حرية – (13/1/2024)
أثار تقديم دولة جنوب أفريقيا دعوة ضد الاحتلال الإسرائيلي في محكمة العدل الدولية نهاية السنة الماضية، والتي تتهمها من خلاله بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين منذ طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول سنة 2023.
لتبدأ التساؤلات في مواقع التواصل الإجتماعي عن من هي دولة جنوب أفريقيا وما سبب دعمها لفلسطين؟ وما تاريخها؟ وماهو نظام الأبارتايد الذي عانت منه بعد الإحتلال البريطاني؟ وكيف تمكنت من الخروج منه؟ ومن هو رمز السلام الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا؟
كل هذا سنقوم بالإجابة عنه في فقرات هذا المقال.
من هي دولة جنوب أفريقيا؟
جنوب أفريقيا، هو ذلك البلد الواقع في أقصى جنوب القارة الأفريقية، يتميز بتنوعه البارز في السكان والاقتصاد. تحدها من الشمال ناميبيا وبوتسوانا وزيمبابوي، ومن الشمال الشرقي موزمبيق، بينما يحدها من الغرب إسواتيني مساحتها الإجمالية 1.219.090 كم2.
تُعتبر دولة جنوب أفريقيا القوة الاقتصادية الرائدة في القارة السمراء، حيث تتمتع ببنية تحتية حديثة واقتصاد متقدم، كما تضم عدة موارد طبيعية مثل الذهب والكروم والفحم وخام الحديد والفوسفات والقصدير واليورانيوم والألماس والبلاتين والنحاس والملح والغاز الطبيعي.
تتمتع جنوب أفريقيا بمناخ شبه قاحل في معظم أنحاء البلاد وشبه استوائي على طول السواحل.
كما تشتهر جنوب أفريقيا بتنوع سكانها، حيث يشكل السود نسبة كبيرة تقدر بنحو 80% من سكانها. بالإضافة إلى ذلك، توجد أقليات متنوعة تشمل أفارقة من أصل أوروبي ومجتمعاً هندياً آسيوياً. يعكس هذا التنوع في التكوين السكاني تاريخاً متنوعاً وغنياً، ويُظهر الدستور الجنوب أفريقي اعترافه بـ12 لغة رسمية، مما يجعلها واحدة من الدول ذات التنوع اللغوي في العالم.
على مر العقود، شهدت دولة جنوب أفريقيا تحولات اجتماعية وسياسية هامة، خاضت خلالها مواجهات ناجمة عن الصراعات العرقية والعنصرية. فبعد فوز الحزب الوطني في عام 1948، تم تبني سياسة الفصل العنصري، والتي استمرت حتى عام 1990. بعدها بدأت جهود الفترة ما بعد الفصل العنصري لتحقيق التوافق والتعايش السلمي بين مختلف الأعراق والثقافات.
سبب التسمية دولة جنوب أفريقيا
اسم “جنوب أفريقيا” يأخذ مرجعه من الموقع الجغرافي للبلاد على الحافة الجنوبية لأفريقيا. عند تأسيسها، أُطلق عليها اسم اتحاد جنوب أفريقيا؛ مما يعكس تاريخها كاتحاد لأربع مستعمرات بريطانية سابقة.
ومنذ سنة 1961، كان الاسم الرسمي باللغة الإنجليزية “اتحاد جنوب أفريقيا”، وباللغة الأفريكانية “Republiek van Suid-Afrika”. ومنذ عام 1994، اعتبر اسم البلاد رسمياً في جميع لغاتها الإحدى عشرة.
داخل دولة جنوب أفريقيا يتم استخدام أسماء أخرى للدولة؛ إذ يأتي مصطلح “مزانسي” من الاسم الكوسي “أومزانتسي”، ويعني “جنوب”، وهو اسم شائع يستخدم للإشارة إلى جنوب أفريقيا داخلياً. بينما تُفضل بعض الأحزاب السياسية المؤيدة للوحدة الأفريقية مصطلح “آزانيا”.
