حرية – (15/1/2024)
قبل 20 سنة من الآن، وبالضبط بتاريخ 13 يناير/كانون الثاني 2004، توفي المصور الصحفي الشاب توم هرندل، وعمره لم يتعدّ 22 سنة، بعد أن أطلق عليه قناص من جيش الاحتلال الإسرائيلي النار في وسط رأسه.
وقد كان هذا الشاب البريطاني، ناشط سلام ومصوراً صحفياً، مهتماً بالقضايا الإنسانية، فقد كان من بين أعضاء حركة التضامن الدولية، التي تأسست سنة 2001 من أجل دعم القضية الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
إذ كان توم هرندل من بين الأشخاص الذين واجهوا صعوبات كبيرة للوصول إلى قطاع غزة، من أجل نقل الواقع هناك، ومساعدة المحتاجين، وكذلك للمشاركة في المظاهرات التي كانت بعضها تقام في القطاع والأخرى في الضفة الغربية، من أجل طلب وقف الاحتلال.
من يكون توم هرندل؟
ولد توم هرندل في نوفمبر/تشرين الثاني 1981 بمدينة لندن البريطانية، بعد حصوله على شهادة الثانوية، تخصص في مجال التصوير الفوتوغرافي والصحفي في جامعة مانشستر متروبوليتان.
وقد كان له اهتمام بمجال حقوق الإنسان، خصوصاً فيما يخص القضية الفلسطينية، ليتطوع في حركة التضامن الدولية “ISM”، ويصبح ناشطاً ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
لكن قبل توجهه إلى قطاع غزة في فلسطين، كان توم قد تطوع في أكثر من دولة في المنطقة، من بينها العراق من خلال الحركة المناهضة للحرب ضد غزو العراق، ثم إلى الأردن للمساهمة في المساعدات الطبية للاجئين العراقيين، بعد أن اشتدت الحرب في العراق، ليقرر النجاة بروحه والخروج من البلد للمساعدة خارجياً.
توم هرندل والنضال من أجل حقوق الإنسان
خلال تواجده في الأردن، وبالضبط خلال سنة 2003، تعرف هرندل على أعضاء حركة التضامن الدولية التي تعمل مع المجتمعات الفلسطينية المحلية، فقرر السفر إلى قطاع غزة معهم، وذلك في شهر أبريل/نيسان من نفس السنة.
حط المصور الصحفي البريطاني الرحال في مدينة رفح، حيث كان يوثق بكاميرته لصالح الحركة انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان ضد الفلسطينيين.
وقد كان يراسل عائلته، حيث كان يبعث لهم صوراً من العدوان الإسرائيلي على المدنيين الفلسطينيين، فيما كتب في مذكراته: “لا يمكن لأحد أن يقول إنني لم أكن أرى ما يجب رؤيته الآن”، حسب السيرة الذاتية التي كتبتها عنه والدته.
كما أنه كتب عن مقتل راشيل كوري البالغة من العمر 23 عاماً، والتي سحقتها جرافة إسرائيلية مدرعة حتى الموت في مارس/آذار 2003، لأنها رفضت السماح للقوات الإسرائيلية بتدمير منزل فلسطيني.
وكتب: “أتساءل كم عدد الأشخاص الذين سمعوا ذلك في الأخبار، أو عدد قليل منهم، واعتبروه بمثابة وفاة أخرى، مجرد رقم آخر…”.
الاحتلال يقتل توم هرندل
كان توم هرندل، وعلى مدار الأيام القليلة التي قضاها في قطاع غزة، يشارك عدة صورة له مع أطفال غزة، وينشر صوراً أخرى توثق العدوان الإسرائيلي، إضافة إلى مشاركته في المظاهرات الرافضة لاغتصاب الأرض، والمطالبة إعادتها لأصحابها.
لكنه لم يكن يعلم أن ما يقوم به من أجل الإنسانية وبالضبط من أجل فلسطين، سيكون آخر ما يعرف عنه في حياته، بعد مقتله على يد جنود الاحتلال، الذين كانوا يهاجمون المدنيين بدون رحمة.
وفي تاريخ 11 أبريل/نيسان 2003، قام توم، مع نشطاء آخرين في حركة التضامن الدولية، بإقامة حملة سلام على طريق في رفح لمنع دورية دبابات إسرائيلية من المرور إلى المدينة.
إلا أنه في إحدى اللحظات، بدأ القناصة الإسرائيليون بإطلاق النار باتجاه المتظاهرين، عندما لاحظ توم ثلاثة أطفال فلسطينيين يقفون من الخوف في خط النار، فتطوع لحمايتهم، عن طريق استعمال جسده درعاً بشرية يقيهم من الرصاص.
في تلك اللحظة بالذات اخترقت رأس توم رصاصة أطلقها القناص الإسرائيلي تيسير هايب، والذي لم يتوقف عن فعله بالرغم من رؤيته أن من أمامه مدني، يرتدي سترة برتقالية تشير إلى أنه متطوع دولي غير مسلح.
