حرية – (15/10/2023)
يعد الكرسي أحد أكثر أيقونات الحداثة شأناً لأنه يرمز لأشياء عدة، أهمها العلم والمنزلة المرتفعة للشخص عربياً، والرفاهية والتحضر غربياً، إضافة إلى كونه من أكثر منتجات البشرية شيوعاً وتداولاً بعد الثورة الصناعية. وإذا كان الإنسان العادي يستخدم ملعقة واحدة للطعام، فإنه في المقابل يستخدم وفق بعض الإحصاءات الحديثة ما يقارب ثمانية كراسي يومياً. فهناك في العالم الحديث حالياً ما يزيد على 60 مليار كرسي، منها كراسي الطعام والعمل والمرض، وغيرها، لكن رحلة هذا الكائن الساذج الذي ينتمي إلى عالم الجماد، شابتها منغصات عدة عبر تاريخ الإنسان الحديث، بدءاً بالدور الأزلي عند بعض الحضارات من خلال كونه كرسي العرش الإلهي، بكل ما تمثله الكلمة من أبعاد مقدسة وسامية، مروراً بكونه رمزاً للسلطة والثراء من خلال كرسي الإمبراطور الفرنسي الشهير نابليون الذي يجلس عليه وحيداً، بينما يقف كل الحضور حوله، ووصولاً إلى كونه رمزاً من رموز الموت والوحشة من خلال كرسي الإعدام الكهربائي في العصر الحديث.
عند العرب
لم يجلس ملوك العرب وساداتهم على الكراسي، حتى مع بلوغ بعضهم منزلة أعلى من منزلة الملوك، إذ عرف عن النبي العربي محمد – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يفترش الأرض في مجالسه، ليس لأن الكرسي لم يكن معروفاً وقتها، بل لأن العرب تعودت ذلك، من قبيل الراحة النفسية والتواضع. مع ذلك، جاءت آية الكرسي في القرآن الكريم بمثابة أهم آية قرآنية، لأنها تتضمن معاني ذات علاقة بالعلم، وطرد الخرافة والسحر. وتقول المعاجم اللغوية العربية إن كلمة الكرسي تتضمن تلقائياً معنى العلم عند العرب، وذلك ما جعل منزلة العالم أعلى من منزلة الإنسان العادي. فالكرسي عند العرب هو “مقعد من الخشب ونحوه لجالس واحد”، وهذ ينطبق على السرير، وهو مركز علمي لأستاذ الجامعة، كما أن التشابه الكبير بين مفردة كرسي وكلمة كراسة التي تعني الجزء من الكتاب أو الدفتر، تؤكد ذلك المعنى. وعلى رغم وجود مضامين سلبية للكرسي عربياً أهمها الكسل والخمول، فهو كناية عن التقاعس في طلب الرزق، لذلك استخدمت مفردة “التكريس” بدوياً للتعبير عن تكدس وتراكم فضلات بعض الحيوانات في الصحراء، أو تكدس الزرع والمحاصيل في البيادر بسبب تأخر الفلاح في جمعها.
في الغرب
في المقابل، يؤكد بعض علماء الحداثة أن إنسان الكرسي، أو ما يسمونه “الأنثروبوسين”، ما هو إلا كائن مدجن، إذ اقتصر نشاطه الحيوي على النشاط الذهني، بسبب طبيعة عمله ونمط حياته الجديد، الذي يخلو تماماً من النشاط الجسدي، إذ أسهمت الكراسي في إحداث تغييرات دائمة في أجسادنا. وأصبح من المستحيل على الإنسان الحديث أن يتجنب الجلوس على الكرسي، فهي موجودة في أماكن العمل بكثرة، وفي المطاعم والمقاهي والحانات ودور السينما والسيارات والمدارس، وفي كل مكان حولنا. ولم يظهر اسم الكرسي قديماً حتى في الكتاب المقدس، ولا في ترجمة الإلياذة للإغريقي هوميروس، ولا حتى في مسرحية (هاملت 1599)، بينما ظهر اسم الكرسي في رواية حديثة بعنوان “المنزل الكئيب” للأديب تشارلز ديكنز 187 مرة.
صحياً
تغلغلت هذه القيمة الحديثة في المجتمعات العربية والعالمية حديثاً بشكل كبير. وصار كل ما يرمز للزمن الماضي عربياً مرتبطاً باستخدام الإنسان لأقدامه، من خلال المفردة العربية (قديم)، إذ حلت وسائل مثل السيارة والطائرات والدراجات وغيرها من وسائل النقل، مكان تنقل الإنسان على قدميه، سواء لمسافات قريبة للغاية أحيانا،ً أو حتى السفر خارج البلاد. وأصبح المشي أو الركض قيمة منفصلة عن واقع الحياة ويمارس كرياضة منعاً لتردي الأحوال الصحية للإنسان المعاصر. وفي بحث أجرته “بريتش هارت فاونديشن”، وهي مؤسسة طبية معنية بصحة القلب، تبين أن الإنسان المعاصر يقضي 75 في المئة من وقته دون نشاط حركي، يقضي منها نحو 10 ساعات من اليوم جالساً، مما قاد إلى الربط الوثيق صحياً بين عادة الجلوس على الكرسي وبين مختلف أمراض التمثيل الغذائي، ومنها السكري وأنواع من السرطان، إضافة إلى ضمور العضلات غير المستخدمة، وتضخم حجم العظام، الذي يقود لأوجاع الظهر المزمنة وغيرها من الأعراض المزعجة التي يعانيها غالبية الناس يومياً.
أخيراً، ذكر الباحث المتخصص في هذا الشأن فيبار كريفن أنه “مع دخولنا عصر التقنيات وصناعة الترفيه، احتاجت هذه الصناعات إلى سيقان للجلوس عليها، وذلك كناية عن ارتباط مصير تلك الصناعة الضخمة وغيرها من الصناعات الحديثة، بقلة النشاط الجسدي للإنسان المعاصر”.