علم دولة جنوب أفريقيا والألوان
اعتمد علم جنوب أفريقيا في 15 مارس/آذار 1994، وأصبح رسمياً للبلاد منذ 27 أبريل/نيسان 1994. جاء هذا العلم ليحل محل العلم السابق الذي كان رمزاً مرتبطاً بتاريخ البلاد المتعلق بالأفريكانز والإنجليز.
يتكون العلم الجديد من ستة ألوان ترمز إلى مختلف الميولات السياسية في البلاد، وتمثل أيضاً الألوان التي استُخدمت سابقاً في أعلام البلاد على مر التاريخ. بالإضافة إلى ذلك، ترمز الألوان إلى الموارد الطبيعية الغنية للدولة.
يرمز اللون الأسود إلى السكان السود في البلاد، اللون الأصفر إلى المجتمع الرياضي المتنوع، واللون الأخضر إلى الأراضي الخضراء والمساحات الطبيعية. اللون الأحمر يُظهر التضحيات التي قدمها الشعب في سبيل الحرية، بينما يُرمز اللون الأزرق إلى السماء الصافية والأمان.
فيما اللون الأبيض يرمز إلى التسامح والوحدة. يعتبر العلم رمزًا للتنوع والوحدة في جنوب أفريقيا بعد نهاية فترة الأبارتهايد.
التعداد السكاني لدولة جنوب أفريقيا سنة 2023
يبلغ عدد سكان دولة جنوب أفريقيا لحدود بداية سنة 2024 أزيد م 60 مليون نسمة بمعدل نمو سنوي قدره 1.089% كما أن عدد سكان جنوب أفريقيا يمثل نسبة 0.75% من إجمالي عدد سكان العالم.
الفئة | العدد | الفئة | العدد |
تعداد السكان | 60.708.546 | المواليد يومياً | 1.140 تقريباً |
معدل النمو | 1.089% | الوفيات يومياً | 528 تقريباً |
رجال | 29.620.823 | نسبة الرجال | 48.792% |
نساء | 31.087.724 | نسبة النساء | 51.208% |
اقتصاد دولة جنوب أفريقيا 2023
تعتبر دولة جنوب أفريقيا أقوى بلدان القارة السمراء اقتصاداً وذلك يعود لعدة عوامل منها الموقع الجغرافي والتنوع السكاني وعلاقاتها الخارجية، من أهم منتجاتها وتصديراتها نجد كلاً من الذرة والقمح والسكر والفواكه والخضراوات والبلاتين والذهب وتركيب السيارات والآلات والمنسوجات والحديد والصلب والكيماويات والأسمدة.
الفئة | النسبة “2023” |
الناتج المحلي الإجمالي | 401 مليار دولار |
الناتج الفردي السنوي | 13478.75 |
نسبة النمو | 0.5% |
نسبة البطالة | 31.90% |
نسبة التضخم | 4.50% |
الدين الخارجي | 156 مليار دولار |
عاصمة جنوب أفريقيا
تعتبر مدينة بريتوريا العاصمة الإدارية لجنوب أفريقيا، وكانت سابقًا عاصمة لنظام الفصل العنصري. كانت أيضًا عاصمة جمهورية البوير في ترانسفال، ولفترة طويلة كانت موطنًا للسفارات الأجنبية والهيئات الحكومية.
بفضل قربها من جوهانسبرغ، أكبر مدينة في البلاد، أصبح لديها موقع مناسب لتكون العاصمة. تُعرف المدينة أيضًا باسم “مدينة جاكاراندا” نسبةً إلى أشجار الجاكاراندا التي تزين شوارعها بأزهار البنفسج خلال موسم الازهار السنوي. ب
ريتوريا تعتبر وجهة للطلاب الباحثين عن تعليم عالي في الجامعات على مستوى البلاد، بما في ذلك جامعة بريتوريا التي تأسست في عام 1908 وتُعد واحدة من أقدم وأكثر المؤسسات شمولًا في جنوب أفريقيا. تقع بريتوريا في الجزء الشمالي من مقاطعة غوتنغ في شمال شرق جنوب أفريقيا، وهي الجزء المركزي من بلدية مدينة تشواني الحضرية.
