حرية – (23/12/2023)
يعيد السؤال الدائم عن شرعية حماس الأحاديث عن حركة التحرر الوطني، كيف ظهرت وما تاريخها الذي برزت فيه؟ وكيف استقبلتها الدول الكبرى وتفاعلت معها؟ ولماذا تعبّر حركات التحرر الوطني عن مرحلة الاستعمار؟
“على الثوار صناعة الثورة لا انتظارها” هكذا تحدث المنظر والمناضل اليساري البرازيلي كارلوس مارجيلا، بتلك الكلمات المباشرة انطلقت العديد من حركات التحرر الوطني، اشتركت جميعها في وضوح الهدف بطرد الغازي الأجنبي، وبساطة الفكرة بوجوب النضال بأي إمكانات دون انتظار وجود حدث خارجي، كضعف المحتل.
نشأت حركات التحرر الوطني مع بزوغ نجم القومية في القرنين الثامن والتاسع عشر الميلادي، إذاً فهي قرينة لوجود الدول القومية، ظهرت في المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية وفي المستعمرات الأوروبية في أمريكا الجنوبية، وضربت أوروبا عندما غزا نابليون إسبانيا، قبل أن تنقلها مرحلة الاستعمار في نهايتها في الحرب العالمية الأولى إلى العديد من دول العالم، ثم توظفها أمريكا والسوفييت في تعزيز تقاسمهم العالم.
في كل مرة ستنتقل شرعيتها الدولية من مستوى لمستوى آخر، إلا أنها تتفق في جوهرها في بعض سمات، وتعتبر الشرعية الشعبية هي الحاسم الوحيد في مسارها عبر التاريخ، فكل حركات التحرر الوطني شيطنت من أعدائها التي عادة ما تكون دولة قوية ومتطورة غازية، أمام حفنة من الفقراء شحيحي التسليح.
حرب الاستقلال الأمريكية
بعيد حرب السنين السبع بين بريطانيا وفرنسا والتي انتصرت فيها الأولى تغير وجه العالم، خسرت فرنسا العديد من مستعمراتها ما وراء البحار، فكرت في غزو قلب العالم لقطع الاتصال بين بريطانيا ومستعمراتها، في المقابل بلغت بريطانيا لحظة الشعور بالعظمة والنفوذ في كل جزء وصلت إليه يدها، أدت الحرب لأزمة مالية في بريطانيا؛ وبناء على ذلك اتخذت إجراءات لزيادة الضرائب بشكل مجحف على مستعمراتها.
أمريكا بيت القصيد، فرضت المزيد من الضرائب على التجار والعمال والمزارعين في أمريكا لتعويض ما فقدته في حرب السنين السبع، بدأت حركة احتجاج من بحار الشحن عندما ألقوا بكراتين الشاي في البحر، ترفض بعدها 13 مستعمرة بريطانية في أمريكا الشمالية دفع الضرائب التي فرضها البرلمان البريطاني، لتندلع حرب الاستقلال الأمريكية بقيادة جورج واشنطن وتوماس جيفرسون جون آدامز وبنجامين فرانلكين.
حرب الاستقلال استمرت ثماني سنوات بين 1775 – 1783، أعلن الاستقلال عام 1776 قبل أن تستمر المعارك إلى أن تتدخل فرنسا لصالح الأمريكيين ضد البريطانيين في معركة يورك تاون لتقبل في النهاية بريطانيا التفاوض والانسحاب من أمريكا عام 1983. تعتبر حرب الاستقلال الأمريكية هي أول حرب تحرر وطني بالمفهوم القومي الحديث.
ثورة العبيد
أشار بندكت أندرسون في كتابه الجماعات المتخيلة إلى عوامل نشوء الشعور القومي وما استتبعه من ظاهرة الدولة القومية بوجود الجريدة القومية لكل مستعمرة في أمريكا، وشعورهم بتميزهم من خلال رأسمالية الطباعة “الجريدة اليومية في هذه الحالة”، وجود حس متنامٍ بتميز شخصية لكل مستعمرة عن الاخرى يعزز ذلك تنقل الموظفين.
تعرضت العديد من تلك المستعمرات لتمييز أكثر من الأخرى، خصوصاً مسألة العبيد، وهي الدافع الأول للحركات الاجتماعية وبالطبع كانت من فواعل الحركة الوطنية في العديد من الدول كهاييتي، إذ ألهمت الثورة الأمريكية العبيد الأفارقة في هاييتي للثورة ضد المستعمرين الفرنسيين، عانى عبيد السكر من الزنج في هاييتي من التمييز العنيف في الوقت الذي كانوا ينتجون ثلث احتياج العالم من السكر، الثورة الهاييتية استمرت ثلاثة عشر عاماً (1791-1804) لينجح العبيد في تأسيس دولة لأول مرة في العصر الحديث، سبقتها في روما محاولة سبارتاكوس في القرن الأول قبل الميلاد، وفي العالم الإسلامي ثورة الزنج ببغداد القرن الثالث الهجري التي انتهت بالفشل، ودولة المماليك التي نجحت في تأسيس دولة إمبراطورية مصر والشام في القرن السابع الهجري.
بدأ الاستعمار الأوروبي لهيسبانيولا، وهي جزيرة هايتي الحديثة وجمهورية الدومينيكان، في تسعينيات القرن الخامس عشر. جلب المستعمرون الإسبان الأفارقة المستعبدين إلى هيسبانيولا، حيث أجبروهم على العمل في المزارع. خلال القرن السابع عشر، سيطرت فرنسا على هاييتي الحديثة، وأطلقت عليها اسم “سانت دومينغ”. عندما بدأت الثورة عام 1791، كان 90% من السكان عبيداً.
