حرية – (15/10/2023)
يعزز الهتاف الجماعي الشعور بالانتماء والاتصال العاطفي بين الأفراد في المجموعة، ويقوي الشعور بالاتحاد بين الأشخاص الذين يرتبطون عاطفياً بقضية ما يهتفون لأجلها، فتتضح الهوية والأهداف المشتركة مما يعزز فرص فوزها، بغض النظر عن نوعية هذا الفوز سواء كان مباراة كرة قدم أو انتخابات لرئاسة الدولة، فالهتاف في كل الحالات يؤدي الدور نفسه في تعزيز وحدة الجماعات والشعور بالانتماء فيها.
وفي علم النفس الدوائي يؤدي الهتاف المتواصل إلى زيادة في إفراز هرمون الاندورفين، وهو ما يساعد في تحسين الحال المزاجية بصورة طبيعية، وكما يمكن لهرمون الأدرينالين أن يحفز على المنافسة والتحدي يقوم الأندورفين ببث الشعور بنوع من أنواع النشوة، مما يجعل أية جماعة مطواعة ويمكن تسييرها، وفق شعارات أو مواقف أو أنواع من المنافسات قد تبدو لا تستحق كل هذا الاهتمام والهتاف وبذل الجهد وإهدار الطاقة لأجلها.
لكن يقول علماء النفس إنه بعد حين يصبح مطلب الجماعة اللاشعوري مزيداً من هرمون الأندروفين، كما يحتاج المغامرون والرياضيون إلى مزيد من الأدرينالين، ويتحول طلب هذا الهرمون إلى نوع من الإدمان الفردي يتم تظهيره في الانحياز الأعمى أو المطلق لهدف معين أو لحزب سياسي أو فريق رياضي أو حتى فكرة جديدة.
وفي الجانب النفسي أيضاً يمكن أن للهتاف الجماعي أن يسهم في التحرر من الضعف العاطفي ويمنح من يقوم بالهتاف فرصة للتنفيس عن تراكمات شخصية قد لا تكون على علاقة أبداً بالموضوع الذي يجري الهتاف لأجله، ومن وجه آخر فإن الدعم الاجتماعي الذي يحققه هو أحد السبل المتبعة لتحسين الصحة العقلية في مواجهة تحديات الحياة.
ما بين السياسة والاجتماع والتلفزيون
في علم السياسة يعتبر الهتاف الجماعي مثبتاً لمعتقدات وقناعات الهاتفين في مجموعة، وكلما ارتفع عدد أعضائها كلما كان الشعور باليقينية من الموقف السياسي المتبنى أكثر تأكيداً، ويعتقد بعض الباحثين أن الهتاف الجماعي يسهم في الاستقطاب السياسي العقائدي الجامدي أو الدوغما، لأنه يخلق عقلية “نحن ضدهم” أو “هم ضدنا” أو “نحن على حق”، مما يؤدي إلى زيادة الانقسامات والعداء بين المجموعات السياسية المختلفة.
وفي السياق الاجتماعي يمكن للهتاف أن يسهم في إثارة الانتباه إلى قضايا معينة لا تلقى اهتماماً وتستخدمه معظم الحركات الاجتماعية المعترضة، سواء كانت أحزاب أو جمعيات أو نقابات أو حتى مجموعات مستقلة ذات أهداف مشتركة، لأن الهتاف الجماعي أداة قوية ومستخدمة عموماً للتعبير عن السخط والمطالبة بالتغيير، وفي خليط النظرة النفسية والاجتماعية فإنه قد يكون مرآة تعكس ديناميكيات تشكيل هياكل السلطة والتسلسل الهرمي داخل المجتمع ومجموعاته، وبالتالي داخل هرم السلطة نفسها.
وغالباً ما يكون الهتاف الجماعي موجهاً، مما يعني أن الموجه في مركز مختلف عن مركز الهاتفين الذين يرددون ما يهتف به على مسامعهم، عدا عن قدرة بعض الهاتفين بين الجماعة الدنيا في التركيبة الهرمية أن ينتقلوا صعوداً داخلها، سواء بسبب رفعهم شعاراً يلقى قبول جماعة “الهتيفة” والقدرة على تحشيدهم، أو بسبب الكاريزما الخطابية التي تجعل من خطاب بلا قيمة موقفاً تاريخياً.
ويعد الزعيم الكوبي فيديل كاسترو مثالاً عن هؤلاء القادة الذين يتمتعون بكاريزما الخطابة ولو كانوا يتكلمون عن يومياتهم الرتيبة، ويتمكنون من شد سمع الجمهور لهم، فكان يلقي الخطاب الواحد لمدة تتجاوز الساعات الخمس من دون أن يمل تابعوه أو معتنقو شعاراته من سماعه.
ويقال إن معظم قادة الأحزاب النازية والفاشية والشيوعية التي حكمت أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، كانوا من هذا النوع من الأفراد الذين تسلقوا داخل الهرم المتسلسل لأحزابهم صعوداً حتى الأعلى، ومنهم الروسي فلاديمير لينين والألماني أدولف هتلر والإيطالي بينيتو موسيليني، وكذلك الفنرسي شارل ديغول والإسباني فرانثيسكو فرانكو.
وفي عالمنا العربي يوضع الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر الداعي إلى الوحدة العربية من ضمن هذه المجموعة، ومثله الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والرئيس السوري حافظ الأسد.
والأمر كله يدور حول تأثير الخطابة في الواقعين تحت تأثير الخطيب وسحره أو مفتعلي الانسحار تحت وطأة الخوف أو المصلحة الشخصية أو المسحورين بصورة إجبارية، وترفع تجارب الهاتفين أو المشجعين المجبرين على القيام بهذا الفعل كما يحدث في الأنظمة الشمولية، كمثال استخدمه التلفزيون الذي يقوم باستئجار المشاهدين داخل الأستوديوهات.
ويقوم مدير المسرح بدفعهم إلى التصفيق أو الهتاف أو الضحك وفقاً لمجريات التصوير، فالهتاف الجماعي ليس نابعاً بالضرورة من قناعة.
نظرية الهوية الاجتماعية
وتشير هذه النظرية إلى أن الأفراد يصنفون أنفسهم مع آخرين في مجموعات اجتماعية ليستمدوا شعوراً بالتقدير الذاتي والانتماء من توكيد عضويتهم في مجموعة معينة، والنظرية الأخرى تقول إن الهتاف في أصل حضوره كان وسيلة لتحرير الطاقة العاطفية المتراكمة، وقد يكون دافع الانخراط في عملية التصفيق أو الهتاف الجماعي محاولة لتجنب الشعور بالإقصاء أو الاختلاف عن المجموعة.
ولا تزال المجتمعات الإنسانية تقوم بتطوير طقوس مختلفة للتعبير الجماعي تُحدد بحسب السلوكيات والمناسبة، فاختراع التصفيق كان من خلال المسرح اليوناني كتعبير عن التقدير والاحترام، ولكن هناك مجتمعات تعبر بمجرد الصمت عن هذا التقدير والاحترام ومنها اليابان والصين القديمة.
الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون اعتبر في كتابه “علم نفس الحشود” الذي نشر عام 1895 أن الأفراد في المجموعة يكونون عرضة للتأثر أو الانجذاب بشدة إلى آراء ومواقف وعواطف وطرق تعبير الآخرين، مما يؤدي إلى انتشار سريع لحال تعبيرية مشتركة مثل التصفيق، فما أن يبدأ شخص ما بالتصفيق أو الضحك أو الصراخ حتى يلحقه الباقون لا شعورياً، تصفيقاً أو ضحكاً أو هتافاً وكأنها تنتقل بالعدوى.
وبرأي لوبون فغالباً ما يميل الأفراد إلى التخلي عن هويتهم الفردية وتبني الفكرة الجماعية، ويمكن لفقدان الهوية الشخصية أن يجعل أصحابها أكثر انجذاباً لتبني معتقدات متطرفة تقوم كلها على أساس إيجاد عدو محدد والإشارة إليه، وفي حال لم يكن موجوداً في الواقع فيمكن خلقه أو إيجاده، وهذا ما يجري في كل الأحوال داخل الصراعات السياسية.
وفي مجمل أعماله ركز لوبون على “علم نفس الجماهير” ليؤكد دور العواطف والشغف المشترك في تشكيل السلوك الجماهيري، وكيف يمكن للعواطف الجماعية أن تؤدي إلى التعصب بسبب فقدان الهوية الفردية داخل الجماعة.
أما الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو فسبق مواطنه غوستاف لوبون في الإشارة إلى أهمية “الإرادة العامة” للمجتمع في حال تم استخدامها في سبيل تحقيق مصلحة جماعية قائمة على فكرة الخير وتبادله، وحذر في الوقت نفسه من خطورة الإرادة الجماعية المتشددة والمتصلبة أو المضللة في نشر التعصب أو الاستبداد.
من جهته أطلق الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر على ما سماه لوبون “سيكولوجية الجماهير” ومرسو “الإرادة العامة” بـ “النية السيئة”، إذ يتسامح الأفراد مع توقعات المجموعة بدلاً من التعبير عن ذواتهم الحقيقية.