حرية – (8/1/2024)
منذ بداية التاريخ، شهد العالم العديد من الحروب والنزاعات المسلحة في بقاع مختلفة، التي تسببت في آثار مدمرة، وكان لها انعكاس سلبي على الأرض والبشر.
وخلال هذه الحروب، توفرت العديد من المعلومات والبحوث المتمحورة حول الأمراض النفسية، التي بدأت تظهر لأول مرة، سواء على المواطنين أو الجنود.
فتم تشخيص مجموعة منها، بعضها متعلق بالعنف وأخرى بالصدمات، ليتم البحث عن علاج لها، او حتى طريقة للتقليل من حدتها، من أجل الحفاظ على الصحة العقلية للمصاب بها.
إذاً ما الآثار النفسية للحروب؟ وما تأثير النزاعات المسلحة على الصحة العقلية للأفراد والمجتمعات؟ وما الاضطرابات النفسية التي ظهرت وتطورت بسبب الحروب؟ لنتعرف عليها.
الحرب العالمية الأولى وصدمة القصف
ظهرت صدمة القصف لأول مرة خلال الحرب العالمية الأولى، وهي عبارة عن صدمة النفسية يعيشها الأشخاص الذين يعيشون في أماكن بها حرب وقصف.
وقد بدأت آثار صدمة القصف تظهر على الجنود خلال الحرب، من خلال أعراض تتمثل في الذعر والخوف والهروب وعدم القدرة على النوم أو المشي أو الكلام.
كانت هذه الحالة محيّرة للأطباء والسلطات العسكرية، وتم تقديم تفسيرات مختلفة لها، بعضها جسدي وبعضها عاطفي.
إلا أن هذا المرض النفسي ارتبط بعوامل متعددة تتعلق بالبيئة والشخصية والتاريخ النفسي والاجتماعي للفرد الذي يصاب بها.
أي إنه تم تشخيص التعرض لصدمة القصف عندما يتعرّض الفرد لموقف مهدد للحياة أو مُروع أو مؤلم بشكل شديد، ويشعر بالعجز أو الخطر أو الفزع أو الصدمة.
وفي سياق الحرب، يمكن أن تشمل هذه المواقف القصف والقتال والإصابة والأسر والتعذيب والشهادة على الموت والدمار.
عندما يتعرض الفرد لمثل هذه المواقف، يتفاعل جسمه وعقله بطرق تهدف إلى البقاء والتكيف، الشيء الذي يسبب تغييرات في الجهاز العصبي والهرموني والمناعي والعضلي.
هذه التغيرات تساعد الفرد على التعامل مع الموقف لفترة محددة، إلا أنه بعد أن تطول المدة، وتتكرر نفس الأحداث، فقد تؤدي إلى اضطرابات مثل القلق والاكتئاب والفوبيا والوسواس والهلوسة والانفصام، وقد تصل إلى محاولة الانتحار.
وتشمل أعراض صدمة القصف الجسدية كلاً من الصداع، والدوار، والغثيان، والتقيؤ، والتعرق، والرعشة، والتشنجات العضلية، والتنميل، والضعف الجسدي، والإرهاق، والأرق، ورؤية الكوابيس باستمرار، وفقدان الشهية والوزن، والحساسية الزائدة للضوء والصوت واللمس، وفقدان الرغبة الجنسية، وغياب الدورة الشهرية عند النساء.
كما يمكن أن تظهر بعض الأعراض الأخرى، مثل فقدان السمع والبصر والذاكرة والكلام والتوازن والتنسيق.
فيما قد تظهر بعض السلوكيات الغريبة، من بينها محاولات الهروب المستمر، وتجنب الآخرين، والعدوان والعنف والانفعال والبكاء والصراخ والضحك بغير سبب، والتحدث بسرعة أو ببطء، وتشتت الانتباه، وإيجاد مشاكل في التعلم.
تم تطوير البحث حول هذه الحالة النفسية، التي كانت في البداية تعتبر مجرد جبن أو غباء من الجنود من أجل عدم المشاركة في الحرب، إلا أن الطبيب وعالم النفس تشارلز صمويل مايرز عمل إلى إيجاد تفسير لكل ما يحصل، وذلك خلال 1914-1915.
