حرية – (26/11/2023)
تتجلى قوة الأطعمة في قدرتها على تخطي الحدود الجغرافية والسياسية، إذ تعد أداة سياسية فعالة تستخدم من قبل الدول والمنظمات كسفرة دبلوماسية تحمل معها قصصاً وتاريخاً يتحولان فيها إلى مصادر للمعرفة والتفاعل الثقافي، وواحدة من الثورات السياسية الناعمة التي قد تتبادر إلى أذهاننا معها الصور العتيقة للمتمردين والتظاهرات والشعارات السياسية التي يمكن أن يستبعد منها الطعام كجزء من الحركات الثورية.
تحكي الأطباق الشهية عن الانتصارات والصراعات، وتتحول إلى أسلحة سرية في عالم الدبلوماسية فهي ليست مجرد مجموعة من النكهات والمكونات، بل قوة سياسية تتغلب على الانقسامات وتجمع العالم على مأدبة واحدة لإشباع جوع الهوية.
“البوريتو” و”التاكو” الثوري
في القرن الـ20 خلال الثورة المكسيكية وتراشق الثوار في الطريق نحو الاستقلال عن الديكتاتورية، كان على المواطنين المكسيكيين العمل بجد لإعالة أنفسهم بعد صراع طويل، ووفقاً للنظرية الشائعة قام أحد الباعة المتجولين يدعى خوان مينديز بتغليف طعامه بخبز التورتيلا لنقل وجباته بأمان مع إبقائها دافئة، إذ كان ينقل نفسه على حمار صغير يسمى “بوريتو” بالإسبانية، ولم يمض وقت طويل حتى أدرك أن تقديم وجباته بهذه الطريقة يمنح طعامه نكهة أخرى.
وما يجعل الأمر أكثر غرابة أن “البوريتو” كان أحد آخر الأطعمة المكسيكية التي تم تناولها في الولايات المتحدة، يجيب جوستافو أريلانو مؤلف كتاب “تاكو الولايات المتحدة” عن سؤال كيف غزا الطعام المكسيكي أميركا؟ ليبين أنها ولدت في الولايات المتحدة أو تغيرت بشكل لا رجعة فيه بعد عبور الحدود، ويرفض أريلانو ادعاءات الأصالة ويحتضن ثمار الاختلاط الثقافي ويرجح أن الرواية الأقرب إلى الحقيقة هي أن “البوريتو” جاءت من سونورا (ولاية شمال غربي المكسيك) حيث الناس اخترعوها هناك لسهولة حملها في السفر وجاء اسم “بوريتو” تصغيراً لمعنى الحمار الذي يتنقل عليه.
كان من السهل على الأميركيين أن يتقبلوا “البوريتو” لأنه لم تكن لديهم أفكار مسبقة حول الطعام المكسيكي، وسرعان ما وجد موطناً له في جنوب كاليفورنيا ومهد له طريق الوصول إلى أصحاب النفوذ، فعلى سبيل المثال أحضر ريتشارد نيكسون الرئيس الـ37 للولايات المتحدة الأميركية سندوتشات “التاكو” إلى البيت الأبيض، بل وسافر للحصول على الطعام المكسيكي في تيجوانا بعد انتخابات عام 1960.
صراع الأصول
ومن الممكن أن يكون لتأثير الطعام أبعاد أكثر اتساعاً وتأثيراً للنضال بدلاً من التظاهرات والشعارات، إذ يزعم البعض أن “المنسف” الذي يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد أحد تلك الأطعمة التي هزمت اليهود، ونشأت لتعبر عن الصراع العربي – اليهودي في زمن الملك ميشع، فكانت عقيدة بني إسرائيل تحرم طهو اللحم باللبن، وأراد الملك التأكد من إخلاص شعبه، فأمرهم بطهو اللحم باللبن، وفي ذلك نسف لعقيدة بني إسرائيل، ومن هنا جاءت تسمية “المنسف”، الأكلة الأردنية والفلسطينية الشهيرة.
ومن جهته يقول أستاذ العلاقات الدولية في الأردن حسن المومني إن “المنسف يعود أصله إلى الأردن وليس فلسطينياً، وأما من جانب السياق العربي الإسرائيلي فلم يكن موضوع الطعام سبباً في نشوب الصراع أو أدى إلى أزمة معينة في فترة ما، وعادة ما ترتبط بهذا الجانب صراعات الهوية”.
