حرية – (11/9/2023)
ترتبط الأغاني التراثية بالجانب الاجتماعي والثقافي للدول وتحكي قصصاً تعكس عادات وتقاليد شعوبها، وتشكل الكلمة ركناً أساساً فيها كونها تتناول مواضيع معينة تعكس أحوال المجتمع في فترة زمنية ما.
بعض الفنانين المعاصرين لجأوا إلى تحديث الأغنية التراثية لكي تنتشر وتصل إلى الجيل الحالي بتوزيع جديد، خصوصاً بعدما اجتاحت التكنولوجيا عالم الغناء والموسيقى، وسط معارضة من بعض الآراء التي ترى أنه لا يجوز المساس بها، بل يجب المحافظة على طابعها الأساس. وفي المقابل استغل بعض المطربين والفرق الغنائية مقطوعات التراث وقدموها بطريقة مشوهة وغيروا في كلامها بهدف تحقيق الشهرة السريعة. فهل يجوز تحديث الأغنية التراثية أم أن في ذلك تشويهاً لها؟
حداء الإبل
وائل الفشني، الذي برز اسمه على نطاق واسع في مصر بعد تجديده لمجموعة من الأغاني التراثية يقول لـ”اندبندنت عربية”، المسألة الأهم تكمن في طريقة تقديم التراث بحيث لا يفقد جماله وأصالته، وأنا أقدمه بشكل مختلف لكي يصل إلى الجيل الشاب لأن العصر تغير وكذلك الموسيقى. في الأساس أحب مختلف أنواع الموسيقى وأسمع الراب والتراب، ولكن المشكلة فيهما هي في استخدام الكلمة المبتذلة التي أثرت في الجيل الجديد وعلينا إفهامه بأن ما يقدم ليس فناً بل جنوناً. هناك فيروس قاتل يسيطر على الفن في مصر اسمه المهرجانات.
ولا يخفي الفشني تأثره بالفنان محمد منير الذي كان أول من غنى التراث النوبي على المسرح بطريقة تتماشى مع عصره من دون أن يفقد أصالته. يشير إلى أنه يقدم جزءاً من هذا اللون، كما يقدم حداء الإبل في قالب أوركسترالي.
يوضح، تأسست فكرتي على تقديم الأوبرا على الطريقة المصرية بمعنى أن أحيي التراث من دون أن أجرحه وأن أصدره إلى كل مسارح العالم. وليس شرطا أن يصدر التراث والفلكلور المصري بجلابية وطبلة وفتاة راقصة، مع أنه جميل جداً، ولكنه ليس التراث الحقيقي، الفكرة بدأت عام 2018 عندما غنيت “الهروب” للفنان أحمد زكي، موسيقى مودي الإمام وقبلها “واحة الغروب” وهذا العملان أكدا أنه يمكن تقديم جزء من تراثنا بطريقة اوركسترالية.
يضيف، طريقة حديث حداء الإبل ليست مفهومة إلا بين سكان يسكنون الصحراء لذلك ابتكرنا طريقة تجمع بين الإنشاد والحداء لكي يتمكن المتلقي من فهم الكلام، ونجحت التجربة بالتعاون مع الموسيقار تامر كروان في “سفر حبيبي” و”الهروب” لـ مودي الإمام، المايسترو نادر العباسي كان صاحب هذه الفكرة واستغرق الأمر فترة طويلة لكي نتمكن من فهم الكلام وتقديمه للناس، التحديث يقوم على معادلات معينة ولو وقع خلل أو زيادة في أي منها يفسد العمل.
يتابع، توجد لدي أفكار كثيرة، ولكن الفكرة الأساسية التي أتمسك بها هي أوبرا مصرية تقدم التراث الذي يليق بها، ونكتب عليه خطوط الهرموني ونلبسه “بابيون”، ونلف به العالم كله، ونقول هذا هو التراث وليس الذي يقدمه شكوكو ويلف به الشوارع، مع أنه جزء من التراث المصري وليس أساسه، وكذلك فرقة رضا، ولكن أنا أقدم التراث بطريقة مختلفة وبمرافقة أوركسترا، وعندما قدمت أكابيلا “عيني آه يا عيني على آه” كنت أتمنى خلال عزف الأوركسترا أن نقول حِكماً للناس لأن التراث الصعيدي الفلاحي يقوم على الحكم، وهذا الأمر يتطلب شروطاً معينة كأن يكون هناك مغني أوبرا يتمتع بصوت قوي ومفتوح ويغني بعيداً من الميكروفون.
يضيف، المسألة ليست غناء لمجرد الغناء، بل يجب أن يكون الصوت شرقياً ويجيد اللهجة الصعيدية أو الفلاحية بمرافقة الأوركسترا، كما طرحت قبل مدة أغنية “راهب” على طريقة الفلامنكو وبكلام صعيدي ومن أجلها أجهدت صوتي ودخنت كثيراً من السجائر لكي يصبح متحشرجاً ومناسباً لها.
موشحات وقدود حلبية
الفنانة السورية لينا بيطار تغني اللون الكلاسيكي وكل أنواع الغناء التراثي السوري، وهي أيضاً مع مبدأ تحديث التراث شرط ألا يمس بأساسيات الأغنية أي في الكلمة واللحن.