وقد تم تطوير مجموعة من العلاجات حينها، إلا أنها كانت فقط من أجل تهدئة الشخص ومساعدته على التخلص من بعض الأعراض التي تلازمه.
الحرب العالمية الثانية وإجهاد الحرب
بالرغم من التوصل إلى تفسير للحالة التي كان يعاني منها الجنود وبعض الأفراد خلال الحرب العالمية الأولى، والتي تمت تسميتها صدمة القصف، إلا أنه خلال الحرب العالمية الثانية بدأت تظهر مشاكل جديدة على الجنود، والتي تم البحث في تفاصيلها، لمعرفة أسبابها.
وقد تبين أن إجهاد الحرب، والذي يُعرف كذلك بتفاعل كرب القتال، على أنه عبارة عن سلوكات متفرقة ناجمة عن الإجهاد جراء الحرب، وهي التي من شأنها أن تقلل من فعالية القدرة القتالية للجندي.
ومن بين الأعراض التي تميز هذه الحالة النفسي، هي الإرهاق، وتباطؤ زمن رد الفعل، والتردد، وانفصال الشخص عن محيطه، وعدم القدرة على تحديد الأولويات.
وحسب التشخيص الطبي، فإن تفاعل كرب القتال مرض قصير الأمد، وينبغي عدم الخلط بينه وبين صدمة القصف، التي تم تشخيصها أولاً، أو غيرها من الاضطرابات طويلة الأمد، رغم أن الكثير من العلامات تكون متشابهة في بعض الأحيان.
وتتباين معدلات الإصابة بإجهاد الحرب، مقارنة بإصابات المعارك حسب شدة القتال، إذ تظهر في العادة عند المحاربين والجنود، لا المدنيين، الذين هم أكثر عرضة لصدمة القصف أكثر من شخص آخر.
إذ تحدث هذه الحالة خلال فترة القتال، أو عملية التحضير له، بعد استجابة الجسم للتغيرات الفسيولوجية والسلوكية والعاطفية والعقلية وغيرها.
والنتيجة هي سلسلة متواصلة من الاستجابات التلقائية التي يشار إليها باسم “شلال الدفاع”، والتي تتميز بارتفاع أو انخفاض شديد في الوظائف الفسيولوجية، مثل الوعي، والإثارة، والسلوك، والعاطفة، والعقل، والكلام، والحركية الحسية.
تكون هذه التغيرات شديدة وتسبب ضعفاً متوسطاً إلى شديد طوال فترة استمرارها، لكن مدتها لا تتجاوز ساعات أو بضعة أيام على الأكثر.
ويتمثل العلاج عن طريق محاولة محاورة المقاتل، والتواصل معه عن طريق زيادة الثقة في نفسه، وفي حال عدم الاستجابة، يصبح من الضروري المكوث في المستشفى إلى أن يتم التخلص من الأعراض.
حرب فيتنام واضطراب ما بعد الصدمة
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان هناك عدد من الأشخاص الذين يعانون من بعض المشاكل النفسية، إلا أنها لم يتم تشخيصها بالشكل الصحيح، وتم إدخالها في خانة الأمراض المذكورة سابقاً، أو ضمن حالات الاكتئاب العادي.
إلا أنه بعد حرب فيتنام، في الفترة ما بين 1955-1975، كانت حالات الإصابة بالأمراض النفسية جد بسيطة، مقارنة بالحروب الأخرى، وحجم الدمار في هذه الحرب وشدتها.
وقد تم تفسير هذا إلى تطور الطب النفسي خلال الفترات الماضية، إلا أنه كان هناك مرض جديد ينتظر تشخيصه، وهو الذي يُعرف الآن باسم اضطراب ما بعد الصدمة.
إذ بعد عودة الجنود الأمريكيين من فيتنام، حصل عليهم عدة تغيرات نفسية مفاجئة، منهم من احتاج أكثر من 5 سنوات لكي تظهر عليه، إذ كانت البداية في مرحلة التشخيص سنة 1980.
وفي هذه السنة، عندما أصدر المجلد الثالث الأمريكي لتشخيص الأمراض النفسية، والذي تم فيه الكشف عن مصطلح اضطراب ما بعد الصدمة، لتتم دراسة هذه الإحالة بشكل معمق أكثر في السنوات التي تلت ذلك.
