحدد أولويات استراتيجية تبدو متعارضة بينها؛ ومن هنا يمكن أن ندرك أسباب بقاء الجامعة العربية واستمرار انعقاد القمم العربية، وتبني كل دولة ولو لفظيًا سياسة التضامن والعمل العربي المشترك، في حين أن الغالب هو حال الانقسامات والصراعات العربية والاتجاه نحو تفرد كل دولة في رسم استراتيجيتها السياسية والاقتصادية والتعليمية والإعلامية وصولًا إلى تكريس هوية خاصة يراد لها أن تطغى على هوية الأمة العربية والإسلامية، بالرغم من أضرار ذلك عليها وعلى الوضع العربي العام، ولهذا ما نشهده اليوم في الوضع العربي ليس بالجديد أو الاستثنائي، وإن حمل خصوصيته قياسًا بالحالات التي مرت بها الأوضاع العربية من التوافق في بيانات القمم العربية أو مجالس الجامعة العربية جنبًا إلى جنب مع أشد الانقسامات والصراعات من قبلها وفي أثنائها ومن بعدها، وهذه الخصوصية يجب أن تقرأ باعتبارها ظاهرة عامة من جهة، ولكن لا بد من أن تفهم في إطار الظرف الراهن لكل دولة عربية وإقليميًا وعالميًا، وما يتسم به من موازين قوى، وما يطرأ عليه من متغيرات على تلك الموازين.
يواجه العالم العربي كثيراً من التحديات الداخلية والخارجية، التي لها تأثير واضح على الاستقرار الداخلي للدول العربية وعلى مؤسساتها المختلفة؛ وتنقسم التحديات إلى داخلية تتمثل في التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، اذ تُعَدُّ قضايا الإصلاح السياسي، واستكمال مسيرة للتحول نحو الحكم الرشيد، وحقوق الإنسان، ومواجهة التطرف والعنف الداخلي في عدد من البلدان العربية، من أبرز التحديات السياسية المطروحة بدرجةٍ أو بأخرى، ومن ثَمَّ يبدو الإصلاح السياسي المخرجَ الوحيد من الأزمة الممتدة والشاملة، بما يضمن التطور السلمي للمجتمع والدولة في أكثرية الدول العربية، بعد أن عاش عدد من المجتمعات العربية أكثر من نصف قرن في ظل أنظمةِ طوارئ عسكرية حرمتها من الحقوق والحريات، وأضعفت هياكل المشاركة، وعانى المجتمع السياسي من تشوّهات جوهرية وافتقار لآليات الحكم الرشيد المنظم والسلمي.
إن العالم العربي منطقة متنوّعة وتميّزت العقود الأخيرة بغياب شبه تام لخطابات التنوّع والتعدّدية في عدد من الدول العربية، لذا من غير المستغرب أن تكون المنطقة قد انفجرت بعد عقودٍ من إهمال الحوكمة الجيّدة والتنمية الاقتصادية، وفى هذا المنعطف من التاريخ، تعانى الأمة العربية، من حروب الطوائف والقبائل والإثنيات، وتشهد بلدان عربية عديدة، حروبًا أهلية، ولم تكن هذه الحروب، في معظمها مجرد صناعة خارجية، بل أسهمت عوامل داخلية، وعربية وإقليمية في تأجيجها، والمستفيد الوحيد من تلك الحروب، هي القوى التي تستهدف تفتيت العمل العربي وتمزيق المشتركات.
يتعيّن على العالم العربي أن يسلك مساراً مختلفاً إذا ما أراد تحقيق الاستقرار والازدهار وزيادة التعاون، كما ينبغي النظر إلى تنوّعه الثقافي والإثني والديني على أنه مصدر قوة لا مصدر ضعف، وعلى الحكومات العمل على تعزيز حسّ المواطنة الذي يقدّر قيمة التنوع، عوضاً عن الانتماء الفئوي الضيّق الذي يشدّد على تفوّق مجموعات معيّنة على أخرى.
إن العالم العربي يقف أمام خيارَين إمّا النهج التعدّدي والشامل للجميع والتعاون المشترك المبني على أسس ومفاهيم جديدة؛ أو الممارسات الوحشية والإقصائية التي يتبعها تنظيم الدولة الإسلامية، والتي أدّت إلى دمارٍ بشريّ وانهيارٍ قِيَمي. فالعالم العربي يستطيع، لا بل يتعيّن عليه، أن يخوض النضال من أجل إنهاء التطرف والبدء بمشروع عربي واعد.
