حرية – (15/1/2024)
اتهم في البداية بالتخريب، ولبث في السجن أكثر من 27 سنة بسبب وقوفه في وجه الأبرتايد في بلاده. أصبح رمزاً للسلام العالمي وأشهر رئيس في تاريخ دولة جنوب أفريقيا، وقامت الولايات المتحدة بتخصيص 18 يوليو/تموز يوماً عالمياً له.
بعد تقديم دولة جنوب أفريقيا دعوة ضم الاحتلال الإسرائيلي في محكمة لاهاي، والتي كانت أولى جلساتها في 11 يناير/كانون الثاني الجاري، والتي تتهمها بالقيام بجريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، عادت إلى الواجهة أبرز شخصيات جنوب أفريقيا التي تعتبر رمزاً للسلام العالمي.
نيلسون مانديلا أول رئيس من ذوي البشرة السمراء يحكم جنوب أفريقيا في تسعينيات القرن الماضي، والذي يعتبر الفارق في تاريخ هذه الدولة التي كانت تعاني من نظام الفصل العنصري على مدى عقود من الزمن.
من هو نيلسون مانديلا؟
في 18 يوليو/تموز سنة 1918 ولد نيلسون مانديلا في بلدة “مفيزو” في منطقة ترانسكاي بدولة جنوب أفريقيا، لقبه والده بـ”دوليهلاهلا” وتعني المشاكس باللغة الأفريكانية “اللغة الأصلية لجنوب أفريقيا”.
أما في المدرسة الابتدائية الإرسالية، أُطلق عليه اسم “نيلسون” بسبب عجز أساتذته البيض عن نطق اسمه، توفي والده وهو في التاسعة من عمره، وانتقل للعيش مع حاكم قبيلة “ثامبو” جونجينتابا داليندييبو، الذي كفله نظير مديح والده الذي زكاه رئيساً للقبيلة قبل ذلك بسنوات.
على الرغم من التحديات، كان نيلسون من القلة الأفريقية التي نجحت في الالتحاق بالمدرسة الابتدائية، حيث أكمل دراسته بنجاح في مدارس الإرسالية وحقق تفوقاً ملحوظاً. لكن تم طرده من كلية فورت هاري في عام 1940، إلى جانب رفيقه أوليفر تامبو، بسبب مشاركتهما في احتجاجات طلابية ضد سياسة التمييز العنصري.
في عام 1944 تزوج من ابنة عم والتر سيسولو، إيفلين ماس، الممرضة. كان لديهما طفلان أولهما ماديبا ثيمبكايل، ثم رزق ببنت تدعى ماكازيوي، والتي توفيت في عمر 9 أشهر. فيما انفصل مانديلا عن زوجته سنة 1958.
الدراسة في ظل الفصل العنصري
استمر نيلسون مانديلا في دراسته بشكل غير منتظم، حيث انتقل إلى المراسلة في جوهانسبرغ، ونجح في الحصول على درجة الحقوق، فيما بدأ نيلسون مانديلا مسيرته الأكاديمية بالدراسة للحصول على ليسانس الحقوق في جامعة ويتواترسراند سنة 1943. كان طالباً فقيراً واضطر لترك الجامعة في عام 1952 دون أن يحقق تخرجه. لم يكن لديه الفرصة لاستكمال تعليمه العالي في تلك الفترة الزمنية.
لم يستأنف مانديلا دراسته حتى بعد اعتقاله في عام 1962، حيث بدأ الدراسة مرة أخرى في جامعة لندن. ومع ذلك، لم يتمكن من استكمال تلك الدرجة الأكاديمية أيضاً.
و في عام 1989، وخلال الأشهر الأخيرة من فترة سجنه، نجح مانديلا في الحصول على درجة ليسانس الحقوق من جامعة جنوب أفريقيا، وذلك على الرغم من غيابه الشخصي. تم تنظيم حفل تخرج له في كيب تاون احتفالاً بتحقيق هذا الإنجاز الأكاديمي البارز.
