حرية – (28/12/2023)
ما من تاريخ واضح في حياة البشرية يكشف متى بدأ الإنسان باستخدام الأنفاق لأغراض قتالية، إلا أنه من المعتقد ان الانفاق بدأ استعمالها لدى العصور القديمة من جانب الاشوريين في العراق ثم من قبل الرومان والفرس، فضلاً عن “غزوة الخندق” لدى التأريخ الإسلامي، وصولا الى تطور الاعتماد على الأنفاق في الحرب العالمية الأولى وحروب فيتنام واليابان وكوريا.
وبرغم أن الخبراء العسكريين يصنفون ميادين الحروب بأنها ثلاثة، وهي البرية والبحرية والجوية، والتي يمكن استخدامها في خوض معركة عسكرية من اجل تحقيق اهداف سياسية ضد العدو، إلا أن هناك كثيرين بدأوا يدعون الى تحديد ميدان رابع هو الانفاق التي كان يجري تجاهلها كثيرا في نقاشات الاستراتيجيات العسكرية، برغم انها كانت وسيلة مستخدمة منذ آلاف السنين لخداع العدو وتحقيق الانتصارات.
وقد أظهرت حرب غزة الجارية الحالية مدى أهمية الأنفاق في خوض المعارك وارباك العدو.
تحول المعركة لصالح الاضعف
يقول “معهد هادسون” الأمريكي، في تقرير له ، إنه “مقارنة بانظمة الاسلحة الاكثر تطورا المستخدمة اليوم، فان الانفاق صمدت امام اختبار الازمنة”.
ويوضح “معهد هادسون”، أنه “على مدى قرون، اتاحت الانفاق للوحدات العسكرية بالاقتراب من اعدائها من دون ان يتم اكتشافها، وساعدت المقاتلين الاضعف على تحويل ساحة المعركة لصالحهم”.
ويعتبر المعهد الامريكي انه “لا توجد طريقة لمعرفة المدة التي ستستمر فيها الطائرات المسيرة او الليزر او انظمة الدفاع المضادة للصواريخ، إلا أنه ما دامت هناك حرب، فمن المؤكد ان الانفاق ستكون جزءا من المعركة”.
الاتفاق لدى الاشوريين والرومان والفرس
ومن المعتقد ان الانفاق استعملت في العصور القديمة، وخصوصا في عهد المملكة الآشورية في العراق ومن جانب الرومان والفرس حيث كانوا يحفرون تحت القلاع والحصون بالتسلل من أجل اقتحامها، كما ان الانفاق استخدمت خلال الحروب بين الجيش الروماني وبين قبائل باتافي الجرمانية المتمردة على روما والتي اعتمدت أسلوب حرب العصابات ضد القوات النظامية.
وتظهر المنحوتات الآشورية التي تعود إلى أكثر من 4 آلاف سنة، عمليات حفر أنفاق، حيث تقوم وحدات هندسية تابعة للملك سرجون الأكادي الذي حكم 2334-2279 قبل الميلاد، بالعمل على هدم أسوار مدن العدو.
ويقول “معهد أبحاث السياسة الخارجية” الأمريكي أنه على الرغم من أن إلياذة هوميروس لا تتضمن على أي ذكر لمثل هذه الأنشطة، إلا أن الأدلة الأثرية من الحفريات في طروادة تظهر عددا من الممرات تحت الأرض التي تمر أسفل أسوار المدينة، والتي ربما كانت جزءًا من الحصار.
ورأى التقرير الأمريكي، أن الرومان غالبا ما استخدموا عمليات حفر الأنفاق في فتوحاتهم، وكانت سمعتهم كمهندسين كبيرة لدرجة أن رؤية الأرض المحفورة حديثا والتي قد تشير الى وجود حفر الأنفاق كانت كافية لدفع الخصم على الاستسلام قبل انهيار مدينتهم وتعرضها الى النهب من قبل الرومان.
وبحسب المعهد الامريكي فانه “تقليديا، تم استخدام الأنفاق في الغالب كوسيلة للاقتراب من المواقع المحصنة وتهديدها، حيث انها ربما كانت تكون قوة حصار قد بدأت عمليات حفر الأنفاق على أمل تجاوز جدران التحصين، وشن هجوم مباشر على الداخل، محققة المفاجأة بالظهور المفاجئ للمحاربين في منطقة كانت تعتبر في السابق محصنة ضد الهجوم”.
ويضيف المعهد أن “الأكثر شيوعا هو الجهد الذي كان يبذل من أجل فتح مساحة تحت الجدران أو الأبراج الواقية، وهي عملية يطلق عليها الاستغناء، حيث يقوم الحفارون للإنفاق بتدعيم اساسات المنطقة المستهدفة بألواح خشبية جافة، ويتم إشعال الخشب، مما يتسبب في انهيار الجدار غير المدعم، ثم بعد ذلك يجري اقتحام الخرق الناتج من قبل المقاتلين، الذين يأملون في التدفق عبر هذه الثغرة والتغلب على المدافعين قبل سد الفجوة”.
وبحسب ما يقول “معهد هادسون” الأمريكي، فقد ادى حصار الامبراطورية الفارسية لمدينة دورا أوروبوس الرومانية في العام 256 إلى تطور جديد اخر: عندما اصطدمت الجيوش الفارسية التي كانت تحفر أنفاقا تحت أسوار المدينة بنفق روماني مضاد، ملأه بغاز سام مصنوع من القار والكبريت لخنق الجنود في الداخل، وهو ما يمثل أول استخدام معروف لحرب الغاز، فيما استمر فن حفر الأنفاق والانفاق المضادة طوال العصور الوسطى.
