حرية – (25/10/2023)
منذ أن وجهت إسرائيل إنذاراً لأهالي القسم الشمالي لقطاع غزة بالاتجاه جنوباً، حتى بدأت تنتشر على حساب أفيخاي أدرعي، الناطق باسم جيش الاحتلال، خرائط لقطاع غزة، ترسم شكل الإخلاء و”الطرق الآمنة”، الأمر الذي أكدت المنظمات الدولية استحالته. لكن اللافت في هذه الخرائط، هو اختزالها مأساة التهجير، والتصور الإسرائيلي الذي يرى سكان قطاع غزة كتلة بشرية يمكن نقلها شمالاً وجنوباً، كأنهم ليسوا بشراً ذوي حيوات ومنازل وتاريخ، بل كتلة واحدة يمكن التلاعب بها.
الخريطة الأولى التي نشرها أفيخاي أدرعي عبر منصة إكس، يظهر فيها “الطريق الآمن” لنقل المدنيين جنوباً عبر شارع صلاح الدين. الخريطة لا تحوي أي تفاصيل أخرى سوى الطريق بشكله الضيق وانحناءاته، ناهيك عن أنها لا تكشف أي تفاصيل أو تضاريس أخرى. خريطة بسيطة جداً وبدائية، أشبه بشارة طرقيّة مفادها: “اتبع السهم لتنجو بحياتك”، ولم يتغير الأمر حين نُشرت الخريطة الثانية التي أضيف إليها طريق جديد، وهو شارع البحر.
المفارقة تتضح حين تظهر صور الأقمار الاصطناعيّة، ليست تلك التي تكشف استهداف إسرائيل للهاربين، بل تلك التي تظهر حواجز غير واضحة، اتهمت إسرائيل حماس بوضعها لعرقلة الإخلاء. وهنا السؤال: لِمَ تظهر التكنولوجيا والصورة الحقيقية في هذه اللحظة؟ الإجابة قد تكون بسيطة وهي الرغبة بعد نشر صورة الطريق الفعلية، التي يتضح من الصور ازدحامها وتكشف استحالة الإخلاء، والأهم، إخفاء أي أثر لاستهداف “الطرق الآمنة”، ذاك الذي لا يظهر في الخريطة ذات الرسوم.
في السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول، تغيرت الخريطة، وكانت موجهة لسكان حي الزيتون، كي يهربوا جنوباً. لكن، هذه المرة الطريق غير محدد، مجرد سهم عريض يتجه نحو الجنوب. ما من طريق واضح، ولا معالم لكيفية للانتقال. مجرد رسالة لكتلة بشريّة عليها الانتقال بالشكل الذي تراه ملائماً، ثم تلتها خريطة أخرى تشير إلى “منطقة المساعدات الإنسانيّة”.
المرعب أن الخرائط تحدد المناطق التي يجب إخلاؤها، في الشمال تدريجياً، ولا تقدم أي معلومات سوى الترهيب وضرورة الرحيل. هي بالعربيّة، أي موجهة لفئة محددة فقط، هي خرائط تعكس ضرورة نقل الكتلة البشريّة بأي ثمن ممكن، هي تعتمد على معرفة السكان أنفسهم، وقدرتهم المستحيلة على تفادي القصف العشوائي، ولا ترسم درباً واضحاً وآمناً، فقط سهم عريض يتجه جنوباً.
هذه البساطة في الخريطة تعكس تراجيديا التهجير. السيناريو المرفوض كلياً كي لا تتكرر النكبة مرة أخرى. والأهم، هي رسالة ساخرة نوعاً ما لقرّاء العربيّة، تبسيط أقرب ما يكون إلى تبسيط دونالد ترامب لأي مشكلة. بصورة ما، تبدو نجاة المدنيين سهلة: “انظروا، الحل بسيط، انتقلوا من هنا إلى هناك”. هذا ما تقوله الخريطة، من دون أي اعتبار أن هذا تهجير، هو فقط نقل بسيط، ومن لا يلتزم… سيُقصف.
صورة الخريطة وشكلها وأسلوبها يختزل المأساة وينسف إنسانيتها. وهذا ما هو موجه لنا نحن ناطقي العربيّة. هي محاولة لتبسيط ما يحصل، واختزاله في عملية بسيطة ستعود بعدها الأمور إلى حالها. ناهيك عن أن الخريطة لا تقول مثلاً إلى أي حي يجب أن يتجه المهجرون، أو كيف يمكن لهم الانتقال في ظل ما يحدث. كما أن المساحة الآمنة المفترضة ليست واضحة، وما مِن صور لها. كل ما تقوله الخريطة هو ضرورة “الاتجاه جنوباً”.
المأساوي أيضاً في صورة الخريطة أنها ترسم الحدود البرية للعملية العسكرية الإسرائيلية المُحتملة. هي تشير بوضوح إلى المساحة المستهدفة، من دون أن تفاصيل تخصها، هي فقط مساحة لا بد من “تطهيرها”، من دون الأخذ بعين الاعتبار أنها من أكثر المساحات السكانيّة في العالم كثافة. الخريطة بهذا الشكل، تصادر الأفراد وتحولهم إلى بيادق، يمكن نقلهم وتكديسهم، هي لا تعكس الاستحالة، بل تختزل التهجير، بوصفه مجرد رحلة قصيرة، وليس بوصفه جريمة حرب لا تُنسى ولا تغتفر.