حرية – (30/12/2023)
بقدر ما تثير حياة سكانها كثيراً من الفضول، يبقى عمرانها يسر الناظرين ويستقطب المهندسين المعماريين. إنها مدينة غرداية التي تقع جنوب الجزائر على بعد 600 كيلومتر عن العاصمة، وقد صمدت أمام كل الحضارات المارة بالمنطقة سواء المهادنة أو العنيفة، لتبقى محافظة على نمط بناء فرض على اليونيسكو تصنيفه ضمن التراث العالمي.
طابع معماري فريد
يشكل الطابع المعماري الفريد الذي يطبع مدينة غرداية اختصاصاً هندسياً يستحق التأمل لجماله والتدريس لذكائه، فالزائر يسجل الأقواس المنتشرة في الأسواق والطرقات، والأزقة الضيقة وفتحات المنازل الصغيرة، والقلاع التي بناها الأجداد لمواجهة هجومات الغزاة، مما منحها لوحة فنية مميزة من الجمال الاستثنائي القائم على ثلاثية مقدسة: المسجد والسوق والبيت.
المدينة مشهورة بسبعة قصور تجاوز عمرها الألف عام، والمقصود هنا التجمعات السكانية، وهي غرداية، وبنورة، وبني يزقن، والقرارة، وبريان، والعطف والمليكة، وعلى رغم الاختلاف في شكلها الهندسي فإنها تتشابه في طابعها العمراني، حيث يكون المسجد في مدخل المدينة وبعدها تأتي المنازل التي بنيت بما يسمح للشمس بالدخول إليها، فهي مغلقة نحو الخارج ومفتوحة نحو الداخل والأعلى من أجل الضوء والتهوية، أما سوق كل قصر فتقع خارج المدينة بهدف عدم السماح للأجانب بدخول المدينة.
عبقرية وتصنيف لكن لا يدخلها الأجانب
عبقرية البناء والمحافظة على الطابع العمراني طوال قرون وعلى نظامها الاجتماعي، جعل منظمة الـ”يونيسكو” تصنف عام 1982، خمسة قصور منها ضمن التراث الإنساني العالمي، وهي غرداية وبنورة والعطف ومليكة وبني يزقن، التي تعود إلى القرن الـ11، بعد أن تم تصنيف “غرداية” ضمن التراث الجزائري بقرار وزاري عام 1971.
سوق المدينة
وتقول كتب التاريخ، إن الميزابيين نسبة إلى وادي ميزاب، هم من بنوا قصور المنطقة التي اختاروها ملجأ لهم هرباً من مدينة تيهرت غرب الجزائر، التي كانت عاصمة الدولة الرستمية، بعد سقوطها عام 909، ومع مرور الوقت وابتداء من القرن الـ10، عملوا على غرس مفهوم المؤسسة لدى السكان ودورها على النشاط الفردي والعشائري، وسن ضوابط كأساس لأي عمل.
المنطقة التي قال عنها المهندس الفرنسي أندري ريفيو “عندما أذهب إلى وادي ميزاب أتأمل وأصمت”، لا يدخلها الأجانب إلا بمرشد ميزابي، ويحرم على الدخلاء التجوال في أزقتها لوحدهم، لباس السكان خاص ولافت، إذ يرتدي الرجال سراويل واسعة مع قلنسوة بيضاء، بينما تظهر النساء بما يسمى “الملحفة”، وهي قطعة قماش بيضاء تغطي الرأس إلى القدمين، مع ترك عين واحدة فقط مكشوفة للرؤية.
تشتهر غرداية القديمة بسوق شعبية تقام بساحة المدينة التي يوسطها بئر، يعرف بـ”لالة عشوا”، تقول الروايات، إن امرأة أذنبت ذنباً، فبنت البئر فوق قطعة أرض ملك لها تكفيراً عما فعلته، ومن ثم تحولت إلى سوق حملت اسمها البيع فيه يتم بالمزاد، يغلق زوالا، ثم يفتح من جديد بعد العصر.
