حرية – (16/8/2023)
بالنسبة للكثيرين، عندما يحين وقت التقاعد أخيراً، ويبدأ الشخص في توديع زملائه وبيئة عمله التي اعتاد عليها لسنوات وعقود طويلة، فإن التغييرات الحادة الطارئة على نظام حياته تدفعه أحياناً للدخول في دوامة صعبة من المشاعر السلبية، وهو ما يُعرف بـ”اكتئاب التقاعد”.
معضلة الوقت الحر وفقدان الروتين
التقاعد هو تغيير كبير يطرأ في حياة الشخص المعني، والذي يعني في كثير من الأحيان أكثر من مجرد التوقف عن الذهاب إلى العمل بشكل يومي.
إذ يمكن أن يؤدي إلى فقدان الروتين وزيادة الشعور بالوحدة؛ خاصة عند خسارة الروابط الاجتماعية المرتبطة بمكان العمل؛ لهذا السبب، قد يكون من الصعب التكيّف مع التقاعد، وتظهر الأبحاث بحسب موقع “بيشانت” (Patient) البريطاني للصحة والمعلومات الطبية، أن التقاعد قد يؤدي إلى تدني الحالة المزاجية أو تفاقم أعراض اكتئاب التقاعد.
لذلك في البداية، قد يستمتع المتقاعد بفكرة الاستلقاء والراحة لأيام، ولكن بعد ذلك بفترة وجيزة قد يبدأ في التوق إلى امتلاك النظام أو الروتين، وبالتالي يشعر بالتعاسة أو اليأس.
التقاعد وفقدان الإحساس بالهدف والإنجاز
أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل المُحال على المعاش يعاني من اكتئاب التقاعد هو أنه يشعر وكأنه فقد هدفه أو هويته في الحياة فجأة في فترة حساسة من عمره.
وسواء أحببنا ذلك أم لا، فإننا نميل إلى رؤية وظائفنا على أنها امتداد لما نحن عليه، خاصة إذا قضينا سنوات طويلة في بناء خبرة مهنية.
وبالتالي نفقد سلسلة النجاحات والإخفاقات، والعمل على تحقيق الأهداف، وتطوير العلاقات مع الزملاء، والطموح، والتفاعلات الاجتماعية عندما نتقاعد، ويتهاوى الشعور المرتبط بالذات والإنجاز وامتلاك الهدف.
متى تحديداً يصاب الشخص باكتئاب التقاعد؟
وجدت دراسة علمية نُشرت عام 2012 في مجلة دراسات السعادة الأمريكية، أن المتقاعدين يختبرون “نشوة عارمة” من الرفاهية والرضا عن الحياة مباشرة بعد التقاعد، يليها انخفاض حاد في السعادة بعد سنوات قليلة.
في حين يصاب المتقاعدون من مقدمي الخدمات ذات القيمة العالية إنسانياً بانخفاض حاد في الرضا عن الحياة، ويعانون من الاكتئاب الفوري، ومثال على هؤلاء الممرضات والمسعفون المتقاعدون.
كما وجدت دراسة نشرت في مجلة الشيخوخة السكانية الأمريكية أن المتقاعدين كانوا أكثر عرضة للإبلاغ عن شعورهم بأعراض الاكتئاب بمقدار الضعف عن أولئك الذين ما زالوا يعملون في وظائفهم.
ووجد بحث من معهد الشؤون الاقتصادية البريطانية أن احتمال إصابة شخص ما بالاكتئاب الإكلينيكي يرتفع بنحو 40% بعد التقاعد عن العمل.
تحديات التقاعد عن العمل
مهما كانت تحديات الحياة الوظيفية ومصاعبها، فإن التقاعد يمكن أن يمثل تحديات أكثر صرامة وصعوبة في التأقلم. ويمكن أن تكون الأمور صعبة بشكل خاص إذا قدمت تضحيات في حياتك الشخصية أو العائلية من أجل وظيفتك، أو اضطررت إلى التقاعد قبل أن تشعر بالاستعداد للأمر، أو إذا كانت لديك مشكلات صحية تحد مما يمكن القيام به في الفترة الراهنة. وتشمل التحديات الشائعة للتقاعد ما يلي:
- الشعور بالاستنزاف من أجل “التوقف” عن العمل والاسترخاء، خاصة في الأسابيع أو الأشهر الأولى من التقاعد.
- الشعور بالقلق من امتلاك كمية كبيرة من الوقت الحر تزامناً مع ضعف الماديات.
- صعوبة ملء الساعات الإضافية بنشاطات هادفة تعزز الصحة النفسية.
- مشكلة فقدان الهوية وتعريف الذات من دون وظيفة.
- الشعور بالعزلة بدون تفاعلات اجتماعية مرتبطة ببيئة العمل.
- المعاناة من انخفاض تقدير أهمية الذات أو الثقة بالنفس.
- القدرة على تعديل الروتين أو الحفاظ على الاستقلالية المعهودة.
- شعور بعض المتقاعدين بالذنب عند تلقي أموال المعاش دون عمل.