وتتمثل أعراض اضطراب ما بعد الصدمة في الشعور بذكريات الحادث المؤلم الذي أصبح من الماضي على أنه شيء حدث من جديد، أو من فترة قريبة فقط.
وتذكر لحظات مختلفة من الحادث، الذي تجعل الشخص يدخل في حالة نفسية سيئة، من بينها الانهيار والاكتئاب، ومشاكل في النوم، ورؤية كوابيس مستمرة، والقلق المستمر.
كما يصبح الشخص منفصلاً عن عائلته ومحيطه، ويفضل العزلة والبقاء وحيداً أكثر فترة ممكنة، مع انعدام الاهتمام بالأنشطة اليومية الحياتية، مثل العمل أو الدراسة.
كما تشمل الأحداث بعض السلوكيات الجديدة على الشخص، من بينها انعدام التركيز، والانفعال والغضب السريع، والمبالغة في تحليل الأحداث، خصوصاً إذا كانت لها علاقة بالصدمة التي تعرض لها.
وقد توصل الطب النفسي إلى مجموعة من العلاجات على مر السنين التي مرت، والتي يتم اتباعها حتى وقتنا الحالي، وهي العلاج المعرفي السلوكي، ومجموعات الدعم، التي تهدف إلى دمج الشخص في المحيط من جديد، ثم الأدوية المضادة للاكتئاب.
حرب العراق ومتلازمة “عاصفة الصحراء”
استمر ظهور الحالات النفسية المرتبطة بالحروب بعد حرب فيتنام، وذلك سنة 191، خلال أحداث حرب العراق، عندما شن تحالف دولي مكون من 34 دولة، بقيادة الولايات المتحدة، عملية عسكرية ضد العراق.
واستخدم التحالف قوة جوية هائلة وتكنولوجيا متطورة لتدمير البنية التحتية العراقية والقوات الموجودة في الكويت وجنوب العراق.
وبعد 43 يوماً من القصف المتواصل، بدأت العملية البرية التي استمرت 4 أيام فقط، وانتهت الحرب بتحرير الكويت وانسحاب العراق.
إلا أنه خلال الفترة ما بعد الحرب بدأت تظهر الآثار النفسية للحرب على الجنود الذين شاركوا فيها، والتي سُميت متلازمة عاصفة الصحراء أو متلازمة حرب الخليج.. وسُميت هذه الآثار بمتلازمة عاصفة الصحراء، وهي مجموعة من الأعراض النفسية والجسدية التي شملت ما يلي:
- رؤية الكوابيس واسترجاع لحظات الحرب.
- الخوف من الأصوات العالية أو الأضواء الساطعة أو الأماكن المزدحمة.
- الاكتئاب والقلق والشعور بالذنب.
- الشعور بالخجل والذنب وتفضيل العزلة.
- الأرق والتعب والصداع والآلام.
- الشعور بالآلام العضلية والمفصلية والهضمية.
- الإدمان على الكحول أو المخدرات أو الأدوية.
- محاولة الانتحار أو العنف ضد النفس أو الآخرين.
وقد ربط الباحثون هذه المتلازمة بعدة عوامل، منها التعرض للعنف والصدمات وحالات الموت والدمار خلال الحرب، والتعرض للمواد الكيميائية أو الإشعاعية البيولوجية أو الحرارية، والغبار والدخان، بشكل مستمر.
كما تم وصف الشعور بالإجهاد والتوتر المستمرين، والعيش في وسط به حرارة وجفاف والحشرات، وانتشار الامراض والاصابات الخطيرة من بين الأسباب كذلك.
وقد اختلفت نسبة الإصابة بالمتلازمة بين الدول المشاركة في التحالف، وذلك بحسب عوامل مثل مدة المشاركة ونوع المهام والتدريب والدعم النفسي والاجتماعي.
وقد اتخذت الحكومات والمنظمات الدولية والمحلية عدة إجراءات لمساعدة الجنود المصابين بمتلازمة عاصفة الصحراء، ومنها:
- العلاج النفسي والدوائي للمصابين وعائلاتهم
- الإرشاد والتوعية والتثقيف والتدريب والتأهيل والتوظيف للمصابين وعائلاتهم.
- التعويضات والمزايا والحقوق والاعتراف بما قاموا به.
- بحوث ودراسات وإحصائيات والتقارير توثق المتلازمة.