مانديلا.. البداية السياسية وتحدي العمل
في عقده الثاني، خاض نيلسون مانديلا رحلة استثنائية في عالم السياسة، حيث انضم إلى صفوف حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في عام 1942، في مواجهة سياسة التمييز العنصري. بدأ نضاله النشط داخل الحزب، سعياً لتحويله إلى حركة جماهيرية شاملة تضم مختلف الفئات الأفريقية. كما كان من بين المؤسسين لـ”اتحاد الشبيبة” التابع للحزب.
شهدت رحلته تنقلات داخل البلاد خلال “حملة التحدي”، حيث دعا إلى مقاومة قوانين التمييز العنصري. تمت محاكمته وحُكِم عليه بالسجن، لكن مع وقف التنفيذ، وتم منعه من مغادرة جوهانسبرغ لستة أشهر. استغل هذا الوقت لوضع خطة تحول فروع الحزب إلى خلايا للمقاومة السرية.
في عام 1949، اعتمد حزب المؤتمر الوطني الأفريقي سياسة جماهيرية أكثر راديكالية من خلال إطلاق برنامج العمل. وكان نيلسون مانديلا أحد رواد هذا الحزب الذي انضم إليه بشغف بالتغيير. في عام 1952، تم انتخابه رئيساً متطوعاً وطنياً لحملة التحدي، حيث كان يتشارك الرئاسة مع مولفي كاتشاليا الذي شغل منصب نائب الرئيس.
كانت حملة التحدي عبارة عن مسعى مشترك بين حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ومؤتمر جنوب أفريقيا الهندي، حيث شكلوا جبهة موحدة ضد 6 قوانين غير عادلة. اعتبرت هذه الحملة تحدياً للظلم العنصري، حيث تضافرت القوى لمواجهة التمييز والتصدي للقوانين التي فرضت تفوقاً على الأقليات. كانت هذه الفترة من النضال جزءاً من الجهود الواسعة التي قادها مانديلا وزملاؤه للتصدي للظلم وتحقيق المساواة في جنوب أفريقيا.
لم يقتصر نشاط مانديلا على الميدان السياسي فقط، بل امتد إلى الميدان القانوني، حيث أسس مكتباً للمحاماة في عام 1952 مع رفيقه أوليفر تامبو. كان هذا المكتب الأول من نوعه الذي أُنشئ لخدمة السكان ذوي البشرة السوداء في جنوب أفريقيا، حيث كانوا يواجهون صعوبات في الوصول إلى الوظائف الإدارية بسبب التمييز العنصري.
تهمة الخيانة والاعتقال
في 5 ديسمبر/كانون الأول سنة 1956، تم اعتقال نيلسون مانديلا في إطار حملة أمنية واسعة نفذتها الشرطة على مستوى البلاد، وذلك بتهمة الخيانة. كانت هذه الحملة جزءاً من الجهود الحكومية لقمع الأنشطة التي تعارض سياسة التمييز العنصري. في عام 1956، خضع مانديلا وآخرون من مختلف الأعراق لمحاكمة بتهمة الخيانة.
وفي أعقاب مأساة “شاريفيل” في عام 1960، أطلقت قوات الشرطة النار على المتظاهرين، أدت إلى سقوط مئات القتلى والجرحى، قامت السلطات بحظر جميع الأنشطة التابعة لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي واعتقلت مانديلا.
و في 21 مارس/آذار 1960، ارتكبت الشرطة مذبحة في شاربفيل، حيث قتلت 69 شخصاً أعزل خلال احتجاج ضد قوانين المرور العنصرية. هذه الأحداث أدت إلى فرض حالة الطوارئ وحظر حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ومؤتمر عموم أفريقيا (PAC) في 8 أبريل/نيسان سنة 1960. تم اعتقال مانديلا ورفاقه في هذه الفترة الصعبة.
