حرية – (30/11/2023)
8 آلاف موقع أثري في العراق تنتظر حملة عالمية لاكتشاف خباياها وآلاف الألواح الطينية في المتحف الوطني تحتاج إلى 200 عام لدرسها.
حين أطلق المؤرخ صاموئيل نوح كريمر (1897 – 1990) المتخصص في حضارة بلاد الرافدين جملته المدوية “التاريخ يبدأ من سومر” في كتابه “طين سومر الخالد”، كان كمن ألقى حجراً ثقيلاً في بركة المعرفة الأثرية عن صناع أول الحضارات القديمة في الشرق والعالم، فلم يكن كريمر عالماً عادياً كونه عضواً بارز في الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم وأستاذاً في جامعة “بنسلفانيا”، وهو أول من تمكن مع فريق من العلماء من حل اللغة المسمارية السومرية الأقدم في التاريخ، وذلك منتصف القرن الـ19 بعد 5 آلاف عام من ظهورها.
وحذا حذوه تلميذه العالم العراقي طه باقر الملقب بـ “قارئ الطين”، أحد مؤسسي المتحف العراقي مطلع القرن الـ 20 مع نخب إنجليزية بينهم المندوبة السامية مس بيل، وقد صار مديره لأعوام طويلة، وهو الذي كتب أول ترجمة عربية لـ “ملحمة جلجامش”، أول ملاحم التاريخ الإنساني التي يقول عنها المؤرخ والأستاذ في جامعة “دينفر” في كولورادو بالولايات المتحدة سامي سعيد الأحمد، إنها إحدى أبرز النصوص الأدبية في التاريخ القديم، وفد دونت بالخط المسماري واللغة الأكدية، ويعود تاريخها لمنتصف الألف الثاني قبل الميلاد.
دور ريادي خطر
يعد السومريون في تاريخ بلاد وادي الرافدين من أقدم الشعوب العريقة التي تمكنت من وضع لبنات الحضارة الأولى في القسم الجنوبي من العراق القديم الذي عرف ببلاد سومر، ولا يزال شأنهم ودورهم في التاريخ القديم يعظمان باستمرار كلما استجدت مكتشفات أثرية واستظهرت نصوص سومرية جديدة تسلط الأضواء على جوانب مشرقة من منجزاتهم الحضارية ودورهم في إغناء الشعوب بالمعرفة والابتكار والتجريب في مختلف جوانب الحياة.
ويؤكد الباحث الأثري وزير الثقافة العراقي السابق عبدالأمير الحمداني إن “التجربة السومرية أو الظاهرة السومرية هي حال عراقية بامتياز لم يتم نقلها من أي مكان في العالم، بل على العكس فقد انطلقت من السهل الرسوبي إلى العالمية، والمهم هو وصف الثقافة التي تميز الفترة السومرية وليس المجموعة العرقية التي أنتجتها”.
ويرى البروفيسور الإيطالي فرانكو داغستينو الذي أمضى 40 عاماً في الدراسة والتنقيب جنوب العراق حيث التلول السومرية التي تختبئ فيها الآثار والذاكرة البشرية أن المسألة السومرية لم تعد لها مركزية في النقاش العلمي في ما يتعلق بالسومريين، فالعناصر المعرفية مثل “شعب” أو “أمة” لم تعد تلعب أي دور في تحديد هوية السومريين أنفسهم ولغتهم.
ويمضي قائلاً، “لقد تم التوصل إلى حل رموز الكتابات المسمارية في أواسط القرن الـ19 بعد مسار طويل كان قد بدأ عام 1621 حين بدأ السومريون يطلون علينا من طريق النصوص البابلية والآشورية، وكان الغرب مستعداً للترحيب بهم وبتميزهم في ابتكار النظام العام للكتابة المسمارية والاكتشاف الرائع لكتابتهم”.
قيمة الحضور
وزاد الاهتمام بالسومريين لدى الأثريين والمؤرخين بعد منتصف القرن الـ18 حين تمكن العلماء من حل رموز الكتابة المسمارية – السومرية وإعلان علم جديد لدرس السومريات باللغة العراقية القديمة لحضارة بلاد ما بين النهرين التي أطلق عليها الرومان والإغريق اسم “ميزوبوتاميا”.
وأميط اللثام عن الحضارة السومرية من قبل الباحثين والمنقبين الآثاريين بفضل الاكتشفات المتلاحقة منتصف القرن الـ19 والـ20، وبعد اكتشاف اثنين من كبريات المدن السومرية المندثرة في موقعي “تلو” قرب الناصرية جنوب العراق التي ثبت من البحث الأثري أنهما مدينة كريستو السومرية ومدينة نفر التي كانت واحدة من أشهر المراكز الدينية في بلاد سومر، حيث اكتشف فيهما ما لا يقل عن 30 ألف رقيم طيني (تابلويد) مدونة في مختلف صنوف المعرفة وتعود لمنتصف الألف الثالث قبل الميلاد، كما يؤكد العالم طه باقر في مؤلفه “العراق في التاريخ”، ثم توالت التنقيبات الفرنسية والإنجليزية والألمانية التي وجدت ضالتها من لقى وتماثيل ومقتنيات سومرية أغنت متاحف مثل “اللوفر” و”برلين” و”لندن” وسواهم.
لا يزال شأنهم ودورهم في التاريخ القديم يعظمان باستمرار كلما استجدت مكتشفات أثرية
لكن بقي أصل السومريين مجهولاً وقضية جدلية، ولم تنته الدراسات الاستشراقية أو المحلية إلى تحليل طاقة المعرفة والعلوم التي خلفوها، كونهم أول من ابتكر الكتابة والتدوين في الـ 1000 الثالث قبل الميلاد، أي قبل ما يزيد على 5 آلاف عام، وأدخلوا البشرية في العصور التاريخية للمرة الأولى بالتدوين، حين دوّن الإنسان سجل حياته وتعاملاته التجارية وتاريخه العام والخاص.
نقلة العالم
كما أنهم ومن خلال الحفريات التي وجدت أثبتت بأنهم أول من ابتكر العجلة التي حققت النقلة الكبرى في حياة الإنسان البدائي خلال مرحلة الزراعة قبل 10 آلاف عام قبل الميلاد من خلال الحاجة إلى صناعي المحراث اليدوي في زراعة البذور، ارتكزت عليها كل التغيرات الكبرى في انتقال الإنسان وبناء حضارته ودخوله العصور التاريخية للمرة الأولى.
ويقول الباحث العراقي المتخصص في الشؤون التراثية أمير دوشي لـ”اندبندنت العربية” إن أصالة الحضارة السومرية منذ ما قبل الميلاد متجسدة في قدرتها على تطوير المستوطنات وبناء المدن، وقد برعوا في ابتكار الكتابة والزارعة وتشكيل الدولة، وفرضت ظروف المنطقة وبيئتها تطوير طرق للعيش وتحدي البيئة، وهكذا جاءت ابتكارات سبل وأدوات الزراعة التي قام بها إنسان بلاد الرافدين الأول في زراعة الحبوب والري وتخزين الطعام وابتكار العجلة (المحراث اليدوي) الذي ساعد في زراعة مساحات أوسع من الأرض.
نصوصهم تسلط الأضواء على جوانب مشرقة من حضارتهم ودورهم في إغناء الشعوب
وغادر ذلك الإنسان مرحلة الالتقاط حين كان يعيش على الصيد نحو إيجاد وسيلة للحصول على طعام آخر من خلال الزراعة، وفكر بالمحاصيل الثلاثة وهي الشعير والحنطة والعدس التي قادت للاستيطان، وأضحى ينتظر المطر وينظر للسماء، وبالتالي ابتكر الآلهة التي تسيطر على المطر وأدرك أن هناك شيئاً متحكماً وخفياً لا يعرفه، وهو المقدس الذي يتضرع إليه لنزول المطر.
سر الوجود
وأفرزت مرحلة الزراعة أناساً يعملون في الإنتاج اليدوي، وآخرون أوكلت لهم مهمة تنظيم الأشياء الأخرى كعملية جرد المحاصيل ونقلها من الحقول، وهذا العمل تطلب تنظيماً وحفظاً، ولما كانت الذاكرة البشرية غير قادرة على حفظ كل ذلك التوسع في الإنتاج وتنوع العمل والحاجة إلى العمل التجاري، ابتكر السومريون الكتابة لينظموا ذلك المجتمع المعقد من المزارعين والحاصدين وممولي المدن التي كبرت وتطورت وأصبحت شيئاً جديراً بالفخر، وهو ما يتطلب تسجيلاً للتعاملات التجارية والقوانين والمعلومات المهمة، ومن هنا برزت الحاجة إلى الكتابة والتدوين لأغراض تجارية، وقد بدأت بشكل صوري إذ وضعوا صورة قبالة كل كلمة، ومع الزمن والحاجة إلى التجريد تحولت الصور إلى رموز هي اللغة المسمارية، وكانت تكتب على الطين وتحرق بالنار، وكفل ذلك فرصة للتحول من مرحلة ما قبل التاريخ إلى مرحلة التدوين والكتابة التي عدت نقلة نوعية في التاريخ البشري على يد وعقل سومري، لذلك ليس مستغرباً أن يطلق العالم الفذ صاموئيل كريمر مقولة “التاريخ بدأ من سومر”.
