حرية – (13/12/2023)
اتخذت العمارة الطينية من جنوب المغرب مستقراً لها باعتبارها أحد أبرز أشكال البناء التقليدية المتموقعة هناك، ذلك أن سخونة المنطقة أو اعتدالها طوال فصول السنة، يجعل هذا النمط من البناء الأكثر قوة وصلابة.
وكلما طال الزمن بالمعمار الطيني، عضد جسده وبنيانه وتجذرت أوصاله، حتى يصبح صلباً ومتيناً ويصعب إتلافه بعوامل الزمن، فالحرارة في المناطق الجنوبية بالمغرب تقوم بدور كبير في توطيد بنيات هذا النمط المعماري الذي يعتبره المتخصصون من الأشكال المعمارية القديمة الأصيلة في اشتغالها والعتيقة في تاريخها وذاكرتها.
بل إن هذه القدامة هي التي تجعلها من الأنساق البصرية المحببة لعدد من المصممين الغربيين الذين تحلو لهم مشاهدة هذا النموذج المعماري، والحق أنها رؤية خالية من كل رؤية “غرائبية” تجاه جماليات المعمار العربي وتاريخه، لكن بالنظر إلى طريقة استخدامه سنكتشف أنه لا يأخذ مكانة مركزية في هندستهم المعمارية، وإنما كموتيف جمالي أو عنصر فني عابر.
وما بين هذا وذاك، يبقى هذا المعمار الطيني الجنوبي المغربي يحظى باعتراف ضمني بأهميته كنسق بصري تقليدي قادر على التأثير في جماليات العمارة المعاصرة.
مواد محلية
يوجد المعمار الطيني في معظم بلدان العالم العربي، لا سيما في مصر وسلطنة عمان والسعودية واليمن وغيرها، بل إن حضوره في هذه البلدان وسواها، يكون بمثابة شهادة حقيقية عن ماضٍ حي لا يزال ينبض بثنايا الحاضر.
شهادة تضمر إلى جانب نماذج وأشكال وخطوط وزخارف عمارة الطين طبيعة المادة المستخدمة خلال حقب متعددة من تاريخ العرب، ولهذا تعد هذه المادة إحدى أقدم مواد البناء في تاريخ البشرية بحكم نجاعتها القوية في البقاء، مقارنة بمواد أخرى تتلف بفعل عوامل الطبيعة والمناخ، لكن بفضل الطين وإمكاناته على مستوى تشكيل الكتل والأحجار والطوب فتح للإنسان القديم إمكانات أخرى للبناء.
وعلى مدى تاريخ هذه الشعوب العربية عملوا على تطوير مادة الطين والعمل على توليفها مع مكونات وعناصر محلية أخرى مثل الحصى والتبن وغيرها لضمان بقاء أكبر للبناية وحفظ ذاكرتها.
وحين يطالع المرء معظم بنايات الطين الموجودة في الغرب، يفهم طبيعة استخدامهم لهذا الشكل المعماري والمتمثل أساساً في نظافة مواده مقارنة بتلوث مواد أخرى، فيعتبر هذا العامل مهماً في اختيار من لدن بعض المهندسين ويلحون على استعماله في نماذج معمارية حديثة.
اهتمام متأخر
أما في البلاد العربية، فيأتي استخدامه وفق طريقة نوسطالجية تمكنهم من الحفاظ على التراث المحلي وحفظ ذاكرته، أي إنه لا يتم النظر إلى المعمار الطيني بحكم أصالة مواده وطريقة حفظه للبناية، بل فقط من زاوية إنتاج الماضي التليد.
ففي حال المعمار الطيني يغدو التراث بمثابة سؤال أنطولوجي عن الهوية الحضارية للشعوب وضرورة الحفاظ عليها، علماً أن فلسفة إنتاج الماضي لا تكون دائماً مهمة، بخاصة في ما يتعلق ببعض العادات والتقاليد والأفكار والقضايا التي قد تعوق تقدمنا أكثر مما تحررنا وتجعلنا نتطلع إلى المستقبل.