الانفاق في التاريخ الاسلامي
وفي التاريخ الإسلامي، يمكن العودة إلى “غزوة الخندق” والتي يطلق عليها احيانا “غزوة الأحزاب” والتي وقعت في العام الخامس للهجرة، أي في العام 627 ميلادي، عندما اجتمعت مجموعة من القبائل من أجل غزو المدينة المنورة بهدف القضاء على الدولة الاسلامية الناشئة، حيث تقول الرواية الإسلامية أن قبيلة يهودية (بنو النضير) هي التي حرضت القبائل ضد النبي محمد الذي قرر حفر خندق الى الشمال من المدينة لمنع تقدم مقاتلي القبائل من التقدم نحوها، ما أفشل الهجوم.
واصبحت الانفاق السلاح الدفاعي الأكثر اهمية للجماعات المسلحة وحتى الجيوش، وهي استخدمت خلال الحرب الأهلية الاميركية قبل نحو 150 سنة، بينما كان الاعتماد عليها على نطاق واسع، في الحرب العالمية الأولى. وقد تطورت الفكرة من حفر الانفاق من اجل التسلل، الى حماية المناطق من الهجمات، وحماية المقاتلين من قنابل الطائرات والمدفعية.
حروب فيتنام واليابان
وكان للانفاق أدوار كبيرة خلال حرب فيتنام حيث استخدمها مقاتلو “الفيتكونغ” قصار القامة مما اضطر الجيش الامريكي وقبله الجيش الفرنسي الى تشكيل فرق متخصصة لحروب الانفاق تضم جنودا قصيري القامة وسريعي الحركة، واطلق على هؤلاء الجنود اسم “فئران الانفاق”.
وتطور استخدام الانفاق خلال الحرب العالمية الثانية مع تطور قدرات القصف والطيران الحربي، بما يوفر حماية اكبر للجنود على خطوط الجبهات، واستخدامها بكفاءة المقاومون الصينيون بوجه الاحتلال الياباني لاراضيهم، فيما كان اليابانيون يردون باغراق الانفاق بالمياه او الغازات السامة.
الا ان من عاناه اليابانيون بسبب الانفاق الصينية خلال احتلالهم القصير للصين، عادوا واستخدموه بانفسهم ضد القوات الاميركية الغازية لجزيرتهم خلال الحرب العالمية الثانية، كما جرى خصوصا في معركتي جزيرة بيليليو وايوجيما، ثم طوروا تقنية هندسة الانفاق بتحويل جبل باكمله، هو جبل سوريباتشي الى معقل كامل من الانفاق المدعمة لمحاربة القوات الأمريكية.
المقاومة اللبنانية وغزة
استخدمت المقاومة في لبنان الانفاق في فترة الاحتلال الاسرائيلي للبنان، حيث اقامت الانفاق في منطقة اقليم التفاح لمواجهة المواقع العسكرية الاسرائيلية على سفوح الجبال.
وليس من قبيل المبالغة القول بان الأنفاق المقامة تحت قطاع غزة، هي الشريان الذي مكن الفلسطينيين من الصمود طوال اكثر من شهرين في وجه امام الهجوم العسكرية المدمر الذي يقوم به الجيش الاسرائيلي حيث تشير التقديرات إلى أنه القى على غزة من متفجرات ما يعادل من أكثر من قنبلتين نوويتين كالتي ألقيت على اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية.
من المعلوم ان قطاع غزة محاصر بشكل كامل منذ نحو 17 سنة، وموارد الحياة فيه شبه ممنوعة، حيث لا مطار ولا موانئ ولا معابر تربط القطاع الفلسطيني بأي أرض عربية، بما في ذلك رفح الذي يسيطر الإسرائيليون على كل ما يدخل عبره ويخضع لتفتيشهم.
الا ان الحاجة الاخرى الملحة التي فرضت نزول الفلسطينيين تحت الارض، انهم كانوا عرضة متواصلة للهجمات الاسرائيلية في العقدين الماضيين، بما في ذلك عمليات عسكرية من بينها “الرصاص المصبوب” (2008)، وعدوان “عمود السحاب” (2012)، وعدوان “الجرف الصامد” (2014)، و”حارس الاسوار” (2021) و”الفجر الصادق” (2022).
ومن المعتقد ان الانفاق الفلسطينية تطورت مع الوقت، وصارت تتضمن ممرات واسعة، وأسقف عالية نسبيا، وحجرات مخصصة لأغراض مختلفة كقيادة العمليات والمراقبة وتخزين الاسلحة والمواد الغذائية والمياه ومضافات لراحة المقاتلين، والاهم انه صار لها في أحيان كثيرة، تفرعات متعددة تقود باتجاهات مختلفة، بالاضافة الى مواقع مخصصة لإطلاق الصواريخ التي استهدفت المستوطنات الإسرائيلية والمواقع العسكرية كالقواعد والمطارات وغيرها.
كما ان هناك تقديرات بأن هذه الشبكة تضم 1300 نفق يبلغ طولها حوالي 500 كيلومتر فيما يصل عمق بعض الانفاق الى 70 مترا تحت الأرض فيما تشير تقارير إلى أن معظم هذه الأنفاق يبلغ ارتفاعها مترين فقط وعرضها مترين.
وذكرت صحيفة “فايننشال تايمز” مؤخرا أن شبكة الأنفاق في غزة، تعتبر أكبر من شبكة قطار أنفاق لندن، وهي محصنة ضد طائرة الاستطلاع الاسرائيلية والضربات الجوية الأخرى.