حرية – (29/11/2023)
أعادت الحرب في قطاع غزة وفي أوكرانيا وقبلها عدد من النزاعات المتنقلة بين أفغانستان والعراق وإثيوبيا والسودان، واللحظة الراهنة المتكشفة عن حجم هائل من الدمار في القطاع الفلسطيني، وعن عدد غير مسبوق من القتلى في مدة زمنية قصيرة يقع أمام أنظار الرأي العام العالمي، كل ذلك أعاد طرح السؤال الذي لطالما كان مطروحاً خلال القرن الـ20، ولم يتوقف في القرن الـ21، حول التناقض بين التطور التقني الفريد في المجتمعات الإنسانية مضافاً إلى تطور العلاقات الإنسانية ومواثيقها ومبادراتها ومعاهداتها، وطرق البحث عن السلام ونبذ العنف بكل ما يمكن من وسائل متوافرة، إضافة إلى التقدم العلمي على كل المستويات بدءاً من علوم الفلك وسباقات غزو الفضاء الخارجي أو التقدم المحسوس في أدوار الذكاء الاصطناعي أو في ثورات الاتصالات والإنترنت التي لم تعد من الكماليات،، بل من أساسيات العيش، هذا كله سائراً بالتوازي مع العنف العاري والقاسي الذي يمارسه هؤلاء البشر أنفسهم تجاه بعضهم بعضاً، والأسئلة المطروحة تتناول أسباب هذا التناقض المستغرب وغير المنطقي.
طبيعة النزاعات
أولاً، الأمم المتحدة تحاول وتقلق وتتفاءل.
هيئة الأمم المتحدة حاولت الإجابة عن هذا السؤال في تقريرها السنوي بمناسبة مرور 75 عاماً على تأسيسها، فوجد تقريرها الذي أشرف على تحريره الأمين العام بنفسه، أن طبيعة النزاعات والعنف تغيرت بشكل كبير منذ تأسيس الأمم المتحدة، فباتت أقل فتكاً عن ذي قبل، لكنها صارت أطول أمداً، وكثيراً ما تنشب بين الجماعات المحلية وليس فقط بين الدول.
وفي سياق منفصل، وجد التقرير أن التطور شمل التكنولوجيا واستخدام روبوتات والإنترنت بمثابة أسلحة، واستخدام الطائرات من دون طيار وتكنولوجيا البث المباشر على الإنترنت والهجمات الإلكترونية وفيروسات الفدية وتقنيات اختراق البيانات، مما يقلل من الإمكانات العالمية لمنع نشوب النزاعات ووقوع العنف بجميع صوره وتسوية حالات النزاع والعنف. ويقصد محررو التقرير أن التطور التقني كان بمثابة سيف ذي حدين، فهو يسهم في تأمين السلام للمجتمعات البشرية، ولكن في الوقت عينه يمكنه أن يسبب الدمار لو استخدم في هذا المنحى.
وبحسب تقرير الأمم المتحدة الأخير، فإن الحصيلة النهائية لعدد قتلى الحروب إلى انخفاض على الصعيد العالمي منذ عام 1946، أي تاريخ تأسيس المنظمة الدولية، بيد أن النزاع والعنف يتصاعدان في الوقت الراهن، وتنشب معظم النزاعات اليوم بين العناصر الفاعلة من غير الدول، أو بين الدول الكبرى ولو بالوكالة عبر منظمات أو حكومات محلية تابعة، وأصبح من عوامل النزاع السائدة التوترات الإقليمية التي لم تحل، وانهيار سيادة القانون، وغياب مؤسسات الدولة أو اختطافها، والمكاسب الاقتصادية غير المشروعة، وتفاقم ندرة الموارد بفعل تغير المناخ.
تظل النزاعات هي المحرك الرئيس للإرهاب، ويقع أكثر من 99 في المئة من جميع حالات الوفاة ذات الصلة بالإرهاب في البلدان المنخرطة في نزاع عنيف أو التي ترتفع فيها مستويات الإرهاب السياسي، وتحدث غالبية الهجمات المميتة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث تتحمل أفغانستان وسوريا والصومال والعراق ونيجيريا العبء الأكبر منها، بحسب التقرير الأممي.
ويمكن للتطورات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي والطباعة الثلاثية الأبعاد أن تيسر شن الهجمات البيولوجية، من خلال أتمتة عمليات تصميم وإنتاج الأسلحة والنظم اللازمة لتطويرها، والهدف من الهجمات البيولوجية هو إيذاء أو قتل البشر والماشية والمحاصيل، باستخدام المواد السامة أو الأمراض الواسعة الانتشار، وتتعرض أيضاً البرامج والبيانات البيولوجية القائمة لخطر الهجمات الإلكترونية.
كذلك يتيح الذكاء الاصطناعي استخدام الأسلحة الفتاكة الذاتية التشغيل على رغم المعارضة العالمية الواسعة النطاق لتطوير تلك الأسلحة، فهي تعين هدفاً محدداً وتشتبك معه من دون توجيه بشري، بالتالي تنقل المسؤولية عن الحياة والموت من النظم الأخلاقية البشرية إلى نظم بيانات معقدة، لا مكان فيها لأي إحساس بالتعاطف أو أي بوصلة أخلاقية.