أساطير وروايات
تقول الأساطير التي يتداولها البعض إن غرداية أو تايردايت أو تاغردايت، بحسب اختلاف النطق، هي كلمة مكونة من كلمتين غار وداية أو ضية، ويمكن ترجمتها لدى البعض على أنها “مغارة ضية”، كما تعني القطعة المستصلحة الواقعة على حافة الوادي، وفق آخرين.
جانب من المدينة الصحراوية
لكن الرواية التي باتت مقبولة لدى الجميع فتشير إلى أن فتاة شابة ذات جمال بديع تسمى ضية، تورطت في علاقة حب عفيف أفضت إلى إهانة عشيرتها التي غضبت وقامت بطردها، فخرجت نحو المجهول وسط الصخور والرمال لأيام عدة إلى أن عثرت على كهف محفور في كتلة صخرية عند باب الصحراء، حيث اتخذته مكاناً للمبيت والإقامة.
وهي على هذه الحال، تخرج في النهار بحثاً عما يصد رمقها وتبقى تارة تفكر في مصيرها وتستسلم للنوم لفترة، في حين ومع حلول الظلام تشعل الفتاة “الهاربة” ناراً من الأغصان التي التقطتها من حولها، للإضاءة ولإخافة الحيوانات البرية، مما جعل المكان يلفت المارين من التجار والمسافرين وقطاع الطرق والرعاة.
وفي أحد الأيام، مر من المكان شخص اسمه “سيدي بوقدمة”، وهو رجل تقي مشهور بطيبة قلبه، كان يقصد مقام أحد الأولياء الصالحين، فلاحظ دخاناً يتصاعد من الكهف، فقصد المكان فضولاً ليعثر على “ضية” الفتاة ذات الحسن والخلق الكبيرين، فقصت عليه حكايتها مع حبيبها وقبيلتها، مما حز في نفسه ووعدها بأنه سيساعدها، وهو ما تحقق وعادت إلى أهلها، بعد أن توسط لها الرجل التقي.
مرت الأيام ولم تمر مشاهد الجمال والحياء والأخلاق عن مخيلة “سيدي بوقدمة” الذي لم يصبر كثيراً وراح يطلب يد الفتاة للزواج، ليتم ذلك ويقررا الاستقرار قرب الكهف الذي التقيا فيه لأول مرة، وتأسست بذلك المدينة التي حملت اسم غرداية في عام 1048.
المدينة في خطر
وفي السياق ذاته، يرى المهندس المعماري كمال رمضاني، في تصريح لـ”اندبندنت عربية”، أنه رغم القيمة الإنسانية والعلمية والجمالية لعمران المنطقة فإن الوضع بات مخيفاً في ظل التدهور الذي تعانيه جراء تقلبات الزمن والتغيرات المناخية، وكذا تدخلات الإنسان، إضافة إلى عوامل عدة شوهت الماضي العريق لهذه الجهة. وقال إنه توجد عدة مبان متدهورة وآيلة للسقوط، كما انتشرت أشكال معمارية دخيلة غير ملائمة مع النمط المعماري للمنطقة لا سيما بعض المنشآت المنجزة من الأسمنت المسلح التي حلت محل مواد البناء التقليدية التي تتكون أساساً من مادة الجبس.
وأضاف رمضاني، أنه رغم وجود مخطط لحفظ واستصلاح القطاع المحفوظ للمنطقة، والتدابير الوقائية لضمان ديمومة تراثه الثقافي كمكسب حضاري، ولعديد النصوص والتشريعات القانونية التي تسعى بجدية أكثر لحماية وصيانة النسيج المعماري التقليدي، إلا أن هناك عديداً من النقائص والعقبات في عمليات الترميم، مشيراً إلى أن عديداً من السكنات التقليدية التي تعد بمثابة جوهرة للعمارة القديمة، ويشكل المعلم التاريخي الأكثر زيارة بالمنطقة، وواجهاته الرائعة والمتألقة، باتت عرضة للتلوث بفعل عديد التسربات في شبكات المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي.