حرية – (22/8/2023)
“لقد تجمدت/ تصلبت في مكاني”و”لم أعرف ماذا أفعل”. هكذا وصفت بعض ضحايا الاغتصاب ما حدث لهن أثناء التجربة المؤلمة، لكن ينتهي الأمر بقضاياهم في العديد من الحالات بأن يسقطها النظام القضائي.
وسلط تقرير موسع لمجلة نيويوك ماغازين الضوء على هذه القضية، مشيرا إلى إفلات العديد من مجرمي الاغتصاب من نظام العدالة الجنائية بسبب عدم فهم المدعين والشرطة لحقيقة عدم مقاومة العديد من الضحايا للمغتصبين، بينما يؤكد خبراء في علم النفس والأعصاب أن عدم الاستجابة ما هي إلا طريقة لا إرادية للتعبير عن الصدمة.
وينقل تقرير المجلة رواية امرأة قالت إنها تعرضت للاغتصاب أثناء تدريب عسكري، وشعرت حينها أنها “تجمدت”، ففي إحدى الليالي أثناء التدريب، وجدت رجلا نائما بجوارها، وقد هم باغتصابها، وفي تلك اللحظة شعرت أنها تريد أن تصرخ أو تدفعه بعيدا، “لكن جسدي لم يتفاعل”.
وبعد الانتهاء من فعلتنه، تركها، وعادت إلى النوم. وفي الصباح، تناولت وجبة الإفطار وتقيأت. وفي الأسابيع التالية، كانت تستيقظ وهي تبكي وتتسارع دقات قلبها.
وعندما اكتشف الأصدقاء رد فعلها، شعروا بالذهول، وتساءلوا: “لم تفعل شيئا؟ لم تقل شيئا؟ تصلبت في مكانها؟”.
وتتذكر هي قائلة: “لم أشعر حتى أنني أستطيع فعل أي شيء.. كنت أحاول الصراخ.. أردت أن أصرخ، لكن شعرت أنني لا أستطيع “.
المرأة التي كانت تخشى من وصمة العار في محيط زملائها تحدثت أخيرا مع متخصص نفسي أوضح لها أن “التجمد” يمكن أن يكون رد فعل طبيعي على الاعتداء.
وتشير المجلة إلى أن هناك لغة مشتركة للنساء اللواتي يقعن في حالة “تصلب/تجمد” وأعطى أمثلة على ذلك بضحية الاغتصاب، بروك شيلدز، التي قالت في الفيلم الوثائقي “Pretty Baby”: “لقد تصلبت تماما وقلت لنفسي: يجب أن أبقى على قيد الحياة وأن أخرج من هذا الموقف”.
وفي حديثها عن اغتصابها ، قالت الممثلة والممثلة النرويجية، ناتاسيا مالث،: “كنت أشبه بشخص ميت”.
وتحكي الكاتبة، جاكي هونغ، عن اغتصابها قائلة: “عندما بدأ في خلع سروالي وملابسي الداخلية ، بدا جسدي وكأنه يتصلب”.
وفي حلقة من المسلسل الوثائقي “The Me You Can’t See”، تصف المغنية الشهيرة، ليدي غاغا، تعرضها للاغتصاب في سن الـ19،وتقول: “لقد تجمدت للتو”.
في عام 2019 ، شهدت امرأة تبلغ من العمر 48 عاما في محكمة كندية بأنها “تجمدت” عندما اغتصبها رجل في مؤخرة سيارته بعد أول لقاء لهما. وعندما تساءل الدفاع عن المتهم عن سبب عدم مقاومتها له، قالت: “شعرت بخوف شديد. أنا لست لائقة بدنيا. لم أعتقد أنني أستطيع الركض”.
جيسيكا مان، وهي واحدة من ضحايا المنتج السينمائي، هارفي واينستين، قالت في شهادتها أثناء محاكمته إن “الكثير من النساء، بمن فيهم أنا، نقول كلمات مثل “لقد استسلمت” أو “فقدت السيطرة”.
واستشهدت مان بورقى بحثية من جامعة هارفارد تشير إلى حالة تُعرف باسم tonic immobility (الجمود التوتري) وهي حالة تشبه الشلل. وقالت للمحكمة: “أطلب منكم أن تفكروا في أهوال أن أكون غير قادرة على الحركة بسبب استجابتي البيولوجية”.
وهذه الحالة وفق المجلة رد فعل على التهديد يجعل الضحايا غير قادرين على الحركة أو الكلام، وتشبه في الحيوانات التنويم المغناطيسي أو التظاهر بالموت، وهو طريقة دفاعية ضد هجوم حيوان آخر مفترس، وتعتمد على فكرة أن العديد من الحيوانات المفترسة تفقد الاهتمام بالفريسة الميتة.
وقد ثبت، وفق التقرير، أن البشر قد يمرون بحالة مشابهة أثناء الحروب والتعذيب والكوارث الطبيعية والحوادث التي تهدد الحياة، وتشير الدراسات إلى أن الأمر شائع في الاعتداءات الجنسية.
وفي أوائل سبعينيات القرن الماضي، لاحظ الباحثتان الأميركيتان آن بيرغس، وليندا ليتل، هذا السلوك، الذي أطلقتا عليه “الشلل الناجم عن الاغتصاب” في مستشفى بمدينة بوسطن، حيث وثقتا 34 حالة تعرضت للتجمد جسديا أو نفسيا. وقالت امرأة إنها “شعرت بالإغماء والارتعاش والبرد” وقالت أخرى: “عندما أدركت ما كان سيفعله، توقفت عن التفكير .. حاولت ألا أعي ما يجري”.
وجادل عالما النفس سوزان سواريز، وجوردون غالوب، في مقال نشر في عام 1979 بأن حالة tonic immobility تطورت لدى البشر ، على غرار الحيوانات للدفاع عن النفس ضد الحيوانات المفترسة. وأشار الباحثان إلى أنه لم تتم إدانة العديد من الجناة بسبب عدم فهم هذه الحالة.
جيم هوبر، عالم النفس الإكلينيكي في كلية الطب بجامعة هارفارد، يرى أنه لا يجب الاعتماد على نظرية الكر أو الفر / (القتال أو الطيران) كرد فعل طبيعي على التهديد، مشيرا إلى أنها أدت إلى افتراضات بشأن ما يتوقعه المجتمع من الضحايا وما يتوقعونه من أنفسهم. وقال إن الضحايا “يشعرون بالخزي، ويهاجمون أنفسهم لأنهم لم يقاتلوا أو لم يفروا”.
ويقول التقرير إن رد فعل الدماغ البشري الأول على الخطر هو التوقف عن كل أشكال الحركة لتقييم التهديد بشكل أفضل. وفي غضون جزء من الثانية، تحدث تغيرات فسيولوجية لإعداد الجسم للانخراط في سلوكيات منقذة للحياة. وقد يؤدي هذا في بعض الأحيان إلى “القتال أو الفرار”، ولكن في حالات ضحايا الاعتداء الجنسي، قد يستمر في التجمد، وهذا ما وجده هوبر بعد قراءة شهادات ضحايا الاغتصاب على مدار نحو 10 سنوات.
ويقول هوبر إن الضحايا في بعض الأحيان يدخلون في “التجمد الصادم” عندما يظل عقل الشخص فارغا لعدة ثوان. وقد يصف الضحايا هذا بعبارات مثل “لم أستطع حتى التفكير” أو “لم يكن لدي أي فكرة عما أفعل”.
ويشير التقرير إلى ظاهرة إلقاء اللوم على الضحية. وتقول عالمة النفس في كولورادو، سوندا تيبوركهورست، إنها لاحظت أنه بمجرد حدوث الاعتداء، يتساءل الضحايا عما سيقوله الآخرون ويفكرون فيه.
وتقول ماريانا بوكاروفا ، التي تدرس علم النفس في جامعة تورنتو، وهي ضحية اغتصاب، إنها عندما لم تستطع الصراخ أثناء الاعتداء ألقت باللوم على نفسها، لكنها كانت محظوظة، لأنها لديها خلفية علمية عما ما حدث لها.
قصور النظام القضائي
وفي عام 2012، قدمت ريبيكا كامبل، عالمة نفس في جامعة ولاية ميشيغان، تحليلا لأكثر من 12 عاما من البيانات بشأن قضايا الاعتداء الجنسي التي سقطت من نظام العدالة الجنائية. ووجدت أنه في 6 ولايات قضائية (في الولايات المتحدة)، لم تحال 86 في المئة من الحالات إلى المحاكم.
وعندما أجرت كامبل مقابلات مع الشرطة، وجدت أنه ليست لديهم دراية كاملة بردود الفعل الفسيولوجية للصدمات، وافترضوا دائما كذب الضحايا.
وعندما سألت كامبل محققا عمل لمدة 15 عاما في وحدة الجرائم الجنسية عما حدث عندما أبلغ الضحايا عن اعتداء، قال: “الأشياء التي يقولونها لا معنى لها”.
وفي العديد من الولايات، لايزال يتعين على المدعين إثبات أن الاتصال الجنسي تم بالإكراه، أو قوبل بمقاومة لفظية أو جسدية.
وتستند التحقيقات عموما على تقديم الضحايا تفاصيل عما حدث، وغالبا ما يتم إسقاط القضايا بسبب ثغرات أو تناقضات في شهاداتهن، وكثيرا ما يتجنب المدعون إحالة القضايا على المحاكم لأنهم يشعرون أن أدلتهم ليست قوية بما يكفي.
وتقول موريا سكيو، وهي محامية في ولاية أوريغون، إن tonic immobility لايزال “نقطة عمياء في النظام القانوني”.
وفي عام 2019، عملت المدعية العامة، نانسي أوغليسبي، وضابط الشرطة السابق، مايك ميلنور، مع هوبر لتدريب الشرطة والمدعين العامين على فهم سلوك الضحايا.
وتعلمت أوغليسبي من فهم هذا السلوك أن الضحايا لا يقدمن تفاصيل عما حدث لهن وتغيب ذاكرتهن، وقد يركزن على تفاصيل ليست ذات صلة بالقضايا مثل لون الجدار وأغنية تعزف في القاعة، وقد لا تعرف الضحية لون القميص الذي كان يرتديه مغتصبها، أو حتى ما إذا كان يرتدي واقيا ذكريا.
وقالت كاترينا ويفل، نائبة المدعي العام في مقاطعة بولدر بولاية كولورادو، إن موكلي الدفاع غالبا ما يشيرون إلى أن الضحايا “لم يقاومن، ويقولون: كيف لم يركلوا ولم يعضوا ولم يصرخوا؟”.
وتقول المحامية في كولورادو التي تدرب الشرطة والمدعين، آن مونش: “لدينا الكثير من المعايير المزدوجة فيما يتعلق بسلوك الضحية. لدينا الكثير من الأعذار عن سلوك الجاني”.
وتشير إلى حالة امرأة في العشرينات من العمر تعرضت للاغتصاب على يد سائق أجرة اصطحبها إلى مكان بعيد، وأوقف السيارة، واغتصبها في المقعد الخلفي. وعندما انتهى من فعلته، عاد إلى مقعد السائق وأخذها إلى المنزل، ودفعت هي الأجرة وغادر.
وأخبرتها الشابة أنه عندما صعد السائق إلى الجزء الخلفي، علمت أن الاغتصاب سيحدث، وأدارت رأسها وحدقت في باب السيارة حتى انتهى الأمر. ولأنها كانت تنظر إلى الباب طوال الوقت، فهي تتذكر كل تفاصيله بشكل ملفت للنظر.
وفي دورة تدريبية لحوالي 30 شخصا من مدعين وأفراد شرطة، دعا ميلنور وأوغليسبي، المتدربين إلى ضرورة التفاعل بشكل أكثر عاطفية مع الضحايا حتى يشعرن بالراحة الكافية لوصف ما حدث لهن، ووجها النصح بطرح أسئلة مفتوحة وعدم المقاطعة والانتباه إلى كل التفاصيل ووصفهن لأحاسيسهن الفسيولوجية.