اللغات الرسمية في المدينة هي التسوانا، ونديبيلي، والأفريكانية، والإنجليزية. يبلغ إجمالي سكانها 741,651 نسمة، وتتميز بكثافة سكانية تبلغ 3732 شخص/كم2.
بريتوريا تعد المركز الأكاديمي لجنوب أفريقيا، حيث تضم ثلاث جامعات ومكتب جنوب أفريقيا للمعايير، ومجلس البحث العلمي والصناعي.
جنوب أفريقيا.. من البداية إلى القرون الوسطى
عندما نعود إلى أعماق تاريخ جنوب أفريقيا، نجد أن أوائل سكانها البشر الحديثين ظهروا قبل أكثر من 100 ألف سنة، وقد شكلت فترة ما قبل التاريخ في هذه المنطقة مراحل متنوعة. تم تقسيمها استناداً إلى تقنيات العصر الحجري والعصر الحديدي، لتصبح هذه المنطقة تضم أحد أبرز مواقع التراث العالمي.
السكان الأوائل في دولة جنوب أفريقيا، مع تنوعهم الثقافي والعرقي، كانوا يُعرفون بأسماء مثل الكويسان وخوي خوي والسان. استمرت هذه المجموعات في البقاء بعد اكتشاف الأوروبيين للساحل الأفريقي في القرن الثالث عشر، وتأثرت بالهجرات البانتو والاستيطان الأوروبي.
خلال سنة 1652، أسس “يان فان ريبيك”وهو مسؤول استعماري هولندي، ومؤسس مدينة “كيب تاون” مركزاً تجارياً فيها تحت راية شركة الهند الشرقية الهولندية، وأطلق على العمال الأوروبيين الذين استقروا في المنطقة “السكان الأحرار” وهم الذين بدأوا في تأسيس المزارع وتطوير المستعمرة.
في أعقاب الغزو البريطاني ما بين 1795 و1806، نشأت الرحلة العظيمة التي أسس خلالها الفورتريكرز عدة مستوطنات في جنوب أفريقيا. اكتشافات الماس والذهب في القرن التاسع عشر جذبت الانتباه العالمي وأثرت على الاقتصاد والهيكل الاجتماعي.
ولكن مع هذا الازدهار جاءت صراعات مع مستوطني البوير والإمبراطورية البريطانية، والتي بلغت ذروتها في حرب ضارية حول السيطرة على صناعة التعدين في جنوب أفريقيا.
الاستعمار الهولندي لدولة جنوب أفريقيا
بعد دخول الاحتلال الهولندي لجنوب أفريقيا سنة 1652، قررت شركة الهند الشرقية الهولندية إنشاء مستوطنة دائمة في كيب، وهي إحدى أكبر شركات التجارة الأوروبية التي كانت تعمل في طريق التوابل إلى الشرق.
على الرغم من أن الشركة لم تكن لديها نية لاستعمار المنطقة، إلا أنها أرادت إقامة مرفأ آمن للسفن العابرة وتوفير إمدادات طازجة للبحارة، فقد أُرسِلت بعثة صغيرة بقيادة يان فان ريبيك إلى تيبل باي في 6 أبريل/نيسان 1652.
استقرت الشركة في كيب تاون لتوفير الإمدادات للسفن التجارية واضطرت إلى استيراد مزارعين هولنديين لإنشاء مزارع. ازداد عدد البرغر، وهم المزارعون الهولنديون الذين استقروا في المنطقة، وبدأوا في توسيع مزارعهم. كان البرغر الأحرار من جنود معسكر الشركة وبستانيين لم يتمكنوا من العودة إلى هولندا.
على مدى الوقت، استقطبت المستوطنة عدداً كبيراً من العبيد من مستعمرات الهولندية في إندونيسيا. بدأت الشركة وفان ريبيك في توقيع عقود مع الخدم الخويخويين والسانيين.
