حرية – (14/6/2023)
اشترك في قناة حرية الاخبارية على التيليكًرام ليصلك كل جديد
من سنن الحياة أن تتعارف الأرواح وتأتلف، ومن مشيئة القدر أن يتلاقى العاشقون من دون تاريخ أو موعد مسبق على رغم الحدود والجغرافيا والهويات.
فبين جدران قصر “الكونتيسة” بمدينة بجاية شرق الجزائر، ولدت حكاية رومانسية جمعت بين أحد العسكريين الفرنسيين بالجزائر وفتاة جميلة من المدينة الساحلية الساحرة، حيث ظلت القصص والروايات تحوم حول المعلم الكائن بالمدخل الغربي لبلدية أوقاس بولاية بجاية، أحد المعالم التاريخية التي تزخر بها عاصمة الحماديين.
عربون محبة
تقف وراء قصر “الكونتيسة” أو الأميرة كما يحلو لكثيرين تسميته، قصة أسطورية تعود إلى الحقبة الاستعمارية في الجزائر، حين تم بناؤه عام 1890 عن طريق جنرال في الجيش الفرنسي يدعى بوازي، الذي قدمه إلى زوجته كعربون محبة واستغرق تشييده 20 عاماً.
تذكر مراجع تاريخية أن الزوجة المولودة في بجاية رفضت تسمية هذا القصر باسمها خوفاً من رد فعل عائلة زوجها إزاء القرار، الأمر الذي دفعه إلى تسمية هذه التحفة الفنية المعمارية بقصر “الكونتيسة”.
حافظ القصر على وجوده على رغم تعاقب السنين، وبعد وفاة الجنرال بوازي، استولى أحد أثرياء فرنسا في تلك الفترة على القصر، كون زوجة الجنرال المتوفى لم تكن تحوز وثيقة تثبت ملكيتها له، وبعد استقلال الجزائر تحول إلى مسكن عائلي قبل أن يتم إخلاؤه واسترجاعه من طرف مصالح بلدية أوقاس عام 1986، ليتم بعد ذلك منحه لأحد الخواص الذي حوله إلى ملهى ليلي لسنوات طويلة قبل أن يتقرر غلقه بعد وقوع جريمة قتل خلال إحدى السهرات الليلية التي أقيمت بالملهى، كما كانت هناك محاولات عديدة للاستيلاء على هذا القصر، منها بطريق القنوات القانونية من خلال مقترحات تحويله إلى فندق أو عيادة طبية.
الأشباح تهرب
لم تكن حال الخوف التي مرت بها مدينة بجاية بسبب حرب التحرير حاجزاً يحول دون تعبير العاشقين عما يختلج في صدورهما، وتقاطعت قصة الحب التي كانت مدينة بجاية مسرحاً لها في تفاصيل عدة مع رواية “الحب في زمن الكوليرا” للكاتب الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز، مما دفع السلطات إلى الاهتمام بهذا الصرح الذي يحكي فصول قصة رومانسية حدثت في زمن كان يحتاج إلى جرعة أمل.
تقف وراء القصر قصة أسطورية تعود إلى الحقبة الاستعمارية في البلاد
لسنوات عديدة ظل القصر مهملاً من قبل السلطات المحلية، بعد أن أصبح مرتعاً للمنحرفين وشارفت جدرانه على التآكل، وانتشرت حوله إشاعات تفيد وجود أشباح بداخله، قبل أن تهتدي السلطات إلى تحويله داراً للشباب الراغب في قضاء العطلة في أجواء من الراحة وسط مناظر طبيعية خلابة، إذ تم ترميمه بالمواد نفسها التي استعملت في بنائه، ومن بينها مادة “الأردواز” التي أنجز بها سقف القصر، كما تم إنشاء قاعة للمحاضرات تتسع لـ200 شخص، إضافة إلى مكتبة وناد للإنترنت ومقهى وقاعة للرياضة ومطعم ومسكن وظيفي ومساحات خضراء، كما تحول الطابق الذي يوجد تحت الأرض إلى متحف.
ليس قصر “الكونتيسة” وحده الذي نال حظاً وافراً من اهتمام السلطات التي عمدت خلال العشرية الفارطة إلى حماية معالم أثرية عدة من محاولات التخريب والتشويه، من ضمنها حماية المدينة الأثرية “تابلاست” التي تعود إلى بداية الوجود الروماني في شمال أفريقيا، وغيرها من الآثار.
سحر ومقاومة
تملك مدينة بجاية رصيداً تاريخياً مشعاً، إذ ظل اسمها خالداً في تاريخ المغرب العربي، ولا تكاد تجد حقبة مهمة في تاريخ المغرب العربي الكبير إلا وتشكل بجاية محور أحداثها، إذ احتضنت الفينيقيين والرومان والوندال والبيزنطيين خلال عصور ضاربة في أعماق الماضي، كما أن العثمانيين وطئوا الجزائر من بوابة بجاية، وفي عهد الاستعمار الفرنسي قاومت هذه المدينة الساحلية الجميلة، واستعصت كثيراً على الغزاة الفرنسيين الذين لم يتمكنوا من احتلالها عام 1934 إلا بعد أن استخدموا آخر ما أنتجته مصانعهم من أسلحة الدمار.
وفي مرحلة ما قبل الاستقلال كان لبجاية دورها في الإعداد والتخطيط للثورة المنظمة التي تفجرت في الفاتح من نوفمبر (تشرين الثاني) 1956، فالمؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني الذي عرف بـ”مؤتمر الصومام” عقد في مكان غير بعيد من بجاية، بقرية إيفري التابعة لبلدية أوزلاقن.
حافظ القصر على وجوده وجماله ومكانته رغم تعاقب السنين
تشتهر ولاية بجاية الساحلية بقصورها الرائعة كـ”اللؤلؤة” و”الكوكب” و”أميمون”. ووصف كتاب “الاستبصار في عجائب الأمصار”، لمؤلفه كاتب مراكشي قصورها قائلاً “في بجاية موضع يعرف باللؤلؤة، وهو أنف من الجبل قد خرج في البحر متصل بالمدينة، فيه قصور من بناء ملوك صنهاجة لم ير الراؤون أحسن منها بناءً ولا أنزه موضعاً. والمجالس المقرصة المبنية حيطانها بالرخام الأبيض من أعلاها إلى أسفلها قد نقشت أحسن نقش وأنزلت بالذهب واللازورد. فجاءت من أحسن القصور وأتمها”.
تعرف المسلمون إلى المدينة التاريخية غداة تحويلها إلى عاصمة للدولة الحمادية، إحدى كبريات الدول الإسلامية المؤثرة التي سادت الشمال الأفريقي فترة من الزمن، إذ تمتعت بجاية في ظل الحماديين بسمعة وشهرة واسعة استمدتها من معاهدها الثقافية المتعددة، وتجارتها الرائجة على الشاطئ الأفريقي، كما اشتهرت بعد ذلك بقوتها البحرية التي دافعت بها عن شواطئ المغرب العربي، فأسهمت من ثم في الحفاظ على الحضارة والهوية العربية الإسلامية للمنطقة، وهو ما تشير إليه مراجع تاريخية عدة.
خطوات ابن خلدون
كان لفترة الازدهار الفكري الذي شهدته المدينة الأثر البالغ في أن تصبح قبلة العلماء وطالبي المعرفة، حين سحرت مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون في سن الـ20 من عمره، وأقام خلال فترتين من حياته بالعاصمة التاريخية للحماديين، حيث مكث ثلاث سنوات ما بين 1352 و1354، ليعود إليها لمدة 11 سنة بعد بين عامي 1365 و1366. وشهد حي القصبة العتيق الذي بناه الموحدون في القرن الـ12 الميلادي ميلاد مؤلفه النفيس حول البربر والإسلام، وفيه تناول ابن خلدون بإسهاب صفات الشخصية البربرية.