حرية – (28/12/2023)
ينطلق في الظلام، يتأمل الدرج الخشبي، حشد من الناس ينتظر دوره مثله، يفكر فيهم ملياً ويسأل أترى ما حكايتهم، إنهم مثلي لهم حكاية مؤلمة، ما عانيناه على مدار عامين ونصف العام ليس عادياً، وهو غارق في التأمل باغتته نفسه بسؤال “هل يتذكرك؟”، بالطبع، أبوه أنا وإن طال الزمن.
تحرّك صالح من فتحة النفق باتجاه بوتمير، لكي يرى ابنه الذي تركه بعمر العامين ونصف العام عند جدته خارج مدينة سراييفو قبل حصارها، رأى ولده بعمر الخمسة أعوام، فينكر الولد أباه، ويرفض أن يحتضنه، قال “هذا عدو صربي”، هدّأ الأب من روعه، ثم أخذه عائداً من النفق نفسه ليلتقي بأمه.
مثّلت مأساة سراييفو حدثاً فارقاً في التاريخ الإسلامي الحديث، حصار في وسط أوروبا كأطول حصار لمدينة أوروبية في القرن العشرين، أربعة أعوام إلا شهرين، تبدلت فيها الأيام، خافضة رافعة، مذلة أعداء المدينة المتربصين، تعز أهلها الذين قاوموا الذلة لا الموت.
أول الليل
في مارس/آذار 1991م اتفق فرانيو تودجمان وسلوبودان ميلوسيفيتش على تقسيم البوسنة بين الصرب والكروات، والمعروف باسم اتفاق كارادورديفو، قرر المسلمون البوسنيون في استفتاء شعبي الانفصال وتأسيس دولتهم، ليتحرك جيش يوغوسلافيا الشعبي بعد ما سيطر على ما تبقى من عتاد وأسلحة تركها الجيش اليوغوسلافي في البوسنه، متحالفاً مع جيش صرب البوسنه، شكَّل البوسنيون جيشاً وفيالق عسكرية لا تملك أية إمكانات كبيرة، إذ وصل إلى الجبال المحيطة لسراييفو وسيطر عليها، مكنه ذلك من رصد أي تحركات وقصفها، بدعم روسي وتواطؤ أوروبي جليّ.
في 5 أبريل/نيسان 1992م أطبقت الصرب الحصار على سراييفو، ومنعوا عنها الغذاء والدواء، جعلت القذائف المدينة كوجه أصابه الجدري، ونالت من الناس، لكنها لم تنَل من عزيمتهم، سيطرت قوات الأمم المتحدة على مدرج المطار، إذ كانت خطة محكمة لتمكين الصرب من استدامة حصارهم لأكثر من 483 ألف مسلم بوسني.
حاول البوسنيون الخروج من المدينة، إما لتوفير الغذاء والاحتياجات أو الفرار، كانت نقطة مطار سراييفو هي الأفضل، فبين النقطتين اللتين تسيطر عليهما قوات الحكومة البوسنية 720 متراً فقط، إلا أن العبور كان يعني الانتحار المحقق، حيث قُتل أكثر من 500 شخص وهم يحاولون تجاوز المدرج، فقوات الصرب الذين يسيطرون على الجبال المحيطة بالمطار يَحولون دون وصول الإمدادات العسكرية أو الغذائية إلى قلب المدينة المحاصر.
أطبق الحصار حتى جاع الناس، ولم تكفِ المساعدات التي تُلقيها الطائرات لتملأ الأمعاء الخاوية، أكلوا أوراق الشجر، والتقطت النساء الحشائش من الأرض لتسد جوع الصغار، وسقط الآلاف بين شهيد وجريح، أكثر من 11 ألفاً و541 شهيداً، 87% منهم مدنيون.
مرة بعد مرة تحاول قوات الفيلق الأول الزحف على مدرج المطار لفك الحصار عن المدينة والوصل بين ضفتي المدرج، وفي مرة وقواته تزحف فكر مساعد قائد الفيلق الأول، الجنرال راشد زولراك، ماذا لو كان هناك شيء ما يمر من تحت المدرج يوصل بين المنطقتين اللتين نسيطر عليهما؟ يدخل منه العتاد العسكري للطرف المحاصَر، والغذاء والوقود، ويُجلى الجرحى.
على قدر أهل العزم
طرق الجنرال راشد أبواب العديد من المهندسين لكي ينفذ النفق أكثر من مرة، فلم يجد مجيباً، المهمة مستحيلة، هكذا تكلّم المهندسون، أتعبه الطموح فسأل مهندساً: إني أريد أن أقابل أفضل مهندس على وجه هذه المدينة، فأجابه التحدي بلسانٍ آدمي، أنت تقف أمامه!