كان السكان الأصليون للمستوطنة من أصل هولندي وألماني واللوثريين الفرنسيين، أما في سنة 1688، انضم الهوغونوت الفرنسيون إلى السكان، وكانوا بروتستانتاً، ليصبح بعدها السكان الأصليون والمستوطنون الأوروبيون والعبيد الآسيويون والأفارقة والخوي والسان جميعاً جزءاً من مجتمع متنوع من الأصول العرقية والثقافات في كيب، وكان لهم تأثير على السكان المحليين الناطقين بالأفرِيكانية اللغة الأصلية لجنوب أفريقيا.
نهاية الاستعمار الهولندي وبداية البريطاني
خلال فترة الاستعمار الهولندي وبالأخص سنة 1787، حاولت عصبة داخل سياسة الجمهورية الهولندية، تعرف باسم الحزب الوطني، الإطاحة بنظام الستاتهاودر “النظام الحاكم حينها” تحت حكم ويليام الخامس. هذه المحاولة جاءت قبل الثورة الفرنسية بفترة قصيرة، وأدت إلى فرار الثوار من البلاد.
وكرد فعل على ذلك أعلن ثوار باتريوت بعدها تأسيس جمهورية باتافيان المتحالفة بشكل وثيق مع فرنسا الثورية. أصدر الستاتهاودر في إنجلترا رسائل تأمر الحكام الاستعماريين بالاستسلام للبريطانيين. استولت بريطانيا على كيب في عام 1795 لمنعها من الوقوع في أيدي الفرنسيين. تخلى البريطانيون عن كيب مرة أخرى للهولنديين في عام 1803، ثم استعادوها في عام 1805 خلال الحروب النابليونية.
لم يكن البريطانيون مهتمين كثيراً في البداية بكيب، ولكنهم استوعبوها بسبب موقعها الاستراتيجي الذي كان يضم أحد أهم الموانئ في أفريقيا قبل انطلاق قناة السويس في مصر.
قوانين الاستسلام في عام 1806 سمحت للمستعمرة بالاحتفاظ بحقوقها وامتيازاتها، مما أدى إلى إطلاق جنوب أفريقيا في مسار مختلف عن بقية الإمبراطورية البريطانية. اعترف الهولنديون بالسيادة البريطانية على المنطقة في مؤتمر فيينا عام 1815، ودفعوا مبلغاً كبيراً للمستعمرة.
كانت سياسة البريطانيين في جنوب أفريقيا متقلبة، وكان الهدف الرئيسي حماية الطريق التجاري الاستراتيجي إلى الهند بأقل تكلفة ممكنة. كان النزاع مع البوير، الذين كانوا يشعرون بالنفور من السلطة البريطانية. انتقل البوير في عام 1836 من مستعمرة الكاب إلى ناتال وولاية أورانج المستقلة. في عام 1843، أسست بريطانيا مستعمرة ناتال حتى أصبحت ترانسفال جمهورية للبوير في عام 1852، وولاية أورانج المستقلة جمهورية في عام 1854.
أما خلال سنة 1872، حصلت مستعمرة الكاب على الحكم الذاتي داخل الإمبراطورية البريطانية، ولكن تم ضم ترانسفال إلى المستعمرات البريطانية في عام 1877. في عام 1879، شهدت الحرب الإنجليزية الزولوية هزيمة مملكة الزولو على يد بريطانيا.
أما خلال الفترة ما بين 1880 إلى 1881، نشبت حرب البوير الأولى حيث انهزمت ترانسفال أمام بريطانيا. وفي الفترة من 1899 إلى 1902، نشبت حرب البوير الثانية وشهدت هزيمة البوير وضم ترانسفال وولاية أورانج المستقلة إلى الإمبراطورية البريطانية.
في عام 1907، منحت جمهورية البوير حكماً ذاتياً مع قصر حق الانتخاب على البيض فقط ما سمي بعدها بـ”أبارتايد”. وفيما بعد، تم تشكيل اتحاد جنوب أفريقيا الذي يضم ترانسفال وولاية أورانج المستقلة والكاب وناتال. في عام 1919، وضعت ناميبيا تحت انتداب جنوب أفريقيا. في الحرب العالمية الثانية، شاركت دولة جنوب أفريقيا إلى جانب الحلفاء.