تم اتهام مانديلا وعدد من المواطنين الآخرين من مختلف الأعراق في محكمة ماراثونية، حيث انتهت المحكمة في 29 مارس/آذار سنة 1961 بتبرئة 28 متهماً، بما في ذلك مانديلا. كانت هذه المحاكمة جزءاً من فترة تشهد على نضال شديد ضد الفصل العنصري والقمع الحكومي.
قبل انتهاء محاكمة الخيانة، سافر مانديلا إلى بيترماريتزبرغ للتحدث في مؤتمر All-in Africa، حيث طالب بعقد مؤتمر وطني حول دستور غير عنصري. في 1961، أُدين مانديلا بتهمة مغادرة البلاد دون تصريح وتحريض العمال على الإضراب، وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات.
قبل أيام من انتهاء محكوميته، غادر مانديلا جنوب أفريقيا سراً في 11 يناير/كانون الأول 1962. بينما كان في المنفى، تلقى تدريباً عسكرياً في كل من إثيوبيا والمغرب، ثم سافر بعدها في جميع أنحاء أفريقيا وإلى إنجلترا لجمع الدعم للكفاح المسلح.
تم القبض على مانديلا بعد عودته إلى جنوب أفريقيا في 5 أغسطس/آب 1962، وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات. في عام 1963، انضم مانديلا إلى 10 آخرين للمحاكمة بتهمة التخريب فيما تعرف باسم محاكمة ريفونيا. وبينما كان يواجه عقوبة الإعدام، أصبحت كلماته أمام المحكمة في نهاية “خطابه من قفص الاتهام” الشهير في 20 أبريل/آب 1964 خالدة:
“لقد حاربت ضد هيمنة البيض، وحاربت ضد هيمنة السود. أعتز بمثل المجتمع الديمقراطي الحر الذي يعيش فيه جميع الأشخاص معاً في وئام وبفرص متساوية. إنه المثل الأعلى الذي أتمنى أن أعيش من أجله وأحققه. ولكن إذا لزم الأمر، فهذا هو المثل الأعلى الذي أنا على استعداد للموت من أجله”.
استمرت رحلة مانديلا في السجن حتى أُطلِق سراحه في عام 1990، ما فتح الباب أمام مساره نحو قيادة جديدة لجنوب أفريقيا.
إطلاق السراح والإصابة بالسل
في 12 أغسطس/آب سنة 1988، نقل نيلسون مانديلا إلى المستشفى بسبب تشخيص إصابته بمرض السل. بعد أكثر من 3 أشهر في مستشفيين، نقل مانديلا إلى منزل في سجن فيكتور فيرستر بالقرب من بارل، حيث أمضى آخر 14 شهراً من فترة سجنه. في 7 ديسمبر/كانون الأول سنة 1988، تم نقله من المنزل.
أثناء فترة وجوده في السجن، أظهرت فحوصاته الطبية إصابته بمرض السل، الذي أثر بشكل كبير على صحته.
بعد 9 أيام فقط من دخوله المستشفى تم رفع الحظر عن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وبعد 4 أشهر من إطلاق سراح زملائه المتبقين في ريفونيا، أطلق سراح مانديلا في 11 فبراير/شباط سنة 1990.
الجذير بالذكر أنه خلال فترة سجنه، رفض مانديلا مراراً عروض الإفراج المشروط. لكن بعد إطلاق سراحه، انخرط مانديلا بشكل فعال في المحادثات الرسمية لإنهاء حكم الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا.
وفي عام 1991، انتخب رئيساً لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وذلك ليحل محل صديقه المريض أوليفر تامبو. أما في عام 1993، فاز بجائزة نوبل للسلام برفقة الرئيس إف دبليو دي كليرك، وفي 27 أبريل/نيسان 1994، شارك في التصويت لأول مرة في حياته خلال الانتخابات الديمقراطية في جنوب أفريقيا.
نيلسون مانديلا ورئاسة جنوب أفريقيا
في 10 مايو/أيار سنة 1994، تم تنصيب نيلسون مانديلا كأول رئيس منتخب ديمقراطياً في جنوب أفريقيا، بعد فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي جرت في ذلك العام. وفي عيد ميلاده الثمانين في عام 1998، تزوج مانديلا للمرة الثالثة من غراسا ماشيل.
ووفاءً لوعده بالديمقراطية والتحول، انسحب مانديلا عن منصبه كرئيس في عام 1999 بعد فترة ولاية واحدة. على الرغم من نهاية فترة رئاسته، استمر في العمل من خلال صندوق نيلسون مانديلا للأطفال الذي أسسه في عام 1995. كما أسس مؤسسة نيلسون مانديلا ومؤسسة مانديلا رودس، ما يظهر التزامه المستمر بقضايا العدالة والتعليم.
أما في أبريل/نيسان سنة 2007، شهدنا تنصيب حفيده ماندلا مانديلا كرئيس للمجلس التقليدي لمفيزو، وهو حدث يعكس التأثير العائلي الذي يمتد من جيل إلى جيل.
لم يتردد نيلسون مانديلا في تجسيد التزامه بالديمقراطية والمساواة والتعليم. ورغم التحديات الكبيرة التي واجهها، فإنه لم يرد بالعنف أو العداء. حياته تظل مصدر إلهام للمظلومين والمحرومين، ولكل من يقف ضد الظلم والحرمان.
الجوائز العالمية والوفاة
حاز نيلسون مانديلا على العديد من الجوائز العالمية والأوسمة والشهادات التكريمية، بما في ذلك جائزة نوبل للسلام في عام 1993، حيث شاركها مع فريدريك ويليام ديكليرك، زعيم نظام التمييز العنصري السابق في جنوب أفريقيا. كما تم اختياره من قبل الأمم المتحدة كسفير للنوايا الحسنة في عام 2005.
وفي 5 ديسمبر/كانون الأول سنة 2013 توفي نيلسون مانديلا عن عمر يناهز 95 عاماً، بعد صراع طويل مع المرض في بلده جنوب أفريقيا، فيما حضر جنازته عدد كبير من قادة العالم، وأعلنت دول كثيرة الحداد حزناً على وفاته.
ما هو نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا
بعد انتهاء الاستعمار البريطاني، بدأت الفترة السوداء في تاريخ دولة جنوب أفريقيا في عام 1948 عندما فرضت الحكومة البيضاء نظام الأبارتهايد. كانت أهداف هذا النظام تركز على الحفاظ على سيطرة الأقلية البيضاء ذات الأصول الأوروبية على السياسة والاقتصاد بشكل متفوق، وذلك عبر تمثيل الأقلية بشكل كبير في هذين الجانبين.
فرضت قوانين الأبارتهايد تقسيماً عنصرياً صارماً، حيث تم فصل السكان إلى فئات عرقية، ما أثر سلباً على السود والملونين والآسيويين. تم فرض قيود على حركتهم وحقوقهم، وكانت الأوضاع الخاصة بالسود أسوأ بكثير.
شهدت ستينيات القرن الماضي تصاعد الاحتجاجات الدولية ضد هذا النظام، ما أدى إلى مقاطعة جنوب أفريقيا دولياً. وفي النهاية، انهار هذا النظام عام 1994 بفضل المعارضة الداخلية المستمرة والضغوط الدولية المتزايدة.
في نهاية الفترة السوداء، تم تسليم الحكم بطريقة سلمية، حيث أصبح نيلسون مانديلا رمزاً للتغيير ورئيساً لجنوب أفريقيا. أسس لجنة “الحقيقة والمصالحة” للتحقيق في جرائم الأبارتهايد وتحقيق العفو. ارتكب الأبارتهايد جرائم ضد الإنسانية، وأظهر تأثيره العميق على تاريخ دولة جنوب أفريقيا. لذلك، يتطلب التعامل مع هذا الفصل المظلم في التاريخ فهماً دقيقاً وتحليلاً متأنياً.