كان الهدف الرئيسي الثورة الأمريكية هو إنهاء الحكم الملكي للأشخاص الأحرار البيض، وليس قدرة هؤلاء البيض الأحرار على استعباد السود. لكن هدف الثورة الهاييتية كان التحرر من الملكية الأوروبية والعبودية، وأدت إلى إنشاء دولة حرة يحكمها العبيد السابقون.
سبقت ثورة هاييتي الثورة الفرنسية بعامين، واشتركت ثورة هاييتي مع الثورة الأمريكية والفرنسية في أسباب دفعت بها، إذ قاتل عدة مئات من الرجال الأحرار السود من هاييتي في الجيش الفرنسي خلال الحرب الثورية الأمريكية. وكان من بينهم رجال أصبحوا ثوريين رئيسيين في هاييتي. كما ساعدت الثورة الفرنسية في توفير الفرصة أولاً للهاييتيين الأحرار السود، ثم الهاييتيين السود المستعبدين – لتحدي استعبادهم من قبل فرنسا.
ألغت هايتي العبودية في عام 1793 وأصبحت دولة مستقلة في عام 1804. ومع ذلك، كانت الولايات المتحدة والدول الأوروبية بطيئة في الاعتراف بوضعها كدولة، ويرجع ذلك جزئياً إلى الخوف من أن يؤدي ذلك إلى إلهام التمرد بين العبيد في أراضيهم. أصبحت فرنسا أول دولة تعترف بدولة هايتيي في عام 1825. ولم تعترف الولايات المتحدة بذلك.
حركات التحرر الوطني تنتقل إلى أوروبا
كانت الثورة الأمريكية مصدر إلهام أخرى كانت غاضبة من الحكم الملكي البريطاني في أيرلندا. أصبحت البلاد مملكة تابعة لإنجلترا في أربعينيات القرن السادس عشر، مستلهمين الثورتين الأمريكية والفرنسية، شكل الثوار الأيرلنديون جمعية الأيرلنديين المتحدين في عام 1791، وفي عام 1798 بدأ أعضاؤها انتفاضة لطرد الحكم البريطاني من أيرلندا. قمعت بريطانيا العظمى هذا التمرد، وفي عام 1801 وضعت بريطانيا أيرلندا تحت سيطرتها بشكل مباشر من خلال تشكيل المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا.
ومع تحركات نابليون في أوروبا وحروبه الإمبراطورية ذات النزعة القومية الفرنسية، مثلت مقاومة جيوش نابليون تعزيز النزعات القومية والقطرية، ورسخت مفهوم حركة التحرر الوطني باعتبارها فعلاً شرعياً ضد القوى الغازية، وحركة التحرر الوطني لا تعني مقاومة الاحتلال أثناء الغزو فذلك دفاع عن الذات، أما المقصود بحركة التحرر الوطني هي تلك التي تتشكل بعد دخول الغزاة وسيطرتهم على الأرض؛ إذ يهب جماعة من السكان الأصليين للدفاع من دون وجود تمثيل سياسي لكيانهم.
في إسبانيا ولدت حركات التحرر الوطني الواسعة، وحرب العصابات ضد جيش نابليون، عندما تسلح المزارعون ضد جيش نابليون وخاضوا ضده ثلاث حملات متتالية بين عامي 1807-1812، والتي انتهت بخروج الجيش الفرنسي من البرتغال وشبه الجزيرة الأيبيرية، مثلت هجمات الفلاحين المتتالية على الجيش الفرنسي إلهاماً في مدونات المفكرين مثل ماركس، وتعتبر هي التحول الرئيس لقبول مفهوم حرب التحرر الوطني، سواء في الفكرالماركسي أو التنظير القانوني.
كانت هناك حروب أخرى عديدة من أجل الاستقلال في جميع أنحاء أوروبا والأمريكتين خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. نالت البرازيل استقلالها عن البرتغال، حصلت كل من الأرجنتين وتشيلي وبيرو وبوليفيا والإكوادور وفنزويلا والمكسيك على استقلالها عن إسبانيا. والتي أسهم سيمون بوليفار في المشاركة باستقلال 6 دول في أمريكا اللاتينية.
الموجة الأولى
تسمى حروب التحرير تلك بالموجة الاولى للقومية، وكذا الجيل الأول لحروب التحرير، هناك حلقات أخرى أو موجات ظهرت في نهاية عصر الاستعمار بعد الحرب العالمية الأولى واستمرت حتى في مقاومة النازيين في الحرب العالمية الثانية، لتأتي الموجة الثالثة من حركات التحرر الوطني. وظهرت حركة متأخرة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
لكل موجة سماتها الخاصة وأبرز نماذجها إلا أنها تشترك في طبائع رئيسية، أهمها أنها مقترنة بوجود الدولة والروح القومية، أنها ظهرت في المستعمرات الأوروبية وكانت ردة فعل عليها، وأن الغرب نفسه سيتغير موقفه منها من قبولها تارة إن كانت في صالحه، كما تقبلت فرنسا حركة التحرر الوطني في أمريكا ودعمتها عسكرياً في ظل الصراع الدولي بينها وبين بريطانيا، وفي ذات الوقت لعدائها الشرس والعنيف لحركة التحرر في هاييتي.
وتعتبر الحركة الوطنية الفلسطينية بكل تنوعاتها تنتمي للموجة الثالثة والتي انكسرت عالمياً بهزيمة الاتحاد السوفييتي، ولم يتبقّ منها إلا الشق الإسلامي الذي هو بالطبع بعيد تماماً عن الفواعل الدولية غير الإسلامية، ويستمد شرعيته الداخلية من وسيلته المقاومة، واستدامة الحركة من فواعل بعيدة كل البعد عن واقع موجات التحرر الوطنية السابقة.