أول انتخابات في دولة جنوب أفريقيا
بعد انتخاب الحزب الوطني البويري “حزب البيض” في عام 1948، تبنت جنوب أفريقيا سياسة الأبارتايد، حيث أصبح للسود قيود في مجال العمل، ومنعوا من حق الانتخاب وحق الملكية، بالإضافة إلى عدم المساواة في تقاضي الأجور وعزلهم في المساكن وأماكن العمل والمدارس.
اتسع نطاق هذه السياسة لتشمل العديد من السكان، حيث حُكِمَ على الأربعة ملايين العناصر البيضاء بقية السكان، البالغ عددهم حوالي 29 مليون شخص.
فرضت الحكومة البيضاء سياسة فصل الأفارقة السود في مناطق مخصصة لهم، مع توفير الخدمات العامة لهم منفصلة عن البيض، مثل التعليم والصحة. أصدرت هيئة الأمم المتحدة قرارات لمقاطعة اتحاد جنوب أفريقيا في عام 1962 والسنوات التالية احتجاجاً على هذه السياسات، وقاطعت دول العالم الثالث اتحاد جنوب أفريقيا.
في مايو/أيار 1994، وبعد حكم الأغلبية، أصبح المؤتمر الوطني الأفريقي “African National Congress” الحزب الحاكم في دولة جنوب أفريقيا، حيث تم إنهاء سياسة الأبارتايد وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية.
ما هو نظام الأبارتايد؟
بعد انتهاء الاستعمار البريطاني تبدأ الفترة السوداء في تاريخ دولة جنوب أفريقيا خلال سنة 1948، عندما فرضت الحكومة البيضاء نظام الأبارتايد. كان هدفها الرئيسي الحفاظ على سيطرتها الاقتصادية والسياسية، وتمثيل الأقلية البيضاء ذات الأصول الأوروبية بشكل متفوق.
فرضت قوانين الأبارتايد تقسيماً عنصرياً صارماً، حيث فصلت السكان إلى فئات عرقية، مما أثر سلباً على السود والملونين والآسيويين. كما فُرضت قيود على حركتهم وتقديم الخدمات، وكانت الأوضاع الخاصة بالسود أسوأ.
تصاعدت الاحتجاجات الدولية ضد هذا النظام في ستينيات القرن الماضي، مما أدى إلى مقاطعة جنوب أفريقيا دولياً. وفي النهاية، انهار هذا النظام عام 1994 بعد عقود من المعارضة الداخلية والضغوط الدولية.
في نهاية الفترة السوداء، تم تسليم الحكم بطريقة سلمية، حيث أصبح نيلسون مانديلا رئيساً لجنوب أفريقيا. أنشأ لجنة “الحقيقة والمصالحة” للتحقيق في مظالم الأبارتايد وتحقيق العفو.ارتكب الأبارتايد جرائم ضد الإنسانية وأظهر تأثيره العميق على تاريخ دولة جنوب أفريقيا، ويتطلب فهماً دقيقاً وتحليلاً متأنياً للتعامل مع هذا الفصل المظلم في التاريخ.
جنوب أفريقيا في ظل الأبارتايد
شهد حزب الحزب الوطني في دولة جنوب أفريقيا فترة من التشريعات المعروفة باسم “الأبارتايد”، حيث تم تمرير سلسلة من القوانين التي فرضت الفصل العنصري. وكان أحد هذه القوانين قانون حظر الزواج المختلط عام 1949، الذي منع الزواج بين الأعراق المختلفة.
كما تم تعديل قانون الإخلال بالآداب العامة في عام 1950 ليشمل “العلاقات غير المشروعة بين الأعراق”؛ مما أدى إلى فصل بين البيض والسود والهنود والأشخاص الملونين.
لم يكن مسموحاً للسود بإدارة الأعمال التجارية أو ممارسة المهن في مناطق محددة إلا بتصريح استثنائي، وتم فرض فصل في وسائل النقل والمستشفيات والمناطق السكنية. تم تقسيم المجتمع إلى فصائل مختلفة حسب اللون، حيث كانت هناك مناطق بيضاء ومناطق سوداء. كانت الحياة في المناطق السوداء محدودة، مع قلة في التمويل ونقص في الخدمات الأساسية.