ومن التحديات الخارجية الراهنة التي يواجهها التعاون العربي، التهديدات والتحديات السياسية الأمنية، وهي أبرز القضايا المطروحة حالياً على الساحة العربية، وتؤثِّر على العالم العربي في مجمُوعِهِ؛ كما أن هذا النوع من التحديات لا يمكن لدولةٍ بمفردها مواجهتها أو وضع حلولٍ لها، لأنها تستلزم تضافر جهود وإمكانات مجموعةٍ من الدول العربية أو كلها، لإيجاد سياسة مشتركة، بعيداً عن عوامل القطرية أو التفرّد الذي حظيت به المجموعة الأولى من التحديات. كما أن الحكومات العربية اتخذت موقفاً إيجابياً من الحملة الدولية على الإرهاب وشاركت بشكل أو بآخر مع الولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب، وَسَعَت في الوقت نفسه إلى إطلاق العديد من التصريحات التي تميّز بين الإرهاب والإسلام الحقيقي؛ ومن التحديات الخارجية التي تواجه الأمن القومي العربي، ما يتعلق بتأثير الولايات المتحدة وإسرائيل على الأمن القومي العربي، إذ ترفض إسرائيل الاعتراف بامتلاكها أسلحة دمار شامل، وتستند في هذا الرفض إلى التهرب من الالتزامات المترتبة على هذه الملكية.
أما على صعيد الصراعات العالمية الراهنة وتأثيرها على العالم العربي، فإن الحرب الروسية على أوكرانيا رغم بعدها جغرافيا عن المنطقة العربية، فإنها كشفت الأعطاب التي خلفها النظام السياسي العربي على مدى عقود بفعل عدم تحقيقه استقلالًا ذاتيًا في الأمن الغذائي كما هو الحال مع باقي المجالات التي تعد الدول العربية رهينة خيارات لا تسهم في صياغتها باستثناء عدد محدود من الدول العربية التي تعاطت مع الأزمة وكانت فرصة لها لإثبات قوتها الدبلوماسية والاقتصادية وتأتي المملكة العربية السعودية كأنموذج عربي استطاع أن يقدم إمكانيات عربية في أزمة دولية وهذا يؤشر القدرة العربية على العمل خارج الأطر العربية وبما يحقق الأهداف العربية في الاستقرار . بل يمكن القول بالنظر لعدة أسباب جيوسياسية واقتصادية وأمنية، وفي ظل المطالب الراهنة وطبيعة الأسس التي ترتكز عليها سياسات العمل العربي، يمكن للمملكة العربية السعودية تحقيق المتطلبات لهذا العمل بين الدول العربية والشروع بقيادة للتعاون العربي وتمثل تجربتها في مجلس التعاون لدول الخليج العربية الخطوة الأولى لهذا العمل وبشكل فعال بما يحمي مصالح الدول العربية وشعوبها في سياقات دولية مشتبكة، وبدون وجود هذه القيادة للعمل العربي سيظل العرب على هامش حركة التاريخ غير مؤثرين في صياغة ملامح تشكله، وسيكونون أول من تصيبهم ويلات الحروب والأزمات ولو كانت بعيدة عنهم جغرافيًا.
شهدت السنوات الأخيرة قيام العراق بخطوات نوعية مهمة ولافتة في علاقاته مع الدول العربية الإقليمية وهي كل من المملكة العربية السعودية ومصر و الأردن وذلك على مختلف الصعد الاقتصادية و الاستثمارية و الأمنية وتبادل الخبرات والتعاون، وبذلك انطوت هذه التطورات في العلاقات بين الدول الأربع على دلالات مهمة على الصعيد الاستراتيجي الاقتصادي والسياسي للمنطقة، ففضلاً عن أهمية هذا التطور في العلاقات بذاته بين العراق وهذه البلدان التي تتسم بأهمية استراتيجية، كونها تمثل إحياءً وإصلاحاً للعلاقات المتعثرة مع بعضها، فإنها تحدث الآن في ظروف اقتصادية وأمنية وسياسية وبيئية صعبة ومعقدة، وبما يمكننا من القول أن العراق هو أكثر من الآخرين بحاجة إلى التطور النوعي بهذه العلاقات، تطلعاً للمساهمة في إيجاد الحلول للمشكلات والأزمات التي يواجهها على مختلف الصعد.
