حرية – (30/11/2023)
عرف التاريخ العربي في العصور الإسلامية الأولى التأليف والنسخ، ومن ثم ترك لنا كنزاً من المخطوطات التي حملت لنا مضامين دينية وأخلاقية واجتماعية وسياسية، إضافة إلى أخرى علمية كانت بمثابة إرهاصات أولى لكثير من ابتكارات العلوم الحديثة، إلى جانب ذلك تعد الأوراق التي حمل مدادها حروف القرآن عند بدايات جمعه من أندر وأقيم المخطوطات على مستوى العالم.
وكانت مصر أخيراً أعلنت أن دار الكتب والوثائق القومية نفذت عملية ترميم لمصحف حجازي يعود إلى القرن الأول الهجري (السابع الميلادي) والنسخة المرممة هي واحدة من أندر وأقدم النسخ الباقية للمصحف الشريف على مستوى العالم فعمرها يقترب من الـ1400 سنة.
والمخطوط العربي ليس مجرد وسيط يحمل كتابات لغرض معين لكنه وثيقة متكاملة تحمل أحوال العصر الثقافية والفنية والتراثية، فتضم المخطوطات أشكالاً وأنواعاً من الزخارف والمنمنمات التي تميزت بها الثقافة العربية، إضافة إلى أنها تمثل سجلاً يعكس تطور فنون مختلفة أبرزها فن الخط العربي الذي يمكن رصد بداياته وتطوره وأنواعه التي أضيفت لاحقاً مع مرور الزمن.
وتحتاج مثل هذه المخطوطات، لما لها من أهمية تاريخية كبيرة، إلى عناية فائقة بهدف صونها والحفاظ عليها من التلف ومن عوامل الزمن، حيث تعود لمئات وربما آلاف السنين، ومن هنا تأتي أهمية ترميم المخطوطات كعلم يعنى بالحفاظ على جانب مهم من التراث العربي وتوفير سبل الحماية التي تساعد على بقاء المخطوط في حال جيدة لأطول فترة ممكنة.
وعن مفهوم المخطوط يقول رضا فرج المتخصص في ترميم المخطوطات بدار الكتب والوثائق القومية المصرية لـ”اندبندنت عربية” إن “كلمة مخطوطات تطلق على كل ما كتب بخط اليد وعند أهل الاختصاص تتضمن الكتب المخطوطة على البردى أو الرق أو الورق الذي ظهر في عصور لاحقة، فتلك أبرز الخامات التي كتبت عليها المخطوطات”.
ويضيف، “غالباً ما يكون للمخطوطة غلاف، وقد تكون على هيئة لفائف كتبت لغرض ديني أو وثائقي، وعلى مدار التاريخ كانت هناك أنواع أخرى من الكتابات لتوثيق أحداث معينة على أحجار أو على العظام لكنها لا تصنف ضمن مفهوم المخطوطات المتعارف عليه”.
ويتابع فرج “ترميم المخطوطات يهدف للحفاظ على أصل المادة وليس استكمال النص المكتوب أو الإضافة إليه، فالاتجاه العام على المستوى العالمي في هذا التخصص هو ترميم الأجزاء المفقودة واستكمالها طبقاً للأسس العلمية المتعارف عليها باستخدام المواد المناسبة مع مراعاة الإبقاء على الوضع الأثري والقيمة الفنية بقدر الإمكان، فهو عملية علاجية للحفاظ على المخطوط الذي تكون قيمته في ما كتب عليه سابقاً، فالمرمم لا يسمح له بالتغيير في النص سواء بالكشط أو الإضافة أو تغيير أي شيء في النص المكتوب”.
خطوات ترميم المخطوطات
يدخل غير المختصين في حال من الدهشة والانبهار حين يطالعون مخطوطات مُرممة مع عرض صور لها بحالتها قبل الترميم، حيث الأوراق المهترئة بفعل الزمن أصلحت وباتت في حال أفضل بكثير، ما يشير إلى إجراء عمليات معقدة تحتاج إلى المهارة والصبر، فما هي المراحل التي يمر بها المخطوط خلال الترميم؟
يقول فرج “يتعامل المرمم مع المخطوط مثل معاملة الطبيب مع المريض، فالبداية تكون الفحص وتقدير الحالة ومقدار التلف، والتأكد مما إذا كان هناك تلف فطري أو حشري وتوثيق ذلك، ومن ثم الانتقال للمرحلة اللاحقة وهي التعقيم إن كانت هناك حاجة لذلك، ثم تهوية المخطوط لفترة، ومن بعدها يبدأ المرمم في عمله بتنظيف المخطوط بفرشاة دقيقة وفحص وضع التجليد”.
