حرية – (20/1/2024)
يظل مفهوم الجنس من التابوهات الأكثر إشكالية وتعقيداً لدى البشر، ففي حين يرى فيه الروحانيون بوابة للتجليات وتحويل الطاقة وتوظيفها في إعادة الخلق، يجده الماديون مجرد غريزة نقلناها معنا من المملكة الحيوانية، وبقينا نشترك فيها مع الحيوانات، ويجادل البعض الآخر بأن هذا النوع من المفاهيم الحسية يعود تشكيله بالأساس للتجربة الشخصية التي تترك انطباعاً مختلفاً لدى كل شخص، لكن في ظل تشتت المصادر وغياب الفردانية والتفرد، نجد الناس تتناقل معتقدات واحدة لمفهوم ذي وجوه لا محدودة.
ثقافة “جيل زد” الجنسية
والأكيد أن الثقافة الجنسية تغيرت عبر العقود من حيث الإدراك والمفاهيم وطرق وأساليب نشرها وتداولها، وصولاً إلى عصرنا الحالي، حيث تطغى وسائل الإعلام الجديد على الساحة الثقافية بصورة عامة، وتفرض إيقاعها بحسب قوة التسويق مستفيدة من صناعة “التريند”، إذ لم يعد يقتصر الإعلام بالنسبة إلى الجيل الراهن “جيل زد” (والمقصود به الذين ولدوا بين عامي 1997 و2012) على التلفاز، بل على العكس من ذلك هو بعيد تماماً منه، وقريب من الإعلام الرقمي الذي يضخ مفاهيمه من خلال شبكة الإنترنت إلى الأجهزة الذكية.
إذاً، نحن هنا أمام كم كبير من المعلومات التي تبث عبر وسائل تواصل عدة لم تكن متاحة للأجيال السابقة من خلال الصوت والصورة ومقاطع الفيديو، وحتى بالنصوص، وبعيداً من أي رقابة أو مساءلة أو تدقيق لمدى صحة أو حقيقة ما ينشