حرية – (2/1/2024)
استخدم المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة وذلك لأول مرة، وهي المادة التي تخول الأمين العام للأمم المتحدة لفت انتباه مجلس الأمن إلى أي مسألة يرى أنها قد تهدد حماية السلم والأمن الدوليين، لم يكتفِ غوتيرش بذلك في موقفه من الحرب البربرية غعلى غزة، فقد كان له خطاب سابق يقول فيه إن لهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 جذوراً بغلق أفق الحل السياسي على الفلسطيني، حيث يرى القتل أمام عينيه، كما طالب مراراً بوقف إطلاق النار الفوري.
وُلد غوتيرش في البرتغال عام 1949، وانتمى للحزب الاشتراكي هناك، وصار رئيساً للوزراء عام 1995م، وللرجل مواقف في دعم المهمشين في بلده وعالمياً، وهو إذ يقدم موقفه من القضية الفلسطينية لم يكن موقفاً عابراً بل رأياً يتبناه منذ عقود ربما.
وقد صبغ منصب الأمين العام بطبيعة وشخصية من يتولاه، فهناك بعض العجائب في هذا المنصب، إذ تولاه أحد جنود النازيين في الحرب العالمية الثانية أمانة الأمم المتحدة، وهو منصب قائم على دعم وتعزيز السلام العالمي، الدكتور كورت فالدهايم رئيساً للنمسا لاحقاً، والأمين العام الرابع للأمم المتحدة، تغاضت الدول عن تاريخه بادئ الأمر، إلى أن كان له موقف غير متوائم مع إسرائيل نسبياً، ففتحت النار عليه، وبعد أن خرج ذكر أنه كان جندياً في (إس إيه) لكنه لم يرتكب جرائم إلا أنه علم بها أثناء خدمته. تعرّض الرجل إلى مقاطعة سياسية أوروبية وأمريكية عندما تولى رئاسة النمسا، ومُنع من دخول الولايات المتحدة.
وبين هذا وذاك مرّ على المنصب شخصيات كاريزمية وقوية حاولت أن تحقق نجاحات وتوقف الحروب من خلال عمل دبلوماسي، مثل: يو ثانت وغوتيريش، وآخرين كانوا متواطئين إما بالصمت والسلبية مع مرتكبي الجرائم في الحروب التي وقعت في فترته مثل: بطرس غالي أو كوفي أنان، أو ضعيف لم يؤدِّ لأي تحول سوى إضعاف دور الأمم المتحدة مثل بان كي مون.
يو ثانت.. المدرس الذي تحدى الولايات المتحدة
وُلد يو ثانت في بورما عام 1909، ميانمار حالياً، عُين كمدرس في المدرسة الوطنية العليا التي تخرج فيها في بنتاناو، كما تولى نظارة المدرسة، ثانت هو الأمين العام الثالث للأمم المتحدة، عُين أميناً عاماً للأمم المتحدة بالنيابة بعد مقتل الأمين العام داغ همرشولد في حادث تحطم طائرة وقع في سبتمبر/أيلول 1961.
تولى يو ثانت الأمم المتحدة في أحد أخطر الحروب التي وقعت بعد الحرب العالمية الثانية بين الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي والكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، حرب فيتنام التي لم تُبقِ ولم تذر، التي خلفت أكثر من مليون قتيل من الفيتناميين، وما يقرب من 50 ألف قتيل للجنود الأمريكيين.
بدأ ثانت رحلات مكوكية لفرض حالة من الحوار بين القوى المتحاربة، كان مطلبه الرئيسي العودة لاتفاق جنيف 1954، واضعاً ثلاثة شروط لبدء عملية التفاوض: أولاً وقف قصف فيتنام الشمالية، ثانياً تقليص كافة الأطراف لأنشطتها العسكرية في جنوب فيتنام، وهو ما قد يؤدي وحده إلى وقف إطلاق النار، وثالثاً استعداد جميع الأطراف للدخول في مناقشات مع أولئك الذين كانوا يقاتلون بالفعل.
كان شغل يو ثانت هو إيجاد مفاوضات سرية أول الأمر، سعى لتوفير الأرضية في باكستان وبورما، وبالفعل عرضت بورما قبول رعاية المفاوضات، إلا أن الولايات المتحدة عارضت جهوده، وهو بالفعل أول أمين عام للأمم المتحدة تحدث بينه وبين الولايات المتحدة سجال، حيث رفضت الولايات المتحدة مقترحات ثانت بما فيها التفاوض السري.
تزامن الرفض الأمريكي لاقتراح يو ثانت مع القرار القاتل بقصف فيتنام الشمالية. وبعد أيام قليلة أصدر الأمين العام بياناً أعرب فيه عن مخاوفه “فيما يتعلق باحتمالات التصعيد الخطيرة”. وأضاف: “مثل هذا الوضع، إذا خرج عن نطاق السيطرة، فمن الواضح أنه سيشكل أخطر تهديد للسلام في العالم”. ودعا “بقوة شديدة إلى ضرورة إيجاد الوسائل، وإيجادها بشكل عاجل داخل الأمم المتحدة أو خارجها، لتحويل البحث عن حل بعيداً عن ميدان المعركة إلى طاولة المفاوضات”.
يصعّد لهجته ضد الولايات المتحدة بقوله: “إذا قال أحد إن وجود الفنيين السوفييت على الأراضي الكوبية يشكل تهديداً للسلام في المنطقة، فقد يقول آخرون -وهم يقولون ذلك بالفعل- إن وجود القوات الأمريكية في فيتنام الجنوبية يشكل أيضاً تهديداً للسلام في تلك المنطقة بالذات”.
كان ثانت ينظر لتهديد فيتنام على أنه بادرة لحرب عالمية ثالثة فهو عاصر الحربين العالميتين طفلاً وشاباً، إذ حاول جاهداً أن يكون له دور في إيقافها، فانخرط منذ عام 1963 حتى 1966 محاولاً حل الأزمة ونزع فتيلها، لكنه فشل بسبب تعنت الولايات المتحدة، فأعلن عدم ترشحه لفترة ثانية، قاصداً ممارسة ضغوط على الولايات المتحدة، وبالفعل بذلت الولايات المتحدة جهداً لأن يستمر في منصبه، وقدمت تنازلات لم تستمر كثيراً وبعدها بعامين ستنقلب الدنيا في فيتنام رأساً على عقب، وقتها كان ثانت بدأ تمرداً كبيراً بأن انسحبت الأمم المتحدة من الانخراط في أي عمل حقيقي على الأرض لفك النزاع، باستثناء الدور الإغاثي.
كبش الفداء.. بطرس غالي
المصري بطرس غالي وُلد عام 1922، وهو الأمين العام السادس للأمم المتحدة، إذ كان الأمين العام الوحيد الذي لم يتولَّ المنصب مرتين بسبب استخدام الولايات المتحدة الفيتو ضد قرار التجديد له مع أنه حصل على أغلبية ساحقة في مجلس الأمن، وبالرغم من أن الولايات المتحدة اعترضت على تجديده فلم يكن بطرس غالي أبيض الكفّ بخصوص أدواره في الأزمات التي حدثت في ولايته الوحيدة.
تولى بطرس غالي في أكثر اللحظات حساسية، إذ كان الاتحاد السوفييتي تفكك لتوّه، وبدأت الولايات المتحدة كسيدة متفردة بقيادة العالم، الإمبراطورية العالمية التي لم يُرَ لها مثيل من قبل، ستفتح آفاق العولمة، تحتل الأسواق، وترتب العالم كما تشاء، تبتلع مخلفات الاتحاد السوفييتي، وتعلن نفسها الشرطي الذي يفرض الأمن للعالم، سيدة البحر وسلطانه، ومحرك التجارة العالمي.
اندلعت حروب بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، كان أبرزها الحروب التي تشكلت على إثر تفكك الاتحاد اليوغسلافي، إذ هاجم الصرب والكروات مسلمي البوشناق في البوسنة والهرسك، وارتكبوا فظاعات هنالك، كانت الأمم المتحدة شريكة في تلك الجرائم، بالطبع لا توجد أدلة على تورط بطرس غالي في ذلك، لكن من المؤكد أن ضباط قوات الأمم المتحدة انخرطوا في تلك الجرائم، منهم قائد القوات الكندي الجنرال لويس ماكينزي الذي سيحظى بالجوائز والتكريمات رغم اتهام المدعي العام البوسني له بتهم الاغتصاب، بل تورطت تلك القوات في تمكين الصرب من قتل رئيس وزراء البوسنة حقي توايلديتش والذي كان يستقل سيارة تابعة لقوات اليونيفيل.