ربما في موقف غير هذا كان للجنرال رد على الأنا التي ظهرت في ردّ المهندس نجاد برانكوفيتش، لكنه رأى في رده التحدي متجلياً، وفي إصراره إمكاناً يجب ألا يفوته، لعله اندفاع الشباب الذي غير التاريخ، فلْنَهب لهذه الفرصة الحياة.
أُعطي الأمر بحفر النفق في 22 ديسمبر/كانون الأول 1992م، بدأت الأعمال بالحسابات والخطط، من أين إلى أين يمتد النفق؟ كم طوله؟ وما عمق الحفر؟ ما نوع التربة التي تواجهنا؟ وجود المياه الجوفية؟ السرية، وكيف نخفي عمليات الحفر عن عيون الأعداء؟ وهكذا أصبحت تتولد أسئلة بعد كل مرحلة أكثر من التي قبلها في زيادة مضاعفة.
حُددت المنطقتان بين دوبرينيا وبوتمير، لأنهما أقصر نقطتين تقطعان أرض المدرج، وتصل المنطقتين اللتين يسيطر عليهما مسلمو البوسنة، بطول 720 متراً، أما العمق، فمع غياب الأجهزة المتخصصة ذهب المهندس نجاد مع الفريق السري الذي شكَّله إلى الآبار الارتوازية القريبة، وبطريقة بدائية يدفعون في ماسورة إحدى المضخات حبلاً حتى يبلغوا أول نقطة ماء، وهكذا استطاعوا تحديد عمق تقريبي لوجود المياه الجوفية بقياس طول الحبل.
حددوا نقطة البدء والوصل، بمنزل للحاجة شيدا، من هنا تبدأ نقطة الحفر، بين دوبرينيا وبوتمير طرح فكرة بأن يتم العمل على مجموعتين حتى يلتقي الحفَّارون في نقطة على بعد 310 أمتار، حتى لا يستغرق الحفر 5 أشهر، ومن خلال الحسابات وضع عمود حديد على الجهتين، يحدد الخط الذي يجب أن يسير عليه الحفر بدقة عالية حتى يلتقيا في نقطة محددة.
في تلك المرحلة قدم المقترح النظري كاملاً لقائد الفيلق الأول مصطفى خيرو لاهوفيتش، الذي بدوره أعطى الأوامر بتجهيز الأمور الفنية والمعدات والحفارين، وبدأ العمل، وشُكلت على الفور مجموعتان، بلغ مجموع أفراديهما 160 فرداً، نصفهم في دوبرينيا بقيادة المهندس نجاد وتحت حماية الفيلق الأول، وفي بوتمير بقياد فاضل شيرو وبحماية الفيلق الرابع.
فتّش عن الأوكسجين
منذ اللحظة الأولى والعقبات تتوالى، رفض العديد من الجنود ترك القتال والذهاب لحفر النفق، باعتباره عملاً أقل شرفاً، وحتى المتطوعون للقتال، إلا أنه بعد معرفة الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش بقصة النفق، بعد أن باركه اتصل على قادة الجيش مُصدراً أوامره بتنفيذه، ووضع كل الموارد المتوفرة رهن المهندسين.
بعدها توجَّه ابن بيغوفيتش باقر والرئيس اللاحق للبوسنة إلى الحاجة شيدا وولدها بايرو كولار، ليطلب منها أن تترك منزلها إلى منزل آخر؛ حتى يتسنى للعمال بدء الحفر “إنه رئة سراييفو”، هكذا وافقت الحجة شيدا مقابل أن تظل في منزلها تعد فطائر البطاطا للعمال.
تواجههم العقبة التالية، وهي أدوات الحفر، فيجلبون المعاول وعربات البناء الصغيرة من الدفاع المدني، وقرَّروا استخدامها، وقرروا أن تقسم كل مجموعة على طرفي النفق إلى مجموعات يتبادلون فيما بينهم الأدوار والأوقات، ليُحفَر على كل طرف متران على الأقل يومياً، بحضور المهندسين الوحيدين اللذين يعرفان مسار النفق من بين الجموع، إمعاناً في السرية.
واجهت المهندسين مشكلة أخرى، وهي دعائم النفق، فلا توجد أخشاب، اقترح فاضل شيرو استخدام أبواب المنازل وخِزانات الملابس، وتدعيمها بالحديد المتوفر نسبياً، وهكذا استخدمت الأبواب والخزانات كدعامات خشبية حتى لا ينهار النفق.
واجهتهم مشكلة إخفاء الرمال والردم وعوادم الحفر حتى يحافظوا على سرية النفق من أعين المراقبين الصرب، فاقترحوا استخدام الأكياس والسير لمسافات لإلقائها خلف البيوت، حتى لا تتراكم، فيُفهم أن هناك خطباً ما. ولأن الحفر بدأ في فبراير/شباط 1993م، في موسم الأمطار، فقد تدفقت المياه إلى النفق، وصار شفط الماء في ظل غياب الأجهزة المتخصصة عقبة تعيق سير عمليات الحفر، فيضطرون إلى حملها بالجرادل.
بعد 15 متراً من الحفر حدثت عقبتان، كادتا أن توديا باستمرارية العمل، الأولى هي الظلام الدامس، وتم حله باستخدام الإضاءة الزيتية من دون التوسع في استخدامها حتى لا ينخفض منسوب الأوكسجين في النفق. هنا بدأ الخطر الأبرز، وهو نقص الأوكسجين، فالعمال قد يموتون بسبب قلة الأوكسجين، وهكذا جاءت الأوامر بأن يُدفع بحفّاري المناجم، والشباب بعمر العشرين، واستغلال قدرتهم على تحمل نقص الأوكسجين لعشر دقائق، والتبديل بينهم في حركة سريعة، إذ يُوقت له عشر دقائق، أو ربع ساعة كأقصى تقدير، على أن يخرج فوراً تاركاً المكان لعامل آخر وهكذا.
حبس الأنفاس: هل رأيت النور؟
تجاوزت العقبات الفنية إلى أخرى عسكرية، إذ اكتشف الأعداء النفق، ليس الصرب، وإنما قوات الأمم المتحدة، التي حاولت عرقلة الحفر باستخدام معدات الحفر في أرض المطار لوقف عملية الحفر، في ذلك الوقت خاض المهندس نجاد مغامرة جديدة لم يعرف بها أحد سواه ومهندس آخر، إذ أجروا مناورة في مسار الحفر تحت الأرض بزاوية 130 درجة، وذلك للفرار من فخ الوقيعة بهم على السطح.
كانت تلك العقبة مخيفة، لأن المسألة مرتبطة بالحسابات والمعادلات التي حدد بها مسار الحفر دون أي أجهزة، لكنها مناورة الفوارس التي أنقذت مشروع الحفر، لكنها أدت لحبس الأنفاس بشكل لا يصدق، إذ كان من المتوقع الانتهاء من أعمال النفق في 26 يوليو/تموز 1993، في ذلك الوقت كان جبل إيغمان في جنوب غرب مدينة سراييفو على وشك السقوط، إذ اقترب الفيلق الخامس من الانهيار تماماً، كان يعني سقوط جبل إيغمان خسارة استراتيجية كبيرة، قد تؤدي إلى دخول القوات إلى داخل سراييفو.
قبلها بشهرين كان المفاوضون البوسنيون يرفضون مقترح خطة فانس-أوين للسلام، التي تقتضي تقسيم البوسنة إلى 10 مناطق، وقد كان سقوط جبل إيغمان يدفعهم للموافقة عليها حتى لا ترتكب الفظائع في حال دخلت القوات الصربية إلى سراييفو، كان علي عزت بيغوفيتش يتصل بشكل دائم ليقف على تقدم الحفر، فقد أصبح النفق له دور استراتيجي عسكري مباشر بنقل العتاد، ولتعزيز صمود البوشناق المسلمين بدخول الغذاء والدواء والوقود، وفي دخول تلك الأساسيات مقاومة، تحول دون سقوط سراييفو.
حبست الأنفاس في 26 يوليو/تموز، نسمع دقدقات المجموعة الأخرى نحن نقترب، ربما اليوم، فيمر دون أن تلتقي العزائم، ويمر الثاني فتزداد التخوفات، هل أخطأنا الحساب ومر إخوتنا بجانبنا؟! هل نحن متقابلون أم متوازون؟ من أين تأتي تلك الذبذبات؟!
والصبح إذا تنفس
في ليل يوم 30 يوليو/تموز 1993م، تجلى ما أؤمن به، والتقت العزيمة بالنصر، والأخذ بالأسباب، ملتحماً بالتوفيق، هكذا دخل النور إلى سراييفو المحاصرة، فاندفعت في أول ساعات قوات الفيلق الأول، لدعم الفيلق الخامس في جبل إيغمان، ومر من العتاد العسكري في أول 24 ساعة أكثر من 12 طناً.
يحكي المشرف على الحفر من إحدى الجهات أنه عندما وضع حديدة بطول متر ومرت من وسط الجدار، فوجد قرعاً من الطرف الآخر، أنه أمرهم بالتوقف حتى يغير ملابسه ابتهاجاً بهذه اللحظة، لكنه ما إن خرج ليغير ثيابه استمر الحفر ببراءة الأطفال، ورغبةً في الوصل بين الضفتين، كأنه وصلٌ بين الأرض وجنةِ عدن.