إن تأرجح العلاقات العراقية-العربية ليس ناجمًا عن أخطاء ارتكبها طرف واحد، وإنما شارك فيها الجميع وبمستويات مختلفة من المسؤولية، وبعضها لم تكن مجرد أخطاء، بل كوارث حقيقية مدمرة اتخذت شكل قرارات ارتجالية كالابتعاد العراقي عن المنظومة العربية، لذا فإن أي استراتيجية مقترحة لتطوير هذه العلاقات تتطلب خطوات وإجراءات متقابلة تقوم بها جميع الأطراف للوصول إلى بر الأمان، ومنها:
أولًا- طي صفحة الماضي، إذ ليس مناسبًا إطلاقًا إبقاء السياسة الخارجية لصناع القرار العراقي مسكونة بهاجس أزمات الماضي وعقده التي عاشوها مع هذا الطرف أو ذاك، في هذه المرحلة التاريخية أو تلك؛ فعمل صناع القرار بهذه العقلية المأزومة لن يطور العلاقات مع الدول العربية ، بل سيكون عملهم أشبه بمن يقود مركبة واضعًا قدمًا على دواسة الوقود، فيما يضع الأخرى على مكابح الفرامل، إذ مهما ضغط على دواسة الوقود، ستبقيه قدمه الضاغطة على مكابح الفرامل مترنحًا في مكانه ومستهلكًا طاقته دون جدوى، ومكابح الفرامل التي تعيق بناء علاقات عراقية-عربية جيدة أيضًا هو الاستماع للأجندات الإقليمية، وتأثر السياسات الخارجية والوطنية المبالغ فيه بها.
إن العلاقات بين الدول تحددها بوصلة المصالح، وظروف الزمان، وتطورات الأحداث، وطبيعة المتغيرات الثابتة والمتغيرة، ولا تحكمها ذكريات الماضي، إذ أن في السياسة لا توجد خلافات دائمة، ولا صداقات دائمة، وإنما توجد مصالح دائمة، وهذه القاعدة ليست نتاج الوقت الحاضر، بل هي قاعدة قديمة جدًا فهمها وعمل بها صناع القرارات السياسية عبر التاريخ، وقد أدركتها بشكل صحيح وبعيد المدى عدد من الدول العربية، لذا استطاعت تحرير نفسها من بعض المصدات فتقدمت علاقاتها الخارجية بما يعود بالنفع الكبير عليها وعلى شعوبها، واليوم من المفيد ادراكها والعمل بها من قبل العراق وجيرانه العرب لبدء صفحة جديدة من العلاقات الجيدة المثمرة فيما بينهم.
ثانيًا-إصلاح الخطاب السياسي للعراق ومحيطه العربي من خلال مغادرة الخطاب الطائفي المتطرف، والقومي العنصري، بالتركيز على خطاب واقعي معتدل يحتضن المصالح العليا للدول ويحافظ عليها ويمنعها من الضياع، فقد أثبتت الأحداث التي سبقت سنة 2003م، أن الخطاب القومي لم يقرب الشعوب العربية إلى بعضها البعض، ولم يمهد السبل الصحيحة لتوحيدها أو على الأقل تنسيق المواقف فيما بينها وحماية مصالحها، بل على العكس مزقها، وأضعفها، وبدد ثرواتها، وفتح الباب على مصراعيه لتدخل الدول الإقليمية والكبرى في شؤونها. كما أثبتت الأحداث بعد هذا التاريخ أن الخطاب الطائفي المتطرف لا يقل ضررًا على الدول والشعوب العربية من الخطاب القومي الفاشي، إذ زاد-أيضًا-من إضعاف نسيجها الاجتماعي، وأغرقها في مشاعر الكراهية والنزاعات البدائية العنيفة، منتهكًا كل القوانين والمحرمات، وسالبًا جميع أو معظم الحقوق والحريات المحترمة، ناهيك عن زعزعته لبناء الدولة ومؤسساتها بمفهومها الحديث، وجعلها ضحية ما يسمى بالحروب والصراعات غير المتماثلة التي تقودها قوى اللا دولة والفوضى.
إن إدراك فداحة الكوارث والخسائر التي تسبب بها هكذا خطاب استفزازي مدمر للعلاقات العراقية-العربية أمر في غاية الأهمية لبناء المستقبل الأفضل منذ اليوم، لأن بقائه لا يساعد على مد جسور جديدة للعلاقات، بل ويقطع ما تبقى من جسور قائمة. وإصلاح هذا الخطاب يتطلب توجيهًا وسيطرة واعية على السياسات الخارجية، ووسائل الإعلام، وإدارة جيدة للتنوع الاجتماعي؛ لجعله مرتكزًا لإثراء الثقافة والقيم ومعايير السلوك لا قنابل موقوتة تنسف الدول والمجتمعات وتجعلها تعاني من الانقسام والفوضى وفساد الحكم. فضلًا على اتخاذ الخطوات الفعلية لتجريم خطاب العنف والكراهية سواء انطلق من دوافع طائفية وقومية أم غيرها من الدوافع ذات الأبعاد الدينية والإثنية والطبقية، ومنع أي شكل من أشكال الدعم والتمويل المغذية لهذا الخطاب ومحاسبة المحرضين والفاعلين فيه.
