حرية – (4/6/2023)
اشترك في قناة حرية الاخبارية على التيليكًرام ليصلك كل جديد
يعرف العالم اليوم تحولاً بصرياً مذهلاً، إذ لم تستطع المؤسسات الموسيقية والغنائية في العالم العربي مواكبته والعمل على بلورته داخل المجال التداولي، فيصطدم المرء بعشرات التجارب البصرية التي تحول أشياء واقعية إلى خيالية تجعلنا نطرح أسئلة حقيقية عن العالم الذي نعيش فيه اليوم.
وأثارت برامج الذكاء الاصطناعي موجة هلع كبير، بعدما غزت برامجها بعض المؤسسات التي بدأت تفكر في تقليص الموظفين وتعويضهم بالروبوتات لأنها في نظرها أقل كلفة من البشر، ناهيك عن كونها تستطيع القيام بما لا يستطيع الإنسان فعله، بخاصة داخل الشركات الكبرى التي تتطلب عدداً كبيراً من الناس للقيام بمهمة واحدة، لهذا بدأت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بتحسين أداء المؤسسات وإنتاجها بما يجعلها تتميز أداء عن مؤسسات أخرى.
برامج موسيقية لا تفكر
لكن بمجرد ما بدأت تظهر هنا وهناك برامج آلية جاهزة تعمل على إنتاج أنماط موسيقية وتأليف ألحان غنائية تضاهي أصوات الفنانين العالميين الأحياء منهم والأموات، حتى بدأ الجدل يقتحم المشهد العالمي حول مصير الصناعة الموسيقية على رغم أن هذا الجدل لم يأخذ صبغة جدية في العالم العربي ولم ينتج أي خطاب فكري – احتجاجي قادر على مساءلة هذه التكنولوجيات ودورها من عدمه في تنمية الصناعتين الموسيقية والغنائية.
والحقيقة أن الأمر لا يتعلق هنا بأداة تكنولوجية ستسهم في تنمية التجربة الفنية، بل لا تعدو كونها مجرد تحنيط وتنميط لقدرات الإبداع البشري وتعويضه بأصوات إلكترونية، وبغض النظر عن النقد اللاذع الذي وجّه إلى خوارزميات الذكاء الاصطناعي، فإن كثيرين من الفنانين قبلوا بالتلاعب بأصواتهم طالما أن هناك عائدات مادية وراء ذلك.
تقول الكاتبة المتخصصة في الاتصال عبير خالد “أكثر من 14 مليون أغنية أنتجت عن طريق الذكاء الاصطناعي من دون توظيف كاتب لكلماتها، أو ملحن، أو موزع أو منتج وحتى من دون شراء حقوق ملكيتها. بفضل هذه التقنية يمكن اختيار أي أغنية، أي لحن، أي مطرب، ويصنع لك الذكاء الاصطناعي أغنيتك في دقائق، فمثلاً تستطيع سماع أغنية ’حب إيه‘ لأم كلثوم بصوت مايكل جاكسون، أو يمكنك سماع أغنية ’الأماكن‘ لمحمد عبده بصوت أديل البريطانية أو ريانا الأميركية، كل ذلك من دون تصريح أو إذن”.
وفي وقت يحمي عشرات الفنانين أغانيهم من خلال ضبط الأمور القانونية ضد الذكاء الاصطناعي، ترتمي فيه أصوات واعدة صوب شركات برامج الذكاء الاصطناعي من أجل خلق شهرة مصطنعة لها ولأعمالها، وهذا الأمر عايناه قبل أسابيع قليلة مع المغنية الكندية غرايمز بعدما قبلت باستخدام صوتها في أغنيات خاصة ببرامج الذكاء الاصطناعي واتفقت مع الشركة للحصول على نصف عائدات الأغنية، وعلى رغم أن عملية الـ “توليد” ربما تصبح في حد ذاتها إبداعاً يوازي في تشكلاته الفنية قدرات صوت الفنان.
