حرية – (25/7/2023)
اشترك في قناة حرية الاخبارية على التيليكًرام ليصلك كل جديد
لم تكن باربي كغيرها من الدمى في صندوق الألعاب. عندما طُرحت في الأسواق بشكلها المثير للجدل الشبيه بالبالغين- بشفتيها الورديتين وخصرها النحيل وصدرها الكبير- في عام 1959، أحدثت ثورة في عالم اللعب. حتى ذلك الوقت، كانت “الدمى” مقتصرة على “دمى الأطفال” التي لا يمكن تخيّل اللعب فيها سوى بشكل واحد: يمكن للفتاة الصغيرة أن تتخيل أنها تلعب دور الأم أو الشقيقة المعطاء – أي دور الرعاية فعلياً- وهو ما يُتوقع منها.
لكن باربرا ميليسنت روبرتس، أو “باربي”، كانت مختلفة. إذ فتحت المجال أمام الفتاة بأن تتخيل هيئتها كامرأة في المستقبل، وتحلم بالوظيفة التي ستعمل بها أو بالثياب التي سوف ترتديها. فيما طرحت دمى الأطفال تصوّراً واحداً عن المستقبل، كانت دمية باربي مثالاً على المستقبل بكافة أشكاله واحتمالاته. كما أن ملامحها الجسدية – بياضها وشعرها الأشقر ونحافتها- جعلتها ورقة بيضاء [من دون أدوار مسبقة]. وهذا ما قصدته أم دمية باربي.
إذ قالت روث هاندلر، السيدة التي اخترعت دمية باربي “كانت الفكرة برمّتها تمكين الفتاة الصغيرة من أن تحلم بأنها (وتتخيل نفسها) كبيرة، وكل البالغات اللواتي تراهن لديهن أثداء”. اضطرت هاندلر، التي توفيت في عام 2002، أن تحارب المدراء التنفيذيين الرجال المتزمتين في شركة ماتيل للألعاب لكي تنتزع كل ميلّيمتر من التضاريس [لرسم أرداف وصدر اللعبة].
وشاءت الصدف أن يتحول الثدي إلى موضوع محوري في حياة هاندلر المهنية المضطربة. فقد أصبح ثدياها مصدر قلق بالنسبة إليها خلال سبعينيات القرن الماضي، فيما أصبحت مقاييس جسم باربي المستحيلة من نسبة محيط الصدر إلى الخصر والأرداف محط هجوم شديد من النسويات اللواتي وجهن سهام النقد إلى الدمية. أُرغمت هاندلر على مغادرة شركة ماتيل في ذلك العقد. بحلول عام 1978، أدينت باتهامات تآمر فيدرالية في الولايات المتحدة.
وفي هذه الفترة، كانت هاندلر تخضع للعلاج في السرّ بعد إصابتها بسرطان الثدي، وقد استؤصل ثديها. وعندما لم تعثر على [حشوة] ثدي اصطناعي يناسبها، أسّست شركتها الخاصة لصناعة هذه الأطراف، وغيّرت الشكل الأنثوي للمرة الثانية. قالت هاندلر على محطة تلفزيونية أميركية في عام 1994 بنبرة واقعية [من دون أن تكشف أي مشاعر] ” كانت الأثداء محور حياتي”. قد لا يكون اسمها شائعاً أو متداولاً ولكن توقيع هاندلر من الأمور التي يبحث عنها أشد المعجبين بدمية باربي دائماً على موقع إي باي. وبفضل فيلم باربي الجديد واللامع الذي يُطرح في دور العرض هذا الأسبوع، عاد إرث الدمية ومخترعتها إلى الواجهة مجدداً.
وُلدت روث موسكو عام 1916 في دنفر كولورادو لأبوين مهاجريَن من يهود بولندا. كانت أصغر إخوانها وأخواتها العشرة، وعندما بلغت التاسعة عشر من عمرها، قصدت لوس أنجليس لقضاء عطلة فيها ولم تعد بعدها إلى المنزل. وخلافاً لأعراف ثلاثينيات القرن الماضي، تواصلت هاندلر مع حبيبها من أيام الثانوية في كولورادو- طالب الفن إليوت هاندلر- وطلبت منه الالتحاق بها في هوليوود. تزوج الثنائي في عام 1938 ورُزقا بطفلين: ابنة أسمياها باربرا،وابن لن يخفاكم [أيها القراء] اسمه على الأرجح.
عندما انضم إليوت إلى هاندلر في كاليفورنيا، بدأ الزوجان بالعمل في مجال صناعة المفروشات. كان إليوت يعنى بتصميم القطع وصناعتها فيما تعمل هاندلر على تسويقها. بعدها، تحوّلت المؤسسة إلى شركة ماتيل للألعاب بفضل إليوت الذي طوّر شركة صناعة المفروشات الناجحة أساساً وأضاف إليها شركة لصناعة أطر الصور وشركة لصناعة ألعاب البيانو وآلة اليوكوليلي، كما بدأ أيضاً بإنتاج مفروشات لمنازل الدمى. لكن فكرة هاندلر اللامعة هي التي منحت ماتيل نجاحها الساحق الأول.