كما كان هناك فصل في التعليم والخدمات الصحية وحتى في استهلاك الكحول. السود لم يُسمح لهم بشراء المشروبات الكحولية، وكان هناك قيود على شراء بعض السلع. كما تم فرض ضرائب مختلفة على السود والبيض، مما أدى إلى عدم المساواة في الفرص والحقوق.
عزلت المناطق السكنية، وكان السكن فيها للسود مشروطاً بالعمل كخدم. ولم يُسمح للسود بالتوظيف في المناطق البيضاء إلا بتصريح خاص. كما كانت هناك اختبارات معقدة لتصنيف الأفراد عرقياً، مما أدى إلى تحديد مكان إقامتهم وحقوقهم.
جنوب أفريقيا ونيلسون مانديلا
في سابقة تاريخية لدولة جنوب أفريقيا، انتخب نيلسون مانديلا رئيساً للبلاد في 1994 بعد نهاية نظام الفصل العنصري “الأبارتهايد”. كان مانديلا، المحامي والناشط ضد الأبارتهايد والسجين السياسي السابق، أول رئيس للبلاد من بين الألوان وأكبر رئيس سناً، حيث تولى المنصب في سن 75 عاماً. حكم مانديلا لعهدة واحدة انتهت في يونيو/حزيران 1999.
- التحديات الداخلية والخطاب الرئاسي
في أعقاب فوز حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بنسبة 62.6% في انتخابات 1994، ألقى مانديلا خطاب توليه الرئاسة أعلن فيه نهاية الفصل العنصري وضرورة بناء “مجتمع تفتخر به البشرية جمعاء”. استعرض تحديات عهدته من مكافحة الفقر والتمييز، مؤكداً أنه “لا يوجد طريق سهل للحرية”. وجعل يوم 27 أبريل/نيسان عطلة رسمية باسم “يوم الحرية” في جنوب أفريقيا.
- انتقال السلطة وتأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة
بدأ مانديلا، منذ 1996، في ترك إدارة البلاد لثابو مبيكي، وتنازل عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في 1997، مما ساهم في استقرار البلاد. وفقاً لمفاوضات الانتقال، أُنشئت “لجنة الحقيقة والمصالحة” برئاسة ديزموند توتو لجمع الشهادات حول جرائم الأبارتهايد. كانت اللجنة هي محاولة لتحقيق التنفيس والتصالح من خلال تقديم الاعترافات والغفران.
المصالحة الوطنية.. رحلة نحو الوحدة والسلام
في إطار استراتيجيته الحكيمة لتعزيز المصالحة الوطنية، قاد نيلسون مانديلا جهوداً فعّالة نحو التلاقي بين مختلف أطياف المجتمع الجنوب أفريقي المتأثر بعقود من نظام الفصل العنصري. سعى مانديلا إلى تحقيق الوحدة والتسامح، وأبرزت بعض اللحظات التاريخية هذه المبادرة.
- زيارة Orania ولقاء أرملة هندريك فيرورد
رفعاً راية المصالحة، زار مانديلا بلدة أورانيا الأفريكانية المحافظة، حيث التقى بأرملة هندريك فيرورد، الشخص الذي شارك في صياغة قوانين الفصل العنصري. نظمت حفلة شاي في بريتوريا، جمعت زوجات رؤساء الوزراء ورؤساء الدول مع زوجات السجناء السابقين في جزيرة روبن آيلاند. هذه المبادرة تعكس استعداد مانديلا للالتقاء بمن كانوا جزءاً من النظام السابق بهدف تحقيق المصالحة.
- دعم فريق Springboks ولحظة التوجيه
شجع مانديلا السود في جنوب أفريقيا على دعم فريق لعبة الرغبي Springboks خلال نهائيات كأس العالم للرغبي 1995، والتي جرت في البلاد. بعد فوز الفريق، قدم مانديلا الكأس لقائد الفريق فرانسوا بينار، الأفريكاني. هذا الحدث أصبح رمزاً للمصالحة والتوحيد بين الأعراق في جنوب أفريقيا.
