حرية – (22/10/2023)
طارق علي
وجد الآلاف من أهالي الساحل السوري أنفسهم صيادين من جديد كما عمل معظم آبائهم وأجدادهم قديماً، قبل الحركة الصناعية والتجارية وتبدل شكل الحياة الاقتصادية عبر عقود طويلة.
كانت هذه المهنة اليدوية في الغالب قد تراجعت كثيراً في مراحل متعددة لأسباب متنوعة، بينها ضغط توجه المجتمع نحو بيئة العمل الجماعي وإيجاد طرق أشمل وأوسع وأسرع للكسب، تماشياً مع نمط الحياة السريع السائد.
اليوم تمتلئ من جديد مناطق الصيد الساحلي والبحري بالصيادين الجدد الذين يجنون عبر هذه المهنة دخلاً يكون جيداً للغاية في معظم الأحيان، وهم يجاورون تلك القلّة التي ظلّت متمسكة بممارسة الصيد، لأسباب بينها ما هو متوارث عائلياً بين أشخاص يعرفون بـ”ريّسي البحر”.
المهنة التي كان يصفها أصحابها بأنّها متوجهة للاندثار لقلّة العاملين بها، تنتعش اليوم إلى حدٍّ ما، وسط مخاوف من أن تهمل من جديد، وتلك المخاوف لا ترتبط بقيمة المهنة نفسها أكثر من ارتباطها بكونها أثراً عينياً مهنياً فولكلورياً عرفت به شواطئ المتوسط منذ حقب مغرقة في القدم.
صبرٌ وجرفٌ ومياهٌ وقصبة
بالنسبة إلى سعادة حلّوم، أحد الموظفين في اللاذقية، فإنّ توجهه إلى الصيد لم يكن بداية نابعاً من بعد اقتصادي بقدر ما هو ناجم عن حالة الفراغ الكبير التي يعيشها الشباب السوري وانعدام سبل الترفيه خلال الحرب.
عن ذلك يقول: “حين أنتهي من دوامي الوظيفي ظهراً لا يكون لديّ شيء أفعله طوال اليوم، والدي كان صياداً، قررت أن أعيش التجربة التي كنت أسمع عنها من والدي وكم تمنح السكينة والراحة، ولم يكن الأمر يتطلب أكثر من قصبة عادية وسلكٍ وبعض الأطعمة الدودية”.
سعادة لا يعتقد أنّ الصيد يحتاج معدات مبالغاً بها، يصف ما يحتاجه بالقول: “صبرٌ وجرف صخري ومياه مالحة وقصبة عادية”. وفي رحلة الصيد اليومية تلك يؤكد أنّه في كثير من الأيام يعود إلى منزله حاملاً ما يكفي من طعام الغداء من أشهى الأسماك من دون أن يكلفه الأمر شيئاً.
وكذلك ربّ الأسرة علي حميري الذي عاد إلى الصيد من جديد بعدما كان تعلمه طفلاً، ولكنّه عاد إليه هذه المرة مرة أو مرتين أسبوعياً، وهو ما يكفي ليعود بطعام لمنزله يحارب فيه غلاء أسعار اللحوم في الخارج.
يقول: “الصيد مهنة نبيلة، ليست سهلة، لكن فيها الكثير من الكرامة والمحبة. صنارتنا الصغيرة ربما لا تلتقط إلا سمك السردين، لكنه يكفي، أساساً هو عماد أكل السمك البحري في شواطئنا، وصحيح أننا ننظر قبالتنا إلى أصحاب الشباك الكبيرة وما يحصلون عليه من البحر الكريم، لكن ليرزقهم الله تلك مهنتهم، أنا والصيادون نجد أننا الأغنى، إذ نستطيع أن نطعم عائلاتنا بكدّ يميننا وعرق جبيننا”.
شباك المهنة
علي وسعادة هما مثلان عن أشخاص ليسوا قلائل وجدوا سبيلاً لإدخال اللحوم إلى منازلهم من دون احتياج أحد، لكنّ آخرين طوروا هذه الطرق وصار اهتمامهم منصباً باتجاه تحقيق الكسب من الصيد، وهو ما كان يتطلب وسائل وآليات جديدة في ممارسة الصيد.