كان لغالي دور أكثر سلبية حد التواطؤ، إذ اتهمته الصحفية ليندا ميلفرن بأنه وافق على بيع أسلحة سرية بقيمة 26 مليون دولار إلى حكومة، اتهم أيضاً بتقاعسه عن حشد الأمم المتحدة للتدخل لوقف حرب الإبادة التي حدثت في رواندا، وسيلقى اللوم عليه من قبل الصوماليين لأنه كان شريكاً في تصعيد الأزمة الصومالية.
يعتقد أن السبب الرئيسي استخدام الولايات المتحدة الأمريكية الفيتو ضده هو حرب البوسنة بتحميله وزرها ورفع التواطؤ عن أوروبا والولايات المتحدة، فقد كان الفرنسيون متواطئين بالفعل والقوات الكندية، ونفس الأمر ما كشفته الحقائق عن تغاضي حد التواطؤ فرنسي في حرب الإبادة في رواندا.
يذكر لغالي موقفه الداعم لحقوق الشعب الفلسطيني، إذ أدان مجزرة قانا 1996م، وهو ما عزز للولايات المتحدة رغبتها في التضحية به، وقد كان بطرس غالي متواطئاً بالفعل بقبوله بأن يلعب دوراً سلبياً والموافقة على الرغبات الأوروبية والأمريكية، حمل المأساة في رواندا والبوسنة كلها، وهي أزمة في شخصية الرجل أنه كان غير حيادي مُحابٍ لفرنسا وبريطانيا والولايات المتحد، حيث يتضح دور الولايات المتحدة المتراخي عن التدخل في رواندا، وأن الرجل حاول مقابلة بيل كلينتون الذي رفض مقابلته، مقوضاً دور الأمم المتحدة في وقت بدت الولايات المتحدة أنها الآمر الناهي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
داعم إسرائيل.. كوفي عنان
كان الدبلوماسي الغاني كوفي عنان المولود عام 1938م المشرف الدبلوماسي على وجود قوات الأمم المتحدة في رواندا، اعترف كوفي أنان في مذكراته بأنه ارتكب خطأً في رواندا؛ لأنه لم يأخذ تحذيرات قائد قوات حفظ السلام الكندي روميو داليير الذي أرسل له برقية وراء الأخرى يحذره من مجازر مقبلة.
ويعتبر شريكاً في الاتهامات التي وجهت لبطرس، لكنه نجا من تلك الاتهامات وهو ما يؤكد أن الولايات المتحدة اتخذت موقفاً من بطرس ليس لأنه عارض رغبتها في قصف الصرب، وإنما لأسباب أخرى إما أنها أرادت أن تورطه بأن يحمل خطيئة الجريمتين في البوسنة ورواندا، أو أنه بالفعل كان سبباً في توتر الأوضاع في الصومال، أو كليهما.
من المعروف دور كوفي أنان من حرب العراق، حيث عارضها لكن بشكل متأخر بعد أن قضت الولايات منها وطراً، إذ كانت له تصريحات يصفها بأنها حرب غير شرعية ولا تخضع لميثاق الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2004، فتحت تلك التصريحات النار عليه، إذ خرجت تحقيقات النفط مقابل الغذاء بفضيحة تتهم مسؤولين في الأمم المتحدة بالتربح من ورائها، كان ابنه أحد هؤلاء المتهمين، إذ اشتركوا مع صدام حسين في الإخلال ببنود الاتفاق والتربح غير المشروع.
إلا أن موقف أنان الذي كان جيداً إلى حد ما بشأن العراق، بل إنه تعاون في أمور فنية بيروقراطية بتأخير توقيعه على عمل المفتشين من أجل تنظيف العراق للمنشآت التي ستزورها لجان البحث عن الأسلحة، لكنه كان ضعيفاً أمام الولايات المتحدة بصورة كبيرة، إذ وافق على عودة موظفي الأمم المتحدة إلى بغداد بضغط أمريكي فقتل كثير منهم بسبب التفجيرات وعدم استقرار الوضع.
