حرية – (27/8/2023)
يستهلك العالم يومياً 1.6 مليار فنجان من القهوة، وهي كمية تملأ نحو 300 مسبح أولمبي، فالقهوة صناعة عالمية، وهي ثاني أضخم إنتاج لا ينافسه إلا النفط، لكن لهذا المشروب قصة وتاريخ نضالي طويل في العالم العربي من التحريم إلى التحليل حتى انتهى بانتصار ثورة القهوة وانتشارها.
بدء الخلاف
تتميز القهوة عن غيرها من المشروبات بتاريخ ثقافي في العالمين العربي والإسلامي، وربما كانت طبيعة المشروب والهيئة التي كان يشرب بها وراء هذا الاختلاف الواسع في الموقف من القهوة، والذي قسم الفقهاء ومعهم الأدباء خلال قرون عدة، مما أدى إلى تراكم نتاج فقهي وأدبي حولها، كما أدى إلى حراك اجتماعي نتيجة لظهور بيوت القهوة (المقاهي) وما صاحبها من استقطابها مظاهر جديدة كالموسيقى والمسرح والحكواتي وغيرها.
تكشف “واقعة مكة” عام 1511 عن هذا الجو الذي ضبطت فيه القهوة تشرب بجوار الحرم، ورفع محضر بذلك إلى القاهرة يتحدث عن ارتياب من تأثير هذا المشروب الجديد على الوسط المحلي، وكان من الواضح أن هذا المحضر نفسه تضمن أول أسباب ومظاهر الخلاف حول القهوة بين الفقهاء، والذي سيستمر بعد ذلك قروناً عدة.
تسمية القهوة
هذا اللغط والخلاف الذي أحاط بالقهوة جاء من اسمها، وهو أحد أسماء الخمر عند العرب، لذلك كان يحدث دائماً التباس بين الاثنين لدى الباحثين في التاريخ الحضاري للمنطقة، حين يذكرون أن القهوة معروفة في بلاد الشام منذ العصر الأموي أو العباسي، وفي الحقيقة فقد حرص المؤرخون المعاصرون في بلاد الشام على التمييز بين القهوتين، إذ أطلقوا على الجديدة “قهوة البن” أو “القهوة البنية” أو “القهوة المتخذة من البن” لتمييزها عن القهوة القديمة (الخمر)، وقد جاء في “لسان العرب” لابن منظور أن “القهوة هي الخمر، وسميت بذلك لأنها تقهي شاربها عن الطعام، أي تذهب بشهوته”.
اكتشاف وتحريم
بحسب الرواية الشهيرة فقد اكتشفها راع كان يرعى ماعزه على سفوح الحبشة، حيث لاحظ أن الماعز بعد أن أكل حبوباً معينة صار نشيطاً متحفزاً، أما الناس فلم يأكلوها وإنما صاروا يغلونها مع الماء.
هي ثاني أضخم إنتاج في العالم ولا ينافسه إلا النفط
انتشرت القهوة في العالم الإسلامي بفضل الرحالة والحجاج والتجار، فانتقلت من مكة إلى تركيا ومنها إلى القاهرة في زمن الاحتلال العثماني، لتدخل حقبة من الجدل إن كانت حلالاً أو حراماً حتى اضطر بعض المشايخ إلى إجراء تجارب على شاربيها ليعلموا صدق هذه الادعاءات من كذبها.
فبعد أن أفتى الشيخ السنباطي بحرمتها في مجالسه بالأزهر “توجه بعض من سمع كلامه إلى بيوت القهوة وكسروا أوانيها وضربوا جماعة ممن كانوا هناك فقامت بسبب ذلك فتنة كبيرة”، بحسب ما جاء في كتاب “عمدة الصفوة في حل القهوة” للجزيري.
أما قاضي القضاة محمد بن إلياس الحنفي فقد أحضر جماعة ممن يشربون القهوة، وأمر بطبخها في منزله وسقاهم منها وجلس يتحدث معهم معظم النهار ليختبر حالهم، فلم ير فيهم تغيراً أو شيئاً منكراً فأقرها على حالها، ولكن هذا لم ينه الجدل، فكل فئة مع مشايخها زادت تعصباً لموقفها من القهوة.
مع الصوفية
يقول محمد أرناؤوط في كتابه “التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي”، إن وصول القهوة البنية إلى جنوب بلاد الشام وبروز المقاهي لأول مرة كان من الأحداث المهمة في التاريخ الحضاري للمنطقة.
تعتبر الصلة بين القهوة والطرق الصوفية، وبخاصة الشاذلية، وطيدة
وفي ما يتعلق بوصول وانتشار القهوة بالمنطقة نجد أن الروايات ارتبطت بثلاثة من الشيوخ الفقهاء، كان أشهرهم الشيخ أبوبكر بن عبدالله الشاذلي المعروف بالعيدروسي، إذ انتسب المشايخ الثلاثة إلى إحدى الطرق الصوفية، وبالتحديد الشاذلية، ويجمع كثيرون على أن الصوفيين هم المساهمون الأوائل في انتشار القهوة، لأنها كانت مناسبة للقيام بشعائرهم الدينية، أي ليظلوا يقظين ويستطيعوا التركيز في أثناء الذكر حتى آخر الليل.
وتعتبر الصلة بين القهوة والطرق الصوفية، وبخاصة الشاذلية، وطيدة إلى حد أن اسم القهوة أو شربها أصبح يرتبط بشكل وثيق بالشاذلي نفسه، فالقهوة في الجزائر تسمى “شاذلية”. ويقول موسى خنشب في كتابه “طرائف الأمس غرائب اليوم”، “نجد في ضواحي دمشق إلى مطلع القرن العشرين أن صاحب البيت حين يأخذ إبريق القهوة من على النار يسكب الفنجان الأول على الأرض لأنه حصة الشاذلي، لاعتقادهم أن الشاذلي هو الذي ابتدع شرب القهوة أو أول من شربها، وأنهم إذا لم يرموا هذه من الفنجان على الأرض ستراق القهوة حتماً”.
مزاج القاضي
يقول المؤرخ الدمشقي ابن طولون إنه عند مجيء الشيخ الحجازي علي بن محمد الشامي إلى دمشق عام 1539 “أشهر شرب القهوة بدمشق فاقتدى به الناس وكثرت يومئذ حوانيتها”.
لكن هذا لم يدم طويلاً، فدمشق ومعها القدس عاشت أزمنة سمح فيها بشرب القهوة وفتح بيت لها، وأزمنة أخرى حرمت فيها وأغلقت بيوتها أو هدمت، وفي أحيان أخرى وصلت لإعدام الشخص الذي لا ينفذ قرار السلطان العثماني القائم على فتوى تحريمها. وكانت تتبدل أزمنة السماح والحرمان بتبدل السلطان أو بتغيير القاضي في دمشق من حين لآخر فيتغير معه الموقف برمته.
لديها تاريخ نضالي طويل في العالم العربي من التحريم إلى التحليل
فبعد إجماع عدد من علماء دمشق وإرسالهم طلباً إلى السلطان سليمان القانوني بتحريمها، واتساقه مع الطلب ذاته من علماء القدس الذين رأوا أن الناس يقصدون بيوت القهوة أكثر من بيوت الله، استند السلطان إلى فتوى تحرم شرب القهوة وأمر بإزالة بيوتها ومنع الناس من الاجتماع فيها.
لكن الأمر اختلف بعد وفاة السلطان، وعاد الناس لشرب القهوة في عهد والي دمشق آنذاك “لالا مصطفى باشا”، وعلى رغم أن بعض معارضي القهوة بقوا يمارسون سلطتهم في الأطراف، فإن هذا لم يمنع أصحاب المقاهي من السفر إلى إسطنبول للاحتجاج على إغلاق مقاهيهم. وتفيد إحدى الوثائق بسفر أحد أصحاب المقاهي في غزة إلى السلطان وعودته مع وثيقة تسمح له بفتح بيت للقهوة ليرتزق منه.
أول المقاهي
على رغم ذلك فقد برزت المعارضة للقهوة ثانية خلال عهد الوالي العثماني سنان باشا عام 1587، حين بقي خطيب الجامع الأموي في دمشق مصراً على موقفه من القهوة، حتى إنه ألف رسالة تحريم القهوة حينئذ، لكن ردها عليه أهل عصره وعقدوا عليه مجلساً عند سنان باشا لإلزامه القول بتحليلها فلم يرجع، مخالفاً بذلك الإجماع.
هكذا يبدو بوضوح أن الكفة أخذت تميل إلى جانب أنصار القهوة منذ ذلك الحين، ودعمت بفتوى من شيخ الإسلام آنذاك بستان زادة محمد أفندي، الذي أصدر فتوى صريحة في تحليل القهوة.
بحسب الرواية الشهيرة فقد اكتشفها راع كان يرعى ماعزه على سفوح الحبشة
وتشير المراجع إلى أن أول مقهى عرف في دمشق، لكن من دون تحديد الموقع، أنشئ قبل الثلث الأخير من القرن الـ16 حيث استطاع المؤرخون بعدها تحديد مواقع للمقاهي. فيقول الغزي بوجود “بيت للقهوة” في محلة السويقة بدمشق فتحه وباع القهوة فيه الشيخ محمد اليتيم عام 1568، كما بنى ولاة الشام آنذاك داراً للقهوة في إطار الوقف الذي كانوا يبنون فيه أسواقاً وحمامات وجوامع.
ما قيل فيها
وتكشف وقفية الوالي سنان باشا التي تعود لعامي 1595- 1596 عن إنشاء ثلاثة بيوت للقهوة، وتحدد موقع بيت القهوة الأول في سوق العمارة، والثاني في سوق السنانية، والثالث في خان عيون التجار الذي كانت تقصده القوافل لأهميته التجارية كمفترق طرق في اتجاهي القدس وفلسطين جنوباً وإلى مصر غرباً.
وقد فتن الرحالة العرب والأجانب بما رأوه من المقاهي في دمشق بالذات، فقد زار الرحالة الفرنسي جان تيفنو دمشق في 1664، وذكر أن “كل مقاهي دمشق جميلة وتتميز بوفرة المياه”، وخص بالذكر “مقهى السنانية”.
يستهلك العالم يومياً 1.6 مليار فنجاناً وهي كمية تملأ 300 مسبح أوليمبي
كما زارها في ذلك الوقت الخياري المدني وكتب في كتابه “تحفة الأدباء وسلوة الغرباء” عن مقاهي دمشق فقال “إنها من ألطف ما تلحظه بالشام النواظر وتقر به العين ويروق الخاطر”. وقد أخذت مقاهي دمشق والقدس منذ ذلك الحين تجذب أكثر هواة النغم، إضافة إلى أن هذه المقاهي قدمت لروادها بعض الفنون التي ميزتها لاحقاً كالحكواتي والكراكوز، كما قدمت بعض العروض الجديدة التي لم تكن مألوفة في ذلك الحين كألعاب الخفة والمصارعة وغيرها.