تلك الطرق تجمع عادةً بضعة صيادين على متن قارب صغير أو “فلوكة”، يملكون شباكاً مبحرين نحو بعض العمق قبالة الشواطئ عبر محرك دافع يعمل على الديزل، وهناك حيث يصلون إلى مبتغاهم يرمون طعومهم وحين تتجمع الأسماك، آلاف الأسماك، يرمون شباكهم قابضين عليها، ومن ثم يتوجهون إلى الأسواق لبيعها.
أسواق كبيرة
قبل أيام بيعت في أسواق أسماك بانياس، وهي أكبر أسواق السمك في سوريا، كمية إجمالية في يوم واحد تخطى وزنها 4 أطنان من سمك السردين الصغير وحده، إضافة لأنواع أخرى تشتهر بها البيئة البحرية السورية.
رقم 4 أطنان قد يبدو كبيراً جداً، لكنّه بيع فعلاً قبل أيام، وقد يكون بيع سابقاً وسيباع لاحقاً، فسكان الساحل يحبون أسماكهم ويقصدون أسواقها إن لم يكن للشراء فلفضول معرفة ما اصطيد اليوم من غرائب الأسماك، وبين تلك الغرائب قروش كثيرة تقع في شباك الصيادين بين وقت وآخر، وتلك القروش تباع على الفور، فلحمها “شهي” على ما يقول باعة لـ”النهار العربي”، مع الأخذ في الاعتبار وجود أنواع غير قابلة للأكل.
وما سهل دعم نشاط هذه السوق بصورة كبيرة على الدوام هو انخفاض أسعارها الواضح قياساً بالدجاج واللحوم الحمراء، ما جعل الإقبال الشعبي متزايداً عليها ويومياً من دون انقطاع مقارنة بتناقص هائل في الإقبال على بقية اللحوم (كيلو الدجاج 62 ألف ليرة – 4.5 دولارات)، كيلو السردين 12 ألف ليرة (أقل من دولار).
“صيادو الظلام”
لا يمنع القانون السوري الصيد إلّا في حالات بيئية موقتة معينة، ويجرم ممارسات معينة أبرزها استخدام المتفجرات بالصيد، وكذلك خلال العواصف والرياح العاتية التي تشكل خطراً على حياة الصيادين.
وبين تلك الحالات يتنامى قلق لا يخبو بين نفوس الصيادين من الفئة التي يصفونها بـ”صيادي الظلام”، هؤلاء الذين لا ينتمون إلى أصحاب الشباك النهارية ولا أولئك الشاطئيين ذوي الصنارة، بل هذا الصنف يبحر ليلاً تحت ضوء القمر، وحين يصل إلى هدفه يستخدم أصابع الديناميت لقتل الأسماك.
أبو هائل أحد صيادي الشباك الشرعيين يروي لـ”النهار العربي” عن مخاطر أولئك الصيادين وأهدافهم بقوله: “أولئك متمردون وخارجون على القانون لا يملكون الوقت ولا الصبر والبصيرة وأسس الصيد، لا يريدون انتظار تجمّع الأسماك، وحين تتجمع الأسماك لا يكتفون بنصيبهم وبأعدادها فيرمون عليها الديناميت ليقتلوها ويجمعوا أكبر قدر منها وبأقل وقت، هؤلاء يؤثرون علينا وعلى البيئة المائية وتنوعها ونشاط الأسماك، ما يجعل الصيد مع السنين أكثر صعوبة”.
بين النشاط الفردي وعدم الاستسلام الجمعي
كذلك يعرف عن الصيد بالعموم أنه يستقطب الكثير من الهواة الذين يمارسونه كنشاط ذهني يحمل معه راحة فكرية وآفاقاً للتأمل، كما روى بعض أولئك الهواة الذين لا يحتاج التفكير بما يفكرون به حين الصيد الكثير من الفطنة، ففي بلادهم مآزق كثيرة تحتاج أن يظلّ الصياد مكانه لعقود مطرقاً ومفكراً.
ورغم ذلك، يمكن بوضوح النظر إلى عودة الصيد كحالة جماعية على أنّها محاكاة لشكل مجتمع بسيط كان قائماً على الشريط الساحلي التاريخي، معتمداً على الجهود الفردية في الصيد بحراً والزراعة جبلاً كبديل من الاستسلام المطلق للخسارة الفردية والجمعية.