الكاري والشاي الاستعماري
في القرن الـ17 زار البريطانيون الهند بحثاً عن التوابل كتجار، وسرعان ما نشرت المنظمة التجارية البريطانية، “شركة الهند الشرقية “وحداتها في جميع أنحاء البلاد، وفي عام 1757 تسلطت الشركة تدريجاً على السياسة الداخلية للبلاد وأصبحت القوة الغالبة في الهند، حينها تمت السيطرة الرسمية للمملكة المتحدة على الهند بعد نحو 100 عام من حرب الاستقلال الأولى، المعروفة أيضاً بتمرد سيبوي، ثم في عام 1857 كانت هذه المحاولة الأولى من نوعها لانتفاضة واسعة النطاق ضد شركة الهند الشرقية من قبل الهنود الأصليين قبل أن يتم حل الشركة في عام 1858، وأصبحت الهند مستعمرة بريطانية تحت سيطرة المملكة المتحدة.
وما يربط قوى الاستعمار صياغة التاريخ في وضع الكاري والشاي على الطاولة، فمن خلال الاستعمار البريطاني تم تعزيز زراعة الشاي والكاري في الهند بغرض تلبية حاجات السوق البريطانية، فمن خلالها نمت صناعة الشاي في الهند بسرعة وأصبحت مصدراً مهماً للتجارة مع بريطانيا وبقية العالم، أما بالنسبة إلى الكاري فكان من بين المنتجات التي جذبت البريطانيين إلى الهند بهدف استيراد الكاري الهندي إلى بريطانيا وأوروبا، حتى أصبح واحداً من التوابل الأساسية في المطبخ البريطاني، وروج الإنجليز تجارتهم بغرض زرع المحاصيل مثل الكركم والكمون والهيل في الهند لتلبية الطلب المتزايد عليها.
مكيدة سياسية
يقول عزام الشدادي المتخصص في الشؤون الخارجية وعضو جمعية العلوم السياسية بجامعة كينغستون “في فترة المماليك كانت شجر الدر المعروفة بأم خليل الزوجة الثانية لعز الدين أيبك أول سلاطين المماليك، قد واجهت معارضة شديدة من قبل مماليك بلاد الشام بأن تتولى حكمهم امرأة، إذ حدثت المؤامرات والاغتيالات للتخلص من عز الدين أيبك من قبل زوجته الثانية شجر الدر وقتلته، فعلمت أم علي الزوجة الأولى بقتل زوجها السلطان، وأمرت أم علي جواريها بضرب شجر الدر وقتلها، ثم نصبت ابنها نور الدين علي بن عز الدين أيبك سلطاناً، وبهذه المناسبة أمرت أم علي بخلط كل من الدقيق مع السكر والمكسرات في ما يعرف اليوم بطبق أم علي، وهو طبق ارتبط بتنصيب الحاكم الجديد”.
الحمص الدبلوماسي
لم يكن التنازع بين الفلسطينيين والإسرائيليين قائماً فقط على القضايا السياسية والأراضي والحقوق، بل اتخذ الحمص مكاناً حيادياً في الصراع، وأردف الشدادي أن اليهود زعموا أنهم أول من اخترعوا الحمص بحسب ما جاء في أحد كتبهم المقدسة قبل 3 آلاف سنة، وتطور هذا الصراع حتى ألفت الكاتبة ليورا غفيون كتاب “الحمص والفلافل في الجوانب السياسية والاجتماعية”، وذكرت بأن الخلاف على الحمص والفلافل هو خلاف قديم تصل جذوره إلى اليونانيين والأتراك.
وأضاف المتخصص بالشؤون الخارجية أن علاقة السياسة بالمائدة وأطباقها هي علاقة تشكل الهوية السياسية للدول، فبعض الأطباق البسيطة المكونات تكون ذات رمز ودلالة لبعض الدول على الصبر والثبات، والبعض الآخر دلالة على الرفاهية الاقتصادية، فالطعام والسياسة يرتبطان بشكل قوي على مر التاريخ، ويصيغان هوية الشعوب والدول ويشعلان الصراعات في مرات ويعقدان السلام والاتفاقات في مرات كثيرة.