- تحديات وانتقادات
واجهت سياسة المصالحة انتقادات من بعض أنصار حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، خاصة بسبب دعم مانديلا لـ Springboks وزيارته لبلدة Orania. ومع ذلك، رأى مانديلا أن هذه الخطوات الجريئة هي السبيل الوحيد لتجنب حرب أهلية محتملة، خاصة في ظل تحديات سياسية قائمة.
رغم الانتقادات، حظيت سياسة المصالحة بالاعتراف الدولي باعتبارها نجاحاً في منع حدوث صراع أهلي بين السود والبيض. أثبتت هذه المساعي أن مانديلا لم يكن فقط زعيماً وطنياً بل أيضاً شخصية رمزية للسلام والتسامح.
مانديلا وإعادة بناء الاقتصاد
في محاولة لتحقيق المصالحة وخلق هوية وطنية جديدة في جنوب أفريقيا، عكف نيلسون مانديلا على تنفيذ برنامج التعمير والتنمية بدءاً من عام 1994. ترك مسؤولية القضايا الاقتصادية لوزيره ثابو مبيكي، محافظ البنك المركزي.
البرنامج شهد نجاحات ملموسة، حيث بُنيت أكثر من مليون ومئة ألف منزل بتكلفة منخفضة، ساهمت في إسكان خمسة ملايين شخص يعيشون في ظروف إيواء سيئة. كما حقق تحسيناً في البنية التحتية، حيث تم بناء طرق وشبكات صرف صحي وخزانات، مما أدى إلى خلق فرص عمل لأكثر من 240 ألف شخص.
ومع ذلك، تواجه الحكومة انتقادات بشأن جودة المنازل وعدم تلبية بعضها للمعايير. كما كان توزيع المياه يعتمد على الأنهار والسدود، وكانت توزيعها مجاناً في المناطق الريفية مكلفًا.
واجهت حكومة مانديلا انتقادات من اليسار الماركسي بسبب خياراتها الاقتصادية، حيث شكك البعض في قدرتها على تحقيق التغييرات الاجتماعية والاقتصادية الجذرية. كما اعتبر بعض أنصار التأميم أن الحكومة لم تلبِّ توقعاتهم بخصوص إعادة توزيع الثروة.
من هو نيلسون مانديلا؟
تمثل حياة نيلسون روليهلاهلا مانديلا، الزعيم السياسي البارز، والثائر الذي قاد معارك ضارية ضد نظام الفصل العنصري في دولة جنوب أفريقيا، قصة رمزية للتحرر والتغيير. وُلد مانديلا في 18 يوليو/تموز 1918، ورحل عن عالمنا في 5 ديسمبر/كانون الأول سنة 2013.
خلال فترة رئاسته لجنوب أفريقيا من 1994 إلى 1999، تاريخياً، أصبح أول رئيس من أصل أفريقي في فترة انتخابات متعددة وكان رمزاً للتوحد والتنوع.
شغل مانديلا مناصب بارزة في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وكانت نشاطاته المناوئة للفصل العنصري سبباً في اعتقاله، حيث قضى 27 عاماً في السجن. الضغط الدولي كان له الدور الكبير في إطلاق سراحه في عام 1990، ليصبح بعد ذلك رمزاً للمصالحة والتغيير الوطني.
مساهماته بعد الفصل العنصري
في فترة حكمه، ركز مانديلا على محاربة العنصرية والفقر، ودعم المصالحة العرقية. أسس دستوراً جديداً ولجنة للحقيقة والمصالحة، مما أسهم في توحيد البلاد بعد فترة صعبة. اتخذ نهجاً ليبرالياً في السياسة الاقتصادية وشارك في القضايا الدولية، بما في ذلك قضية تفجير رحلة بان إم 103 والتدخل العسكري في ليسوتو.
رغم الجدل الذي أحاط بحياته، فإن نيلسون مانديلا حصل على أكثر من 250 جائزة، منها جائزة نوبل للسلام في عام 1993. يُعتبر مانديلا مناهضاً للاستعمار والفصل العنصري، ويتمتع بالاحترام العميق داخل وخارج دولة جنوب أفريقيا.