وبسبب هذه الإصابة البليغة، دخل توم هرندل في غيبوبة، ونقل على إثرها إلى أحد مستشفيات لندن لتلقي الرعاية الطبية المتخصصة، إلا أنه لم يكن يستجب للعلاج.
وفي تاريخ 13 يناير/كانون الثاني 2004، أُعلن عن وفاة المصور الصحفي الشاب عن عمر يناهز 22 سنة، تاركًا وراءه العديد من التساؤلات حول استهداف إسرائيل المستمر للمدنيين الذين يعرفون أنفسهم بأنهم متطوعون في مختلف المجالات.
التحقيقات والحكم النهائي
في بداية التحقيق في قضية مقتل توم هرندل كانت إسرائيل تدخل أي جهة خارجية في القضية، التي كانت تعتبرها قضية تخص الشأن الداخلي.
إلا أنه وتحت ضغوط متزايدة من والدي توم ووزير الخارجية البريطاني جاك سترو، أمر القاضي المدعي العام الإسرائيلي مناحيم فينكلستين بإجراء تحقيق من الشرطة العسكرية في مقتل توم.
وقد أدى التحقيق إلى توجيه الاتهام إلى العسكري تيسير هايب، الذي ادعى في البداية أنه أطلق النار على مقربة من مدني أعزل كوسيلة “للحماية”.
ومع سير المحاكمة، تغيرت شهادة القناص هايب، الذي تمت إدانته بتهم مثل القتل غير العمد، وعرقلة سير العدالة، وشهادة الزور، وتهم أخرى.
وقد تم الحكم عليه سنة 2005 بالسجن لمدة 11 سنة ونصف، إلا أنه تم الإفراج عنه بعد 6 سنوات بسبب حسن السيرة والسلوك، واعتباره أنه لم يعد يشكل خطراً على أي أحد.
وبحسب تصريح لشقيقة توم، قالت صوفي إن عائلتها لم يتم إبلاغها بالإفراج عن هايب، مشيرة إلى أنه لم يكن لديهم الوقت للاعتراض، وأنهم غاضبون على هذا القرار الصادم بالنسبة لهم.
سيرة توم بقلم والدته وأعمال فنية أخرى باسمه
بعد وفاة توم هرندل سنة 2004، توجهت والدته إلى قطاع غزة، حيث شاركت في مظاهرات نظمها فلسطينيون ويهود، ضد العدوان الإسرائيلي في حق المدنيين العزل.
كما تم التنديد بوقف جرائم الاحتلال البشعة في مدينة رفح، والتي كانت سبباً في وفاة ابنها الذي ترك وراءه الكثير من الذكريات الموثقة بالقلم والصورة.
وفي تصريح لها في جريدة “الغارديان” قبل وفاته بأيام، قالت جوسلين هرندل: “يبدو أن الحياة رخيصة في الأراضي المحتلة. وتعتمد القيمة المختلفة المرتبطة بالحياة على ما إذا كانت الضحية إسرائيلية أو دولية أو فلسطينية”.
وفي سنة 2007، وبالضبط في ذكرى استهدافه من طرف القناص الإسرائيلي في رفح، نشرت والدة توم كتاب سيرة ذاتية عن ابنها، حمل عنوان “تحدي النجوم: حياة والموت المأساوي لتوم هرندل”، تستعرض فيه قصة حياته، وعلاقته بالتطوع الإنساني، وكيف كان يأمل في تغيير شيء من خلال ما يقوم به.
أما في تاريخ 13 أكتوبر/تشرين الأول 2008، بثت القناة الرابعة البريطانية فيلماً وثائقياً درامياً، من كتابة سايمون بلوك وأخرج روان جوفيعن، عملية إطلاق النار التي استهدفت توم هرندل.
وقد تم ترشيح الفيلم لجائزة تلفزيون الأكاديمية البريطانية سنة 2009، وفاز بجائزة أفضل ممثل، وأفضل إخراج.
كما حصل الفيلم على جائزة “Golden Nymph”، التي تنظمها قناة مونتي كارلو التلفزيونية، خلال نفس السنة، عن فئة أفضل فيلم تلفزيوني.
أما في سنة 2012، فقد تم إصدار كتاب جديد يحمل عنوان “البيت الوحيد المتبقي: مذكرات توم هرندل في الشرق الأوسط”، الذي نشرته دار نشر ترولي بوكس الشهيرة.
وهو مزيج من التقارير الصحفية التي كتبت عن توم، إضافة إلى مقصوصات من مذكراته الخاصة، التي نشرت بعضها في الكتاب الذي نشرته والدته، فيها كان الجزء الأخير مخصصاً للصور التي التقطها بنفسه خلال مساره البسيط في مجال التصوير.