تقول بيطار، لا شيء يمنع من إضافة لمسات خفيفة من الهرموني لكي يصل العمل إلى الجيل الشاب، ولكن بعض الفرق غيرت اللحن بشكل جذري أو في المقام أو استبدلت الكلام بكلام آخر، التراث السوري غني ويضم القدود الحلبية والأدوار والموشحات والطقاطيق وكلها يمكن تحديثها وخصوصاً القدود لأنها شعبية أكثر من الموشحات والأدوار، كما أن هناك تجارب في تحديث الموشحات، ولكن الأدوار لا يمكن إعادة توزيعها لأنها شرقية كلاسيكية، ولقد شاركت لوقا الصقر بمشروع اسمه (مزيج) الذي يجمع بين الأغاني التراثية من طريق الكلمة وليس اللحن، وكانت تجربة ناجحة لم تمس أساسيات الاغنية.
مساعي لتحديث أداء الآلات الموسيقية
تجارب فرضت نفسها
قائد الأوركسترا الباحث الموسيقي لبنان بعلبكي، يشير إلى أنه لا يوجد حاسم حول هذا الموضوع، بل يجب تقييم كل تجربة على حدة “عندما ينقل التجديد التراث إلى مكان جديد قادر على الاستمرار تكون التجربة ناجحة، مع أن بعض النقاد يعتبرون أن التراث يجب أن يبقى على حاله، التجارب الناجحة تفرض نفسها أولاً كقيمة فنية قائمة بحد ذاتها، وثانياً بسبب قبول الناس لها حتى لو انتقدت في لحظتها، بينها تجربة المصري عمر سليمان الذي يغني في النوادي الليلية بأوروبا ويشارك في مهرجانات هولندا وألمانيا ويحضر حفلاته ما بين 30 و40 ألف شخص.
ويلفت بعلبكي إلى أن التحديث يتحقق من خلال الرؤية الموسيقية والتوزيع والصوت وكيفية تقديم التراث للأجيال التي لا يوجد لديها اتصال معه.
يضيف، “التشرذم الذي تعيشه الشعوب العربية لأسباب مختلفة جعلتهم يبحثون عن هويات مختلفة بعيدة من تراثهم، ولأنه من شبه المستحيل أن يتم التواصل مع التراث بحلته القديمة، يتم التحديث من خلال التوزيع والأصوات، ولكنه لا يكون بالضرورة تقليدياً، بل يمكن إضافة بعض العناصر الإلكترونية عليه لكي يصل إلى الناس لأن أهمية أي عمل فني تكمن في وصوله إلى الناس.
وعما إذا كان مسموحاً إجراء تحديث على كل أنواع التراث أم أنه لا يجوز المس ببعضها، يؤكد بعلبكي أن كل شيء ممكن من قبيل التجربة، ولكن عندما يخضع أي نوع من أنواع التراث للتحديث، فلا بد من أن يتغير طابعه والبعض يفضلون التراث بطابعه الأساس. التحديث وإعادة التوزيع يغيران الأغنية ولا تعود بالأجواء نفسها التي كانت عليها، والموسيقي الذي يرغب بالتحديث يجب أن يكون ضليعاً بالتراث ولديه فكرة معينة يريد أن يوصلها من خلاله، بمعنى أنه يجب أن يكون على معرفة بأصوله وأن يقوم بتحليله من حيث الظروف التي رافقت ولادته، ومعنى كلماته ولماذا تم تسجيله بطريقة معينة لكي يحافظ على سياقه الأساس عند إعادة تقديمه، لأن التراث يرتبط دائماً بقضايا اجتماعية ويغنى في مناسبات معينة، والكلمة والإيقاع يرتبطان بنوع المناسبة، فهناك غناء الحوربة (الحروب) والحداء والحصاد.
في المقابل لا ينكر أن بعض المغنين شوهوا التراث على رغم الشعبية العالية التي حققوها بفضله، هم نقلوا التراث إلى مكان لا يشبهه وأصبح معهم خارج سياقه الاجتماعي وفقدت الكلمة معناها، حافظوا على الإيقاع واللحن التراثي ووضعوا عليه كلاماً يشوبه الانحطاط، يتحدث عن العلاقة بين الرجل والمرأة أو العلاقة بالمال أو بنظرة الإنسان للسعادة ولكن بطريقة مشوهة جداً، أهم ما في العمل التراثي هو كلامه لأنه انعكاس للمجتمع وتقاليده وتراثه، والتشويه الذي يحصل في التراث يشبه التشويه في مجتمعاتنا.
ويفرق بين التراث الشعبي ونظيره الأكاديمي ويشير إلى أن القدود الحلبية تنتمي إلى فئة الأخير، “هناك معاهد في حلب تعلم أصول الغناء والإلقاء لذلك نجحت القدود الحلبية بالمحافظة على كيانها ولم يصبها التشوه، بينما التراث الشعبي يتوارث ويدرس في المعاهد الموسيقية كمادة مجمدة في التاريخ مرتبطة بالحالات الشعبية فقط.
يرى بعلبكي أن اللون الذي تقدمه نجوى كرم وعاصي الحلاني ليس تراثاً، بل خلطة هجينة ابتدعتها مدرسة استديو الفن، وأطلق عليها تسمية الأغنية الشعبية التراثية، ويوضح “في بداياته قدم عاصي الحلاني الهوارة ثم اتجه كما نجوى كرم إلى الأغاني الجبلية التي تجمع بين البدوي والتراثي، وهو مخلوق هجين يعكس مرحلة التسعينيات بوجود رؤوس أموال كانت تمول الأعمال الفنية في لبنان، ومع الوقت لن يبقى من هذه الأعمال شيء.