حرية – (19/8/2023)
لا يمكن تحديد تاريخ بداية ألعاب السيرك، لكن يمكن رصد زمن تحوله إلى مؤسسة منظمة تديرها مجموعة من الناس بينما يتنقلون من بلدة إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى، حاملين معهم خيمة السيرك الكبيرة وهي عماد السيرك المؤسساتي، ومصطحبين أنواعاً من الحيوانات وكثيراً من الأدوات التي تحتاج إليها الفقرات التي تدور داخل هذه الخيمة.
عمر السيرك كما نعرفه حالياً يبلغ 250 عاماً تقريباً، ويعتبر فيليب أستلي أبو السيرك الحديث، وقد بدأت القصة عام 1768 حين شرع في إقامة معارض لركوب الخيل في حقل مفتوح على الجانب الجنوبي من نهر “التايمز” عام 1770، حيث استأجر “أكروبات” ومشاة على حبل مشدود وسحرة ومهرجين لملء فترات التوقف بين ألعاب الفروسية. ثم تطورت العروض على مدار الـ50 عاماً التالية لتدخل فيها الفرقة الموسيقية كمؤثرات أثناء القيام بألعاب خطرة وبهلوانية أو فقرات المهرجين الذين يمثلون مسرحية كوميدية قائمة على الحركة.
تطور مؤسسة السيرك
تطورت الأماكن التي يقام فيها السيرك من أواخر القرن الـ18 إلى أواخر القرن الـ19، حيث تم بناء هذه الأماكن بحسب الطلب كمساحة دائرية مركزية تحيطها المقاعد من كل الجوانب وقد يكون فوقها خشبة مسرح ولم تكن لهذه الأبنية أسقف بعد، ثم ظهرت الخيام الكبيرة المعروفة باسم “القمم الكبيرة” في منتصف القرن الـ19 حين بات “السيرك” متجولاً، وصار هذا النوع من الخيام أكثر شيوعاً، حيث مكّن الفارس البهلواني من الوقوف منتصباً على حصان والدوران في حلقة داخل الساحة، ثم اتبعت كل السيركات هذا المقياس لحلباتها.
ظهرت الخيام الكبيرة في منتصف القرن الـ19 حين بات “السيرك” متجولاً
قديماً برع عرب البادية في ترويض الصقور والخيل والإبل، كما عرفت بلدان المغرب العربي ترويض الثعابين والقردة وأسود جبال الأطلس التي تكاد تنقرض. وبحسب “الموسوعة العربية” على شبكة الإنترنت فإن أشهر العائلات العربية التي احترفت فنون السيرك وأتقنتها هي عائلات “الحلو” و”عاكف” و”كوته” في مصر، وعائلة “عمار” في تونس التي كانت تقدم فنونها أيضاً في باريس. وفي المشرق العربي خرج العمل في السيرك منذ بدايات القرن الـ20 من الأطر العائلية بعد اتساع فقراته وأعماله ليصبح مؤسسة تشاركية أو شركة بين جماعات من الأشخاص العاملين في السيرك نفسه أو من خارجه كالمستثمرين والممولين.
على مر السنوات شهد العالم العربي تطوراً في مجال السيرك، حيث بدأت العروض السيركية تكتسب شعبية أكبر في مختلف البلدان العربية. وقد تكون لهذا التطور علاقة بزيادة الاهتمام بالفعاليات الترفيهية والثقافية وتوسع البنية التحتية لتنظيم هذه العروض.
القطاع الفني المصري في ستينيات القرن الماضي تعاون مع الخبرات الروسية لتطوير السيرك القومي القديم الذي جاب العالم. وتبنى المخرج التونسي محمد إدريس فكرة أول مدرسة لتعليم فنون السيرك في تونس في المبنى الخاص بالمسرح الوطني بالتعاون مع مركز فرنسي لفنون السيرك عام 2003. وتم تدريب مجموعة من الشباب شاركت في افتتاح دورة ألعاب البحر المتوسط التي استضافتها تونس في سبتمبر (أيلول) 2001. وباتت الأعمال الدرامية في السينما والمسلسلات العربية والمسرح تعتمد على لاعبي السيرك وحيواناته في أداء المشاهد المثيرة الرائعة.
في المرحلة الحالية بدأت المؤسسات الترفيهية والثقافية في السعودية ومعظم دول الخليج العربي تهتم بفنون السيرك وعروضه بشكل واضح. وتعمل هذه المؤسسات على تحويل فنون السيرك إلى فقرة أساسية من فقرات الثقافة الشعبية والترفيه العام مما سيسهم في إعادة الاعتبار للسيرك كوسيلة ترفيه تقام خارج المنازل التي تحتوي على التلفزيون والكمبيوتر وكل أدوات الترفيه الممكنة من الألعاب الإلكترونية ووسائل التواصل.
إعادة السيرك إلى الواجهة كوسيلة ترفيه يعيد التفاعل المباشر والمادي بين الجمهور وممثلي الفقرات السيركية، وهي تجربة كادت تغيب بعد حلول وسائل الترفيه المختلفة محل السيرك القديم العائد على قرون سابقة.
أصل المهرج العربي
كان على ولادة المهرج أن تنتظر مجيء جوزف غريمالدي (1778 – 1837)، وهو الفنان ذو الأصل الإيطالي الذي سيدخل التاريخ بوصفه أول مهرج مسرح حقيقي ليرفع من مستوى هذا الفن، محلاً ما سيسمى ـ”المهرج الأبيض” محل شخصية “أرليكان”. وبهذا كان غريمالدي عن حق المهرج Clown الأول الذي استحق هذا الاسم، علماً بأن كلمة Clown التي تترجم عربياً إلى مهرج أصلها الإنجليزي هو Clod وتعني ريفي وأحمق وماكر وأفاق في وقت واحد تقريباً.
بدأت العروض السيركية تكتسب شعبية أكبر في مختلف البلدان العربية
عام 1931، كان الممثل العربي نجيب الريحاني بدأ بتمثيل أول أفلامه “كشكش بيه”، وكان الممثل الفرنسي فرنانديل شرع في تصوير فيلمه الأول أيضاً “دكان زهور مدام أوسو” فيما قدم الأميركي تشارلي تشابلن فيلمه “أضواء المدينة” ثم “السيرك”، وكان المشترك بين الشخصيات الثلاث هو أنها لممثلين كوميديين في الأصل عملوا في المسرح والسيرك إبان شبابهم مما ساعدهم في ترك بصمات كبيرة وواضحة عرفت نجاحاً كبيراً في بلادهم وفي أرجاء العالم.
لا بد أيضاً من الإشارة إلى شخصية “شوشو” التي قدمها الممثل اللبناني حسن علاء الدين على المسرح وفي السيرك ومن ثم على شاشة التلفزيون قبل أن تدخل هذه الشخصية إلى المنازل العربية. كذلك هناك شخصية الأراجوز في السيرك المصري التي انتقلت بدورها إلى شاشة السينما. وشخصيات كثيرة أخرى تدخل في إطار التهريج الهادف في رسالته عبر الإضحاك.
تجربة كادت تغيب بعد حلول وسائل الترفيه المختلفة محل السيرك القديم
تمكن نجيب الريحاني من الإضحاك ظاهرياً بينما كان يقصد الإشارة إلى السوداوية المحيطة به، وكذا فعل فرنانديل وتشابلن، وكانت شخصية المهرج هي المشترك بين الممثلين الثلاثة الذين تمكنوا من نقل شخصية المهرج من السيرك إلى السينما، واستخدموا ما يضحك في المهرج لإيصال رسائل اجتماعية وسياسية مهمة عبر الشاشة. ويمكن القول إن “شارلو” ورفاقه هم الورثة الشرعيون لكل المهرجين الذين عرفهم تاريخ هذا الفن.
في العالم العربي أخذت شخصيات المهرجين من مزيج التراث العربي والشرقي القديم كما جاء في “المقامات” أو “نوادر جحا” المعروفة أو في بعض أجواء “ألف ليلة وليلة” وطبعاً من قصص “أشعب الأكول” الذي قربه الملوك ليسليهم كما قربوا غيره كثيرين ليقيموا ما يشبه السيرك في قصورهم للترفيه عنهم وحاشيتهم.
هنا نذكر “جحا” أو نصر الدين خوجا الأشهر بين المهرجين المنتمين إلى التراث الشرقي المشترك، لا سيما بين العرب والأتراك، ومع هذا فإن الثقافة الأوروبية، وخصوصاً في بعض مناطق شرق أوروبا المجاورة لتركيا، اعتبرت نصر الدين هذا جزءاً من تراثها التهريجي، وبمرور الزمن راح الناس ينسبون إلى “جحا” كل طرفة تدل على مزيج من الذكاء والبلاهة، حتى صار مجموعها يشكل كتباً كاملة تعتبر من أكثر كتب الأدب الضاحك رواجاً على الصعيد الشعبي في البلاد العربية.