ثالثًا-ترسيخ قاعدة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول في العلاقة بين العراق ودول محيطه العربي، فمن الأمور التي لم يحسنها الجوار الإقليمي للعراق هو عدم احترامهم الكافي لهذه القاعدة؛ لأسباب كثيرة، بعضها مرتبط بعدم قدرتهم على حل المشاكل العالقة فيما بينهم وبين العراق أو الدول العربية بطرق مجدية تبقيها في حدود القانون والأعراف الدولية ومصالحهم المشتركة، وبعضها الآخر مرتبط بضعف كفاءة المفاوضين المكلفين بمعالجة هذه المشاكل أو خضوعهم لرؤى ضيقة الأفق يحاولون فرض أجنداتهم الخارجية بالقوة على محيطهم، ناهيك عن دور بعض القوى الدولية في صب الزيت على هذه المشاكل؛ لجعلها تتخذ مسارات خطيرة وخيمة العواقب تحقق مصالحها وأجنداتها في المنطقة.
إن تصحيح هذا الخلل الكبير يكمن من خلال تعاون عراقي ـ عربي للتأكيد على احترام سيادة ووحدة العراق، وعدم التدخل في شؤونه الداخلية، وهذا سيكون خطوة كبيرة ومهمة جدًا لإنجاح أي استراتيجية لتطوير العمل العربي المشترك ومن خلاله يكون العراق فاعلًا ، مع الحرص على إبعاد أهواء الأجندات الخارجية غير الحكيمة وطموحاتها السياسية عن التأثير على مسار هذه العلاقات، والحرص أيضًا على اختيار أجندات عراقية لتسوية الملفات الشائكة، وتحييد الدور السلبي للقوى الإقليمية والدولية وإبعادها عن التأثير على جدول الأعمال العراقي-العربي بكل السبل الممكنة.
رابعًا- تفعيل دور وزارة الخارجية العراقية ومنع مراكز القوى الداخلية من التأثير في العلاقات العراقية-العربية، إذ من الأمور المتعارف عليها أن السياسة الخارجية تصنع وتنفذ من قبل وزارة الخارجية في كل دولة، نعم قوة وزارة الخارجية تكمن في قوة البيئة الداخلية الداعمة لها، ولكن فتح آفاق العلاقات والفرص وتحديد المواقف وحماية مصالح الدولة القائمة أو المتوقعة، وتحقيق أهدافها المرغوبة هو من اختصاص وزارة الخارجية حصرًا، بل حتى عند الوصول إلى طرق مسدودة مع المحيط الخارجي والذهاب إلى أدوات غير دبلوماسية للتعامل معه ينبغي أن يتم بموافقة هذه الوزارة وعلمها، لذا فإن تدخل مراكز قوى داخلية لا تؤمن بالمنظومة والتعاون العربي المشترك وبدور هذه الوزارة أو التأثير عليه بطريقة ما يضعف عملها وثقة الدول العربية الراغبة بدعم العراق كبلد عربي وبدوره الفاعل، كما يربك السياسة الخارجية للدولة بشكل كبير، وهذا ما شهدناه، لاسيما في عراق ما بعد عام 2003م.
إن التعاون العربي المشترك رغم أنه يواجه تحديات مصيرية لكن هناك قدرة لتحويل هذه التحديات إلى محفزات لعودة العمل العربي بنمط مختلف عن تلك المسارات التي شهدتها سابقًا، فالقيام بعملية إصلاح لجامعة الدول العربية وميثاقها ونظامها الداخلي فضلًا عن صياغة بروتوكولات للعمل المشترك في المجال الاقتصادي بقيام السوق العربية المشتركة، والمجال الأمني بصياغة اتفاقية دفاع مشترك، وفتح مسارات تعاون في مجالات الطاقة والأمن الغذائي ومواجهة التغيرات المناخية، كذلك فإن نشوء مساحات تعاون عربي جديدة بين العراق ومصر والأردن تمثل خطوة نحو استعادة العمل العربي بشكل جديد يمكن من خلاله استقطاب دول عربية أخرى، كذلك فإن مجلس التعاون لدول الخليج العربية مثل أنموذجًا نشطًا لتحالف عربي رصين استطاع أن يوحد السياسيات وبما يخدم شعوب هذه الدول ، فضلًا عن أن الدور المتصاعد للمملكة العربية السعودية في المنطقة ونجاحها في استقطاب دول كالعراق ومصر والأردن، وهذا ما ظهر في القمة العربية – الصينية، يمثل نسق جديد لهذا التعاون والذي يمكن البناء عليه.