البلاستيك البديع: مارغو روبي وراين غوسلينغ بدور باربي وكين في فيلم “باربي”
صحيح أن لقصة اختراع دمية باربي عدة نسخ متداولة، لكن بعض العناصر تتكرر في كل هذه الروايات. وأكثرها إثارة للسخرية هو أن روثي الصغيرة كانت تكره اللعب بدمى الأطفال في طفولتها؛ وحتى ابنتها لم تبال بهذه الألعاب، بل فضّلت عليها اللعب بدمى ورقية كانت على شكل المراهقات والبالغات ويمكن تغيير ثيابهن- التي تُركّب [تصنع] باستخدام الورق- بسهولة. هذا أول عنصر.
أما ثاني خطوة أساسية في طريق اختراع إحدى أشهر الدمى في العالم فكانت زيارة عائلية إلى أوروبا. اصطحبت روث وإليوت الطفلين إلى جبال الألب، حيث شاهدت روث وباربرا دمية بيلد ليلي الألمانية في المتاجر. كانت شأن باربي، دمية تبدو كالبالغين تُباع بعدة أشكال. لكن المزعج هو أنّ ثياب ليلي لا تُباع بشكل منفصل عن الدمية نفسها. إن أردت ثياب التزلج الجديدة مثلاً، عليك أن تبتاع دمية جديدة كاملة.
الأهم، هو أن نجاح دمية باربي كان يحتاج إلى شخصية مثل هاندلر. كانت أماً عاملة في زمنٍ لازمت معظم الأمهات فيه بيوتهنّ. وكانت مؤسِسة شركة مستعدة لمواجهة أعضاء مجلس الإدارة الآخرين من الرجال، كما الذكور أصحاب متاجر الألعاب الذين لم يقتنعوا بأنه يجب تسويق دمية على شكل امرأة بالغة للأطفال في المقام الأول. وشرحت هاندلر الموضوع للمجلة النسائية اليهودية ليليث فقالت “معظم المشترين (لمصلحة المتاجر) كانوا رجالاً، ولم يعتقدوا أن النساء سيرغبن في أن تمتلك بناتهن دمية بثديين! وهم أنفسهم لم يرغبوا بأن تمتلك بناتهن دمية كهذه!”. لكن عندما رأت الأمهات دمية باربي في المحلات، تبيّن أنها كانت محقة. “فور قيامنا بشحن الدمية، طارت عن الأرفف”. بدأت هاندلر تقود سيارة فورد ثندربيرد زهرية اللون في حيّها.
طُرح صديق باربي الحميم، كين، الذي سُميّ تيمناً بابن الزوجين هاندلر، في السوق في 1961، وتبعته شقيقة باربي الصغرى، سكيبر في 1964. ثم ظهرت باربي في ثياب سباحة سوداء وبيضاء مقلّمة، وطُرحت بعدها ثياب أخرى وقصص أخرى. في 1960 أصبحت مصممة أزياء ترتدي زياً زهرياً وتحمل حافظة أوراق فيها رسماتها. والعام التالي، جاءت على هيئة مضيفة طيران تعتمر قبعة صغيرة، ثم ممرضة تضع نظارات على شكل عيون القطة وراقصة باليه. ومع أنها أصبحت رائدة فضاء في 1965، قبل أن يسير الإنسان على سطح القمر، مرّت سنوات طويلة قبل أن تظهر باربي على شكل قبطان طائرة أو طبيبة. وأدلت هاندلر برأيها في الموضوع بعد ثلاثة عقود فقالت “لم أحلم يوماً بمحاولة تغيير العالم. كنت أرغب في إظهاره كما هو. وفي ذلك الوقت، لم يكن ثمة طبيبات”.
ومن الناحية المقابلة، لم تتأثر هاندلر كذلك بالاعتراضات على شكل باربي المثالي، التي بدأت تظهر في الصحف الأميركية فور اكتساب الدمية شعبية كبيرة. ونشرت صحيفة “ساترداي إيفنينغ بوست” في عام 1964- أي بعد سنة من طرح دمية باربي “الخرّيجة الجامعية” في الأسواق- مقالاً وصف عالم باربي “مع تركيزه على المقتنيات وعبادة المظاهر”، بأنه “محاكاة ساخرة صغيرة لسعينا وراء الجمال والممتلكات المادية والتفاهة”. لكن هاندلر رفضت فكرة التأثير السلبي لاختراعها وتضاريسه في ثقة الفتيات بأنفسهن. وقد سلّمت هاندلر بأن “العديد من النساء يعانين من مشكلة مع أجسادهن مع تقدّمهنّ في العمر. لا يمكنني أن أصدق بأن الدمية تتسبب بذلك”.
قالت روث هاندلر، السيدة التي اخترعت دمية باربي “كانت الفكرة برمّتها تمكين الفتاة الصغيرة من أن تحلم بأنها (وتتخيل نفسها)شابة كبيرة”
تمكّنت دمية باربي من الصمود بوجه هذه الانتقادات. في عام 1963، أصبحت ماتيل شركة عامة. ومع قدوم عام 1964، احتّلت موقع أكبر شركة أميركية لصناعة الألعاب، وشغلت هاندلر منصب نائب الرئيس التنفيذي. إن قللنا من أهمية الفيلم الذي يصدر من بطولة مارغو روبي وراين غوسلينغ واعتبرنا أنه مجرّد حنين إلى الماضي، فذلك يعني بأننا أسأنا فهم جاذبية [اللعبة] الدائمة [التي لم تأفل]. إذ حتى يومنا هذا، لا تزال مبيعات الشركة تقدّر بمليار دولار سنوياً.
كما يلمّح الفيلم (إن شاهدتموه)، لم يكن مصير روث وإليوت جيداً [على ما يرام]. فقد أُرغما على الخروج من ماتيل في 1975 بعدما فتح محققون فيدراليون تحقيقاً في الأوضاع المالية المتعثرة للشركة حينذاك. وفي النهاية، في عام 1978، صدرت بحقّهما إدانات بجرم التآمر والتزوير والتصريحات الكاذبة إلى لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية – وهي إفادات كاذبة مكّنت الشركة من الاقتراض والحصول على أصول بفضل المبالغة في تقدير قيمة أسهم ماتيل. فبدل مبلغ الـ34 مليون دولار الذي زعمت ماتيل بأنها جنته في عام 1971، اعتقد المحققون بأن أرباحها أقل بكثير، وقدّروها بمبلغ 14 مليون دولار.
إجمالاً، كانت الحسابات مزوّرة و”الدلائل قوية على معرفة روث بالأمر”، كما يقول روبن غيربر، كاتب سيرة هاندلر الذاتية. اختارت هاندلر “عدم الاعتراض” على الاتهامات – وهو خيار يمكّن المدّعى عليه في الولايات المتحدة من قبول العقاب من دون الإقرار بالذنب – وغُرّمت مبلغ 57 ألف دولار سمح لها بتجنّب الحكم بالسجن 41 سنة بالحد الأقصى وهي العقوبة التي تُفرض لقاء هذه الاتهامات. لكنها أصرّت في المقابلات على براءتها من التهم. وقالت لمحطة “سي بي أس نيوز” في 1994 إنها لم ترتكب أي عمل غير قانوني شخصياً. “أخطأت في عدم اكتشاف (الأخطاء) وطرد الأشخاص (المسؤولين) فوراً”.
لكن تزامناً مع الحرب التي خاضتها هاندلر من أجل شركتها ولاحقاً، حريتها، كانت تخوض حرباً للبقاء. فقد شُخّصت هاندلر بالإصابة بسرطان الثدي عام 1970 وعانت كثيراً للعثور على ثدي اصطناعي [مناسب] بعد خضوعها للعلاج. “كنت أصارع لكي أصبح مديرة محترمة كل حياتي وعندما فقدت ثديي شعرت بأنني فقدت أنوثتي”. كانت كل هذه القضايا مرتبطة ببعضها البعض بالنسبة إليها.
وفي سبيل استعادة أنوثتها، أسّست شركة “نيرلي مي” Nearly Me، إحدى أول شركات الأطراف الاصطناعية التي لم تعتبر أن الثدي الأيمن مطابق للأيسر ويمكن الخلط بينهما [لم تستخف بالفوارق بين الثديين الأيمن والأيسر]. عادت هاندلر إلى عالم المبيعات مجدداً. وجالت في أميركا لكي تتحدث عن أهمية الكشف المبكر عن السرطان، قبل أن يصبح فحص الثدي السريري السنوي أمراً اعتيادياً. وظهرت في برنامج “ذا ميرف غريفين” وأصرّت أن يتحسّس مقدّم البرنامج الحواري الشهير الثدي الصناعي من “نيرلي مي” الذي كانت تضعه. بيتي فورد استخدمت ثدي [اصطناعي] من هذه الشركة. وإن اعتبرنا أن استئصال الثدي كان مرادفاً لفقدان الأنوثة، فما قدمته “نيرلي مي” هو سبيل إلى استعادتها. وأصبحت ثاني شركة لهاندلر تحقق أرباحاً بالملايين.
في عام 1989، فقدت هاندلر ثديها الثاني بسبب السرطان، وبعد ذلك بسنتين، تقاعدت إلى درجة كبيرة. كانت تبلغ 75 سنة من العمر عندها. لكن لا يمكن التخلي عن دور أم باربي. عند وفاة هاندلر في عام 2002 عن عمر ناهز 85 سنة، جرّاء مضاعفات جراحة القولون، نشرت كل الصحف الأميركية الكبرى خبر وفاتها لافتة إلى أن السيدة نفسها التي منحت الدمى أثداء ساعدت الناجيات من سرطان الثدي على استعادة أطرافهن. ربما قام نتاج المسيرة المهنية لروث هاندلر على نظرة تقليدية للأنوثة، لكنها تحدّت شخصياً كل التوقعات المعاصرة للنساء في كل محطة من حياتها. وفي الواقع، ربما تشكّل قصة حياة أم باربي الحقيقية أساساً لفيلم جيد جداً.
يُعرض فيلم “باربي” في صالات السينما الآن