إن التراث حين نتعامل معه بإعادة إنتاجه يكون مجرد كائن ميت أو بناء نعبده بصورة لاهوتية ولا طائل منها، بل ينبغي أن يأخذ التراث طريقة صوب “براديغم” المعاصرة، حتى يغدو هذا الموروث التاريخي المعماري حياً في وجداننا وذاكرتنا وحاضرنا، أي ينبغي تحديث هذا التراث والعمل على المحافظة عليه لا من خلال عملية إعادة الإنتاج، وإنما تجديده وإضفاء بعض المواد الجديدة التي تضمن له وجوداً أكبر، والتراث هنا بهذا المعنى يصبح قضية يومية وذاكرة لا تنقضي لا تلبث أن تساؤل حاضرنا وأفكارنا وتختبر أفكارنا وقدرتنا على الإبداع والابتكار.
نموذج المعمار الطيني في شكله المعاصر
بدأ العرب وبصورة متأخرة الاهتمام بالتراث المعماري الطيني، في وقت شعروا بأنه أصبح مهدداً أمام طرز معمارية جديدة، لذلك عملت بعض الدول العربية على إعادة الاهتمام بالمعمار الطيني وتشكيل بناياته وجعلها تأخذ بعداً معاصراً كما هي الحال في بعض البلدان الخليجية وغيرها.
ومع توغل زمن العولمة، فأصبح العالم قرية صغيرة تختفي فيها الحواجز بين الدول، تلاشت فيه كل الأفكار والمعتقدات والأشكال والنماذج ذات التاريخ القديم، فأصبح الغرب يكتسب بتصاميمه الحديثة بعيد الاستعمار نماذج هذا التراث.
إنه شكل من أشكال الاغتيال الحضاري الذي أراد فيه المستشرقون نزع الهوية العربية عن هذا التراث الباذخ وطمس تاريخه وتعويضه بنماذج معمارية هجينة.
يعرف كثير من المهندسين والمصممين في فرنسا وأميركا وألمانيا بأهمية هذا التراث وعمقه الضارب في حضارة الشعوب القديمة، ويفهمون أن مدخل العرب إلى الحداثة المعمارية يبدأ من خلال هذا التراث، لذلك حرص الاستعمار على تدمير عدد من النماذج المعمارية القديمة كنوع من الاستعمار الحضاري قبل العسكري.
هشاشة التفكير
في العالم العربي تغيب الدراسات المعمارية ذات الصلة بتاريخ العمارة العربية، ليس لأن الباحثين يفتقرون إلى أساليب الكتابة والبحث، بل لعدم وجود تخصصات وشعب ووحدات تعنى بتاريخ الفن المعماري لأنهم يعتبرون هذا التخصص المعرفي له علاقة بشعب الهندسة والتصميم وليس كليات الآداب والفنون.
ونظرة تقليدية كهذه تعطي الانطباع عن السيرة الجريحة للفنون العربية اليوم، في زمن غدا فقه الفن بمختلف أشكاله وأنواعه وتعبيراته صلة وصل بين الشعوب والسياسات والمؤسسات والدول.
ففي شعب التاريخ مثلاً، تدرّس بعض المواضيع ذات العلاقة بالمعمار، لكن من دون الغوص عميقاً في بعض الطرز المعمارية مثل عمارة الطين على سبيل المثال لا الحصر، والعمل على فهم تاريخها وموادها والأنساق الفكرية التي أسهمت في بروز وعي العرب تجاه هذا المعمار.
بناء طيني وادي مزاب في الجزائر
بقدر ما يتم الوقوف عند الجانب التاريخي العسكري الذي أسهم في بناء نصب معماري أو بناية تاريخية في عهد بعض السلاطين والملوك، يغيب في هذه الدروس الجانب النظري لفلسفة العمارة وأهم الأفكار الفلسفية التي أسست جماليات هذا الشكل التعبيري داخل العالم العربي وخارجه.
لكن، إذا استثنينا المؤرخ السوري عفيف البهنسي الذي قدم دراسات تاريخية مهمة ومؤثرة في الفكر العربي، لا نعثر على مشاريع فكرية أسست مشروعها انطلاقاً من جماليات المعمار وفلسفته، كما لا تطالعنا مجلات متخصصة من شأنها أن تعيد طرح قضايا عمارة الطين بين الباحثين والفنانين والمصممين والمؤرخين.
طرح معرفي من شأنه أن يعيد مركزة هذا الشكل التعبيري وفهم أسباب غيابه عن العالم العربي بنفس القوة التي كان عليها في الحياة العربية القديمة.