الظاهرة السومرية هي حال عراقية بامتياز لم يتم نقلها من أي مكان في العالم
ويؤكد البروفيسور الإيطالي فرانكو داغوستسينو الذي أمضى 40 عاماً في العراق وهو غارق في الطين السومري، ولا يزال يعمل في “تل أبو طبيرة” قرب الناصرية.
وبينما يقرأ النصوص السومرية في نص ملحمي سومري يعود لبداية الألفية الثالثة قبل الميلاد يقول، “يرجع ابتكار الكتابة إلى ’إنميركار‘ ملك مدينة أوروك، ويروي ذلك النص أن اشتباكات حصلت في مدينة هذا الملك مع مدينة ’أراتا‘ وكانت موجودة في موقع داخل إيران، ويحكمها الملك ’إنسو وجيرانا‘ وكانت هناك قصة تبادل مكثف للرسائل بين الملكين، وبسبب طول الرسائل وتعقيدها والمسافة بين المنطقتين، فإن حامل الرسالة في مرحلة ما لم يعد قادراً على حفظ ما كان يجب عليه تكراره للملك العدو، يقول النص السومري ’بما أن الرسول الذي كان فمه متعباً لم يعد قادراً على تكرار الرسالة قام السيد أنميركار بضغط بعض الصلصال وحفر كلمات على لوحة صغيرة، وقبل ذلك لم يكن هناك إمكان حفر تلك الكلمات على الطين، وفي ذلك اليوم أمر إله الشمس بأن يحدث كل ذلك‘”.
8 آلاف أثر
ويجمع معظم الباحثين في علم الآثار على أن اختراع الكتابة المسمارية “فيه أثر للجانب العرقي يتعلق بجوهر المسألة السومرية شديدة الخصوصية والتفرد والريادة، كونهم قد أدخلوا العالم إلى العصر التاريخي بمعنى أنهم دونوا حياتهم وأدخلوا كل بلاد الرافدين في العصر التاريخي قبل 5 آلاف عام أو يزيد.
كونوا حضارة رائدة كما فعل جلجامش في رحلة البحث عن الخلود وقيمة الوفاء
وكما يؤكد الباحث أمير دوشي فإن هناك 8 آلاف موقع أثري تعود للحضارة السومرية، وتحتاج إلى فرق مكثفة للتنقيب فيها واكتشاف خباياها والمعلومات المهمة التي يمكن أن تقدمها للمعرفة الإنسانية، لا سيما وأن السومريون قد وجدوا مفهوماً فلسفياً للكون عبارة عن ثلاث طبقات تحوي السماوات والأرض والعالم السفلي، والرب هو المسؤول عن العالم كله، ومهمة الإنسان أن يقدم عباداته للرب ويخضع له ويطيعه، والملك ممثل الرب على الأرض وهو سلطة مطلقة، والسومريون يؤمنون بأن العالم وجد من خلال ولادات كونية، وأيضاً لديهم إحساس عال بالفردية والرغبة في تحدي ما هو كائن، ولا يخشون التجريب وابتكار الجديد في حياتهم، وساعدهم ذلك في تكوين حضارة رائدة كما فعل جلجامش في رحلة البحث عن الخلود وقيمة الوفاء”.
كيف انتهت الحضارة؟
لم يكن السومريون شعب حرب بل سلم، وحضارتهم كونية لا تسأل عن دين أو عقيدة أو أصل، ويقول دوشي “عش بينهم وآمن بالقانون تصبح مواطناً، فهؤلاء آمنوا بالسلم وبناء المجتمعات والذي دمر حضارتهم هو صراع الحضارات من حولهم، فمنها من هجم من الشمال مثل الأكاديين والآشوريين، فضلاً عن هجوم دول الجوار الذين قدموا من بلاد فارس القديمة، وهناك ملوك أفذاذ دافعوا عن ممالكهم ضد الغزو المتكرر لبلادهم أمثال أور نمو حاكم أور في السلالة الثالثة وجوديه حاكم لجش”.
وفي إثباتات الملوك السومريين المعتمدة في علم الآثار دامت الحقبة السومرية فترة أطول من حضارات الشرق الأدنى، وتوزعت المدن السومرية على العواصم الخمس، أوروك وأريدوا ولكش وأوما وأور، وهي تحتاج عشرات الأعوام للتنقيب فيها ودرس معطياتها الثرية.
وما زلت أذكر قول أستاذ التاريخ القديم البروفيسور فوزي رشيد بينما أجول معه في أروقة المتحف الوطني العراقي في بغداد منتصف تسعينيات القرن الماضي حين أجاب عن سؤالي حول كم يستغرق قراءة (الرقم الطينية) المودعة في المتحف الوطني وهي بمئات الآلاف بالقول “لو اجتمع كل علماء السومريات في العالم في بغداد وعكفوا على درسها فسنحتاج 200 عام على الأقل”.
صباح ناهي باحث وكاتب عراقي