فتنة الصورة
هكذا أصبحت هناك مجموعة من البرامج الخاصة بتحويل النصوص إلى أغان، تتحكم فيها برامج مثل “أوديور” و”جارفيس” و”تشات جي بي تي” حتى برزت أخرى ذات علاقة بالصورة السينمائية والتلفزيونية والفوتوغرافية، إذ فازت صورة فوتوغرافية للفنان الألماني بوريس إلدغسن بجائزة Sony العالمية للتصوير الفوتوغرافي، على رغم أن الفنان لم يقبل المكافأة المادية الممنوحة له، بيد أن الذكاء الاصطناعي سيقتحم مجال صناعة الصور، فهو يشتغل في السينما والدراما باعتباره مولداً جمالياً يبدع صوراً ويدفع الصورة إلى البحث عن أزمنة أخرى داخل سلّم اللقطات، ولا يستطيع المخرج والمصور إبداع هذا الأمر لأنه يتجاوز قدرات الجسد البشري صوب أمور لها علاقة أساساً بالتقنية .
تقول الباحثة المصرية ولاء محمد محمود “ينبغي على صانعي الأفلام البحث عن طرق لدمج تقنيات مثل التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي، ويعد التسارع الدراماتيكي في تطور تجارب الذكاء الاصطناعي وإمكاناته بثورة حقيقية في السينما والتلفزيون من شأنها أن تغير وجه صناعة الترفيه في العالم، لا سيما أن تلك التجارب اليوم تشمل قيام الذكاء الاصطناعي بكتابة النصوص الدرامية للأفلام وإسناد عدد كبير من المهمات البشرية في مرحلة الإنتاج إلى أجهزة الكمبيوتر والروبوتات، بما فيها محاكاة مظهر الممثلين وسلوكهم وصوتهم، فضلاً عن تمكين شركات الإنتاج من فهم جمهور أفلامهم والقدرة على استقطابهم بشكل أكثر فاعلية وتمكين الجمهور نفسه من التحكم بشكل المادة الترفيهية بين يديه وفقاً لمزاجه، وصولاً إلى قدرته على تغيير مسارات الحكايات في الأفلام”.
المغني الأسترالي نيك كاف وصف الذكاء الاصطناعي بالمهزلة
وقبل أسابيع قليلة صدم المغني الأسترالي نيك كاف بعدما حاكت برامج الذكاء الاصطناعي صوته وموسيقاه في توليفة فنية اعتبرها “مهزلة” لأنها تسخر من مجهوده على مستويي الصوت والتأليف، فتساءل “كيف يمكن لآلة لا تفكر ومن دون مشاعر ودموع أن تنجز مقطوعة موسيقية أو نصاً شعرياً. يعتقد بعضهم بأنه سيغير مستقبل الموسيقى في العالم ككل، والحال أن عدداً من الفنانين في العالم ممن لا صوت ولا مشروع موسيقياً لهم وجدوا في الذكاء الاصطناعي فرصة لإظهار نجوميتهم المصطنعة، وذلك من خلال العمل وفق هذه البرامج وتشجيعها على أساس أنها ما ينبغي أن تكون عليه الموسيقى في الأعوام المقبلة”.
جدل الموسيقى الإلكترونية
والحقيقة أن هذا الجدل حول علاقة الذكاء الاصطناعي بالإبداع البشري أعادنا مباشرة إلى اللحظات الأولى التي تعرفنا فيها إلى الموسيقى الإلكترونية والجدل الذي أحدثه هذا الاكتشاف، إذ على رغم ما عرفته من معارضة ونقد، فإن الموسيقى الإلكترونية أصبحت مجالاً تؤسس عليه الموسيقى المعاصرة وظهرت تجارب عدة في هذا الصدد مزجت بين فتنة الآلة وأصالة الصوت وأنتجت تجارب موسيقية مميزة لا يقوى المرء على نسيانها، وظلت فرق أخرى ملتصقة بالموسيقى الإلكترونية، منطلقاً وصوتاً وتوليفاً وتفكيراً، وعلى رغم أنها تحق نجاحاً كاسحاً، فإنها غير قادرة على استحداث أي جديد يعوّل عليه موسيقياً.
ويتغير العالم اليوم بظهور هذه الأجهزة الموسيقية والبرامج الغنائية لأنها تدخل في سجال مع قدرات العقل البشري الذي صنع الآلة، لهذا من الممكن الاعتماد على خوارزميات الذكاء الاصطناعي على مستوى الكليبات، أما الغناء، فيبدو ذلك مستحيلاً ما دام أن هذا الشكل التعبيري يعتمد على الصوت وحده وعلى مقدرة فنية استطاع فيها البشر عبر قرون خلت التعبير عن ذواتهم من خلال فن الغناء.