حرية – (3/9/2023)
اليساريون ليسوا وحيدين في رؤية أميركا مصدراً لكل الشرور في العالم مثل صندوق باندورا الأسطوري. ولا هم وحدهم يختصرون كل مشكلات العالم بعامل وحيد هو تأثير الليبرالية الأميركية على الأنظمة والسياسات الاقتصادية والمجتمعات.
فاليمين المتشدد يشاركهم في النظرة ويوحي بأن الانحلال في المجتمعات الأوروبية يعود في قسم كبير منه إلى الليبرالية الأميركية، وإن الأزمات الاقتصادية الدورية هي بسبب النيوليبرالية الاقتصادية الأميركية التي يقلدها العالم.
والحركات القومية القديمة والمتجددة تجد في الليبرالية الأميركية مرضاً يحتاج إلى علاج ثوري، وهدفاً للتصويب عليه بما يقوي التضامن الوطني.
هذا ما تراه الأنظمة السلطوية التي تريد أن تلعب أدواراً خارج حدودها، الرئيس فلاديمير بوتين الذي يسعى لاستعادة دور كبير تستحقه روسيا يهاجم الغرب “المنحل أخلاقياً” ويتحدث عن “عالم ما بعد الغرب”.
أما سلاح بوتين الاستراتيجي في المعركة، فإنه ليس مجرد حرب أوكرانيا بل أيضاً كره أميركا إلى جانب التركيز على قوة الوطنية الروسية، وهذا ما دفع اليسار في العالم واليمين المتشدد في أوروبا والجنرالات الانقلابيين في مالي وبوركينافاسو وغينيا كوناكري والنيجر وسواها إلى دعم بوتين والمطالبة بقوات “فاغنر” لتأخذ مكان القوات الأميركية والفرنسية والإيطالية والألمانية.
حتى الذين يقاتلون الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فإنهم يتحمسون لبوتين ولا يجدون في الغزو الروسي لأوكرانيا مشكلة، والجمهورية الإسلامية في إيران التي ترفع شعار “الموت لأميركا” وتؤمن بقول الإمام الخميني، إن “العداء لأميركا من أسس الجمهورية” تتصور أن عليها تقديم نموذج اقتصادي ينقذ العالم من النموذج الليبرالي الأميركي.
لا بل إن كره أميركا فتح أمام إيران أبواب “الشراكة الاستراتيجية” مع دول اشتراكية مثل الصين وفنزويلا وكوبا ونيكاراغوا، بصرف النظر عن كونها دولة ثيوقراطية، حتى روسيا التي كانت تاريخياً في عداء مع الإمبراطورية الفارسية ثم الدولة الإيرانية، فإنها تجاوزت التاريخ من أجل حاجات الحاضر.
لكن المفارقة أن في أميركا موجة جديدة من الأكاديميين والفلاسفة المحافظين يرون أن مشكلة أميركا هي “الليبرالية” التي دمرت المجتمع وقادت إلى الانقسام السياسي والانحدار النسبي لأميركا كقوة عظمى. وهم عادوا إلى البريطاني إدموند بيرك في القرن الـ18 ونظريته عن “خطر الثورة”، كما استعادوا طروحات النمسوي فريديريك هايك والأميركي ويليم بكلي، وأبرزها معادلة قوامها: “الليبراليون يركزون على دونكيشونية بناء المجتمعات الكاملة، والمحافظون يركزون على الدفاع عن الحرية ضد الطغيان”.
البروفيسور باتريك دينين من جامعة نوتردام في كتاب “تغيير النظام: نحو مستقبل ما بعد الليبرالية”، يرى أن الليبراليين دمروا أساس التضامن الاجتماعي: العائلة، الجوار، التواصل، الكنيسة، والجماعات الدينية، “ويمارسون حكم الأقلية ضد الغالبية الشعبية”.
أميركا، بحسب تحليل دينين، في “حرب أهلية باردة”، والعلاج هو حكم “نخبة” تطبق أفكار أرسطو ضمن مبدأ “وسائل مكيافيللية لتحقيق غايات أرسطوطالية”.
أما البروفيسور أدريان فيرميول من جامعة هارفرد فإنه يرفض الفكرة السائدة حول أن “الانتخابات والديمقراطية أساس الخير العام”، فالأساس الصحيح للسلطة في نظره، ليس العرق والعادات والكاريزما ولا العقلانية بحسب ماكس فيبر بل النظام الأخلاقي والشرعية الموضوعية”.
لكن الآلة الأميركية الضخمة تدور ضد هذه النظريات، بحيث يتم تعزيز الليبرالية إلى حد أن الرئيس جو بايدن يختصر معركة أميركا في العالم بأنها “الديمقراطيات ضد السلطويات”. والعالم الخائف من الليبرالية والرافض لها يتصور أن المستقبل له، ومع الماركسية والنازية والديمقراطية الليبرالية والمحافظة، فإن المشكلة كانت ولا تزال في التركيز على عامل واحد في التشخيص والعلاج.