يوضح أن “هناك مخطوطات يكون تجليدها في حال سيئة، وهنا يتم فك المخطوط وترميمه ورقة ورقة ثم إعادة تجليده، وإذا كان التجليد لا يزال جيداً فيتم الترميم من دون الحاجة للفك، فأحياناً يكون جلد الغلاف مهترئاً تماماً ولا يصلح لإعادة الاستخدام وهنا نصنع غلافاً جديداً مطابقاً للأصل الذي نحتفظ به بجانب المخطوط في حالة العرض للأغراض البحثية والتاريخية”.
ويضيف “الترميم عادة ما يكون بشكل يدوي بالكامل، لكن أحياناً تستخدم الآلات في حال وجود مخطوط أوراقه كثيرة وفي حال سيئة للغاية وبه كثير من الثقوب والفراغات، فهنا يكون استخدام الآلة لسد هذه الثقوب وبناء نسيج ورقي لمادة المخطوط بنفس الكيفية ونفس السمك واللون، ومن مبادئ الترميم أن يكون الجزء المرمم مميزاً عن الجزء الأصلي، أما في حالات أخرى مثل ترميم العملات الورقية يكون الهدف الوصول بالجزء المرمم إلى نفس حالة الجزء الأصلي بنفس التفاصيل والألوان وأن يكون الاستكمال غير مرئي، فالبعض يهوى اقتناء العملات القديمة والاحتفاظ بها سواء كهواية أو لأن لها قيمة مادية لندرتها”.
الأكثر صعوبة في الترميم
خامات متعددة كتب عليها السابقون مرت عليها السنوات وتأثر بعضها بعوامل الزمن مما استدعي التدخل للعمل على ترميمها وإعادتها لحال أفضل، لكن تختلف درجة صعوبة الترميم باختلاف المادة التي كتب عليها المخطوط، فمثلاً ترميم البردى، بحسب المتخصص في الترميم رضا فرج، من أصعب أنواع الترميم ويليه الرق ثم الورق، فالبردى عبارة عن ألياف طبيعية صنعت بطريقة يدوية وبها مواد ذاتية التلف بينما الرق المصنوع من الجلد هو أيضاً مادة طبيعية لكنه يتحمل بدرجة أكبر ويتلف غالباً من الأحبار المستخدمة للكتابة عليه لاحتوائها أحماضاً تؤثر فيه. والورق هو الأكثر تحملاً بالتالي يمكنه الصمود لفترات طويلة إذا لم تتوافر عناصر تؤدي لفساده”.
المخطوط العربي وثيقة متكاملة تحمل أحوال العصر
يرى فرج أن لترميم المخطوطات أهمية كبيرة لما تثبته من علاقة بين المكان والزمان، وهو ما له بعد سياسي في الحفاظ على هوية الدولة والدين، لذلك فإن المرمم يجب أن تتوافر فيه سمات مثل الصبر وحب المجال وتقدير ما يقوم به من عمل، ولا بد أيضاً من امتلاكه بعداً فنياً في اختيار الخامات ليخلق تناغماً في الأجزاء المضافة ولا تتنافر مع الأصل.
رقمنة التراث
بات مفهوم الرقمنة متداولاً بكثرة في ما يتعلق بالتراث بشكل عام لتعتمده كثير من المؤسسات المعنية بالتاريخ مثل المتاحف ومراكز حفظ التراث المختلفة لتصبح المواقع الإلكترونية والجولات الافتراضية لهذه المؤسسات لها أهمية كبرى. وفي ما يتعلق بالمخطوطات، بحسب فرج، فإن الرقمنة صارت أمراً أساسياً ومن وسائل الحفاظ على المخطوط بهدف تقليل عملية التداول، ويأتي هذا عن طريق وجود نسخ رقمية يطلع عليها الباحثون، وهو توجه سائد في العالم كله تعتمده كثير من المؤسسات المعنية بحفظ المخطوطات، حيث عرض التراث بصورة إلكترونية سيكون له دور كبير في نشره لعموم الناس وليس فقط المتخصصين أو المهتمين بهذا المجال كما أنه يمكن أن يحقق ربحاً للمؤسسات تستند إليه في تطويرها عن طريق بيع نسخ رقمية من بعض المخطوطات للباحثين والمهتمين”.
ويضيف “إلى جانب الرقمنة هناك سبل متعددة للحفاظ على المخطوطات، أهمها المتابعة الدورية والحفظ بشكل ملائم، إضافة إلى التنظيف والتعقيم ووضع مجسات وكواشف للتعرف إلى وجود إصابات حشرية من عدمه، ووضع المخطوطات داخل حوافظ من مواد عازلة عن الضوء والأتربة والحشرات لحفظها وتوفير أفضل سبل الحفظ للمخطوط من حيث درجة الحرارة المناسبة وغيرها”.