خطوات عملية للتعامل الصحي مع اكتئاب التقاعد
مهما كانت التحديات التي تواجهها وأنت تستعد لهذا الفصل الجديد في الحياة، يمكن للنصائح التالية أن تساعدك على تسهيل مرحلة التقاعد وتقليل التوتر والقلق المزمن خلالها:
1- المرونة والتكيف مع التغيير
من الضروري معرفة أن التغيير أمر حساس، وقد يصيب الإنسان بحالة من التخبط والتوتر والقلق؛ لذلك فإن بناء مرونة نفسية للتقبُّل والتأقلم من شأنه أن يساهم في تعزيز الصحة النفسية للشخص الذي يعاني من اكتئاب التقاعد.
ولتحقيق المرونة والقدرة على التأقلم، من اللازم الاعتراف بالمشاعر بشكل واقعي واستيعاب التغيرات النفسية المصاحبة للمرحلة، مع توفير المساحة الكافية والوقت الكافي للاعتياد على النظام الجديد.
2- إعادة تحديد الهوية ووضع الأهداف
على سبيل المثال، إذا كنت في السابق محاسباً أو مهندساً، فأنت اليوم معلم خيري أو متطوع أو جد أو طالب أو كاتب مذكرات أو فنان أو متفرغ للاعتناء بالنباتات.
كذلك قد يكون المتقاعد قد حقق بالفعل العديد من أهدافه المهنية في الحياة، ولكن من المهم أن يستمر في وضع أهداف جديدة والسعي لتحقيقها.
يمكن أن يؤدي وجود أهداف إلى تنشيطه وتعزيز قدرته على تحديد هويته الجديد بدون العمل الوظيفي.
3- بناء دوائر جديدة من العلاقات الاجتماعية
يعزز الاتصال الاجتماعي سلامة الصحة النفسية والعقلية للشخص الذي يعاني من اكتئاب التقاعد وفقدان الاتصال بزملاء العمل القدامى.
لذا من الضروري إعادة استكشاف الفرص لتوسيع الشبكات الاجتماعية خارج نطاق العمل عبر تكوين صداقات جديدة ومجزية سواء من الجيران أو مقهى المنطقة أو النوادي الرياضية والمساجد وغيرها من أماكن التجمعات.
4- العمل بدوام جزئي أو التطوع الخيري
من الممكن للعمل بدوام جزئي أو التطوع في وظائف خيرية أن يساهم في إعادة تحديد أهداف الشخص المحال على التقاعد؛ إذ يمكن للتبرع بالوقت والجهد في قضية مهمة أن يضيف معنى وشعوراً قوياً بالإنجاز لحياة تقاعدية صحية، فضلاً عن إفادة المجتمع وتعزيز فرص بناء العلاقات الجديدة وتعزيز القيمة الذاتية والقدرة على كسب المهارات.
5- تجربة الهوايات الجديدة أو إعادة استكشاف القديمة
إذا كنت تمتلك هوايات قديمة اعتادت أن تثري حياتك، فمن المحتمل أن تكون فترة التقاعد فرصة ذهبية لاستثمار المزيد من الوقت في ممارستها وتجربتها بدون تضحيات في سبيل الوظيفة.
وسواء كانت اهتماماتك تكمُن في السفر أو الطبيعة أو الرياضة أو الفنون، من الجيد دوماً التسجيل في نادٍ أو الانضمام إلى فريق أو أخذ فصل دراسي لتركيز التجربة.
كذلك فإن تدارس هوايات وعلوم جديدة يُعد طريقة رائعة لتوسيع العقل وتعزيز الصحة النفسية. ويمكن معرفة فوائد التعلُّم من خلال قراءة هذا التقرير.
6- السيطرة على التوتر والقلق والاكتئاب
بعد التقاعد، قد ينتهي الكثير من مثيرات التوتر والضغط النفسي المتعلقة بالعمل، لكن هذا لا يعني أن الحياة ستكون خالية من التوتر والقلق تلقائياً.
ففي حين أن الإجهاد في مكان العمل يمكن أن يكون له تأثير خطير على الصحة العامة، خاصة إذا كنت تفتقر إلى الرضا الوظيفي، فإن الضغوطات يمكن أن تتبع الشخص أيضاً في مرحلة التقاعد.
إذ قد يقلق الشخص المصاب باكتئاب التقاعد بشأن التغيرات المادية وتدهور الحالة الصحية، أو التكيف مع علاقة زواج مختلفة بسبب الوقت المشترك المضاعف. كذلك يمكن أن يؤثر فقدان الهوية والروتين والأهداف على الإحساس بالقيمة الذاتية.
في المقابل، يُنصح باتباع نظام غذائي صحي وروتين يومي ثابت من النوم العميق والاسترخاء والتأمل والصلاة وسماع الموسيقى وممارسة النشاط البدني المعتدل والقراءة والتعلُّم الحر.
إذ يمكن لممارسة الرياضات البسيطة؛ مثل المشي في الطبيعة والحدائق العامة والمساحات الخضراء أن يخفف التوتر ويعزز الإحساس بالصحة النفسية والرفاهية.