دور أنان السيء كان في فلسطين، حتى وإن أدان الاستيطان لكنه في المقابل كان أقرب أمين عام لإسرائيل، إذ شكّل لجنة على مضض للتحقيق في المجازر التي ارتكبت في مخيم جنين أبريل/نيسان برئاسة مارتي إحتساري الرئيس الفنلندي السابق، وعندما رفضت إسرائيل استقبال اللجنة طلب من مجلس الأمن التخلي عن إرسال الوفود والاكتفاء بالتقرير، وهل يصح تقرير دون زيارة ميدانية وتحقيق؟!
كما أشار عبد الحميد صيام، المحاضر بمركز دراسات الشرق الأوسط، جامعة رتغرز بنيوجيرسي، إلى أنه عين تيري رود لارسنز عام 1999 ممثلاً للأمم المتحدة لدى السلطة الفلسطينية ومنسقاً لعملية السلام، بناءً على ضغوط أمريكي، وقد كانت زوجته سفيرة النرويج في تل أبيب، وكان معروف عنه الانحياز للجانب الإسرائيلي. وكذا عيّنه ثانية في ممثلاً في لبنان لتنفيذ طرد القوات السورية من لبنان، ونزع سلاح “حزب الله”.
كذلك تعمّد عدم زيارة جدار الفصل العنصري عام 2006، أضف لأنه فعل ما فعله كريم خان مدعي المحكمة الدولية عندما زار أهالي القتلى الإسرائيليين في 2023 ولم يزر غزة، فقد قام كوفي أنان بزيارة أهالي المختطفين الإسرائيليين في لبنان والذين كانوا سبب حرب يوليو/تموز 2006، لكنه لم يزر أياً من أهالي آلاف المعتقلين الفلسطينيين.
عقدت البعثة الإسرائيلية حفل وداع له في نيويورك بمناسبة انتهاء ولايته، قال أحد المتكلمين الصهاينة في الحفل: “نود أن نشكر كوفي أنان للأشياء التي عملها من أجل إسرائيل وللأشياء التي لم يعملها أيضاً من أجل إسرائيل”.
الضعيف الذي أنهكه القلق.. بان كي مون
وُلد بان كي مون في جمهورية كوريا 1944م، ويحمل جنسية كوريا الجنوبية، وقد اختير ممثلاً عن مجموعة شرق آسيا، جاء بان كي مون في أكثر اللحظات فارقة في الشرق الأوسط، وربما في العالم كله، الحرب على الإرهاب في أوجها، أزمة اقتصادية عالمية، ثم ثورات الربيع ضرب العالم العربي ثم تصل إلى دول عديدة في العالم، وأخيراً حروب أهلية متصاعدة في العالم العربي وغيره بالإضافة إلى أزمة القرم في أوكرانيا.
لم يكن له أي دور كبير في تلك القضايا، يعبر عن قلقه دائماً، لكنه في النهاية نجح في كثير من الملفات الحقوقية مثل الاحتباس الحراري، مشاكل المياه، والتمييز ضد المرأة، أما في حفظ الأمن والسلم العالميين فكانت بعيدة كل البعد عن تحقيق فارق، وهو ما رغبت فيه الولايات المتحدة من تحويل هذه المؤسسة إلى حقوقية في لحظات ما تريد أن تمرر الأمر، وتشهرها كسلاح في حالة رغبت في استخدامها ضد طرف أو آخر.
ومن طرائف قلق بان كي مون فقد حصل له عام 2014 أنه “قلق” 180 مرة، منها 27 بخصوص اليمن، و19 بخصوص الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، و15 مرة لأوكرانيا، و11 لأفريقيا، و9 للعراق، و7 لسوريا، و6 لنيجيريا، و5 لجنوب السودان و4 لمالي، بخلاف قلقه بخصوص المُناخ والمجاعات والأوبئة.
ورغم ذلك كله لم يكن للرجل دور حقيقي لا سلبي ولا إيجابي في ذلك كله، إذ كان أحد أضعف من تولوا هذا المنصب، لم تتخذ دولة واحدة موقفاً سلبياً من الرجل سوى المغرب بسبب قضية الصحراء، وهو ما اعتذر عنه، ولم يتهم بفساد ولا بتواطؤ، ولم يكن مؤذياً ولا طيباً، ودخلت المنظمة الدولية في عهده طور الضعف الأخير.