حرية – (15/5/2023)
اشترك في قناة حرية الاخبارية على التيليكًرام ليصلك كل جديد
مظهر محمد صالح
1- قضيت جواً اكاديميا محتدماً بالافكار والرؤى ذلك في خضم ندوة اقامتها جمعية علم النفس الاجتماعي مع جمعية الامل، كان مناخها العام تنازع مدرستي علم الاجتماع وعلم النفس بشان موضوع تناوله اثنان من كبار الشخصيات الاكاديمية العراقية كي يجيبا عن تساؤل جوهري : (هل تختار المرأة قيودها ؟) انها مناظرة فكرية جادة بين الرؤية الجندرية والرؤية السيكولوجية.الا ان النقطة المعرفية التي اثارت شجوني هي تناول مفهوم “الهابيتوتس habitus “، كمحاولة جادة للقطع والمجاوزة النظرية للثنائية الكلاسيكية في علم الاجتماع القائمةً على (حرية-حتمية) والتي طالما تجاذبت على أرضها التيارات والنظريات السوسيولوجية الكلاسيكة، القائلة إما حرية الفرد في المجتمع وفاعليته أو بحتمية البنيات الاجتماعية والاقتصادية و الثقافـية و قهريتها او سلطويتها authority الراسخة .
كان عالم الاجتماع الفرنسي ( Pierre Bourdieu بيير بورديو 1930-2002) وفكرة ” الهابيتوس “هما احد اهم محاور الحديث في التعبير عن مجموع الاستعدادات التي يكتسبها الفرد عبر تجاربه الشخصية، لتتحول مع مرور الوقت إلى بنيات ناظمة للسلوك ومنتظمة في الوقت نفسه: أي إلى مبدأ مولدا للفعل ونتاجاً له. واتضح لي ان بورديو قد طور نظريته عن الهابيتوتس أثناء استعارته أفكارًا حول المخططات المعرفية والتوليدية والتي تقوم على مفهومي التاريخ والذاكرة البشرية.
وهنا استوقفني “بيير بورديو” فعلا عبر بحثه لمفهوم “الهابيتوتس” ومجاوزة الثنائية الكلاسيكية (حرية-حتمية) المفسرة للفعل الاجتماعي ومن ثم التخلص من شبح السوسيولوجيا الكلاسيكية.حيث تم استخدام مفهوم الهابيتوتس في وقت مبكر من جانب أرسطو ،ولكن في الاستخدام المعاصر تم تقديمه من قبل مارسيل موس ولاحقًا موريس ميرلو بونتي.
ومع ذلك ، فقد كان بيير بورديو هو الذي حوّلها إلى حجر الزاوية في علم الاجتماع الخاص به ، واستخدمها لمعالجة المشكلة الاجتماعية للوكالة agency والبنية structure : اذ تتشكل الهابيتوتس من خلال الموقف الهيكلي وتولد الفعل ، ومن ثم عندما يتصرف الناس ويظهرون (كوكلاء) فإنهم يعكسون في الوقت نفسه اعادة إنتاج البنية الاجتماعية. وهنا طور بورديو نظريته عن الهابيتوتس للتخلص من الازدواجية الثنائية الكلاسيكية في علم الاجتماع ( حرية-حتمية) أثناء استعارته أفكارًا حول المخططات المعرفية والتوليدية كما ذكرنا في اعلاه من اعتماد نعوم تشومسكي وجان بياجيه Noam Chomsky and Jean Piaget على مفهومي التاريخ والذاكرة البشرية. فعلى سبيل المثال ، قد يصبح سلوك أو معتقد معين جزءًا من هيكل المجتمع عندما لا يعود من الممكن تذكر الغرض الأصلي من هذا السلوك أو المعتقد ويصبح اجتماعيًا لأفراد تلك الثقافة.
2-في خضم اشتداد الجدل الفكري للمحاضرين الاكاديميين الكبيرين الدكتورة اسماء جميل رشيد والدكتور لؤي خزعل والادارة الفكرية الفذة للدكتور علاء حميد ادريس ، اشتدت في مهابط عقلي ومرتفعاته سراً فكرة ( الهابيتوتس) في علم الاجتماع لكي اسقطها على مفردة (الخصومة الاجتماعية social rivalry ) عبر الحتميات التاريخية للمجتمع المشرقي.
فالهابيتوتس هي اشتقاق من مفردة العادة او العادات الاجتماعية habits و هي الطريقة التي يدرك بها الناس ويستجيبون للعالم الاجتماعي الذي يعيشون فيه ، عن طريق عاداتهم الشخصية ومهاراتهم وميولهم. اذ يشترك الأشخاص الذين لديهم خلفية ثقافية مشتركة (الطبقة الاجتماعية ، والدين ، والجنس ، والمجموعة العرقية ، والتعليم ، والمهنة) في تشكيل العادة مثل الطريقة التي تشكلت بها ثقافة المجموعة والتاريخ الشخصي (جسد وعقل الشخص ) نتيجة لذلك ، وهنا لابد من ان تؤثر عادات الشخص في التصرفات الاجتماعية للشخص نفسه وطريقة تشكلها. وهكذا ، فإن هذه العادة تُنظم من قبل الطبقة الاجتماعية للشخص ، ولكنها تعطي أيضًا هيكلًا للمسارات المستقبلية المتاحة للفرد نفسه .لذا يتحقق إعادة إنتاج الهياكل الاجتماعية مجددا من موطن الأفراد الذين يؤلفون البنية الاجتماعية المحددة بما يسمح بقدر من التغيير في حتمية البنيات الاجتماعية الموروثة والتخلص من شبحها بكونها سوسيولوجيا كلاسيكية كما نوهنا آنفاً حتى يكتمل تعريف الهابيتوتس في تطور الهياكل الاجتماعية ذاتها .
3- يحتدم الجدل في مجتمعاتنا المشرقية حول تحليل سوسيولوجيا الخصام في خضم الازدواجية الكلاسيكية الاجتماعية، اذ يراها المفكر الدكتور عقيل الخزعلي كمسالة ربما مازالت تتراوح بين فكي ثنائية(الحرية- الحتمية ) بالقول:
“ لا يخلو الاخر من حقٍ عليك؛ حق القرابة، حق المصاهرة، حق الصداقة، حق الجوار، حق العمل، حق المهنة، حق المصاحبة، حق الطعام، حق الفضل، حق المسؤولية، حق التكامل، حق الهدف، حق المصير، حق الوطن، حق الانسانية، حق الوجود….>
لذلك من حقك ان تُخاصم ولكن ليس من حقك ان “تَفجُر في الخصومة”).
وعند النظر الى فكرة الهابيتوس في تحليل (تفجر الخصومة )في مجتمعاتنا المشرقية فيمكنني القول :انها مازالت تتركز في اطار من الحتمية الكلاسيكية والبنيات التاريخية ذات الايديولوجيات و برمزيات طلاسمية موروثة ضعيفة في مروناتها مرتفعة في درجات تصلبها . فتفجير الخصومات وقطع حبال التواصل هي عادة شديدة التسلط الابوي Paternalism في مجتمعاتنا المشرقية … فتجدهم يقلبون الطاولة وينقلب حبهم الى كراهية بمجرد حصول اختلاف بوجه النظر ويتصورون انه تمرد على منظومة القيم المجتمعية … انها نزعة من نزعات (الحتمية – السلطوية) في بنيانات الشخصية الشرقية …فهو اما يستعبدك كما يعتقد وتطيعه بكل شي او ينقلب الى عدو في تصلب اديولوجي لا ينفك من تشدده ذلك بمجرد الاختلاف مع حتمياته حتى في صغائر الامور وقليلها .
4- ختاماً ، سيظل الجو المجتمعي العام يفرض علينا حالات من الصمت العميق( المنحوت في مصانع الاغتراب alienation )للتخلص من عنف الانقلابات الشخصية وعداواتها حتى نتلمس محيط اجتماعي مشرقي تفسره ظاهرة (الهابيتوتس habitus) بالتحول من (تفجر الخصومة )الى قبول الراي الاخر في هيكل اجتماعي تاريخي معرفي مختلف.