ويشكل استمرار وجود الأسلحة النووية على وجه الخصوص تهديداً متزايداً لبقاء البشرية، وعلى رغم أنه لا يزال بالإمكان تحقيق الإزالة الكاملة للأسلحة النووية، فإن ذلك سيتطلب تجديد الاتفاقات المعلقة والقائمة لتحديد الأسلحة.
السلام عبر العصور
في كتابه The Better Angels of Our Nature، يقدم عالم النفس ستيفن بينكر وجهة نظر متفائلة جريئة للعالم، في وقت يتعامل القراء مع جميع أنواع الأخبار السيئة من خلال النظر إلى الصورة الأكبر للاتجاهات الجارية في تاريخ البشرية، يقول بينكر، إن العنف وصل إلى أدنى مستوياته على الإطلاق اليوم، وحقوق الإنسان، والمساواة الاجتماعية، والمساواة بين الجنسين في أعلى مستوياتها على الإطلاق، وبرأي بينكر يتناقض السجل الأثري العالمي مع الافتراض القائل إن البشرية المبكرة عاشت حروب الجميع ضد الجميع. لا يوجد أي دليل على وجود حرب في أي مكان على هذا الكوكب أقدم من علامة 10 آلاف إلى 12 ألف عام، إضافة إلى ذلك، يظهر عديد من التسلسلات الأثرية أن ولادة الحرب على نطاق إقليمي قد حدثت خلال السنوات الـ10 آلاف الماضية.
ولكن إذا اتبعنا عالم الاجتماع النرويجي يوهان غالتونغ في تبني منظور أوسع للعنف، فسوف يكون بوسعنا أن ندرك بسهولة أن العنف البنيوي موجود على مستويات عالية للغاية في القرن الـ21، يمتد هذا النوع من العنف إلى ما هو أبعد من التنظيم الرسمي لصناعة الحرب، فهو ينبع من الهياكل الاجتماعية السياسية والاقتصادية غير العادلة التي تسبب الألم والمعاناة من خلال الفقر المدقع وسوء التغذية ونقص المياه الصالحة للشرب وتدهور الوضع الاقتصادي.
دوغلاس فراي هو مؤلف كتاب الإمكانات البشرية من أجل السلام (مطبعة جامعة أكسفورد، 2005)، وما بعد الحرب (مطبعة جامعة أكسفورد، 2007)، والحرب والسلام والطبيعة البشرية (مطبعة جامعة أكسفورد، سيصدر قريباً)، تطرق فيها إلى المحيط الحيوي لكوكب الأرض، والتفاوت الصارخ في الثروة داخل البلدان وفي ما بينها، والافتقار إلى القدرة على الوصول إلى الرعاية الصحية، وفرص التعليم، والضمان الاجتماعي. ويترجم العنف الهيكلي إلى بؤس ومعاناة إنسانية لا توصف، وتقصير في متوسط الأعمار.
في مقابلة أجراها عالم الاجتماع غاريث كوك مع الكاتب الباحث ستيفن بينكر، صاحب الكتب الأكثر تفاؤلاً حول العالم، التي تقول إن البشر في حال عليا من التقدم على مستوى استبعاد غرائز العنف فيهم، (بينكر هو أستاذ علم النفس في جامعة هارفارد، وهو مؤلف الكتابين الأكثر مبيعاً: “كيف يعمل العقل” و”الصفحة الفارغة”، يسأل كوك “ما هو برأيك أكبر مفهوم خاطئ لدى الناس حول العنف؟”، فيجيب بينكر “الخطأ الشائع بأننا نعيش في عصر عنيف، برأيي قد يكون هذا الوقت الأكثر سلاماً في وجود جنسنا البشري”. فيستطرد الباحث السائل، “وهل يمكن اعتبار العنف مسألة علمية يمكن قياسها تقنياً؟”، فيجيب بينكر “لقد جادلت منذ فترة طويلة بأن العقل البشري ليس صفحة بيضاء، ولكن يتم تزويده عبر التطور بمجموعة معقدة من المشاعر والدوافع وأنظمة التفكير والتعلم والتواصل، ويخشى المدافعون عن الصفحة البيضاء أن فكرة الطبيعة البشرية تحكم علينا بالصراع الدائم، فإذا كنا قردة قاتلة ومتعطشة للدماء وتديرنا غريزة الموت وجينات العدوان، فمن غير المجدي أن نحاول جعل العالم مكاناً أفضل، لقد جادلت بأن هذه المخاوف غير منطقية، قد تحتضن الطبيعة البشرية دوافع تؤدي إلى العدوان، ولكنها تحتضن أيضاً دوافع مثل التعاطف وضبط النفس والعقل، التي في ظل الظروف المناسبة، يمكن أن تتفوق على النبضات العدوانية”.
عرف علماء الأعصاب منذ زمن طويل أن العدوان عند الحيوانات ليس ظاهرة موحدة يحركها هرمون أو مركز واحد، ويمكن العثور على أنظمة مختلفة لهرمونات الغضب والسعي إلى الافتراس والعدوان بين الذكور في الإنسان العاقل، جنباً إلى جنب مع أنظمة العدوان البشرية الفريدة والموجهة معرفياً مثل الأيديولوجيات السياسية والدينية والعقاب الأخلاقي، واليوم، حتى الأنظمة البشرية الفريدة يمكن فحصها باستخدام التصوير العصبي الوظيفي. لذا فقد أعطانا علم الأعصاب نقطة البداية الحاسمة في فهم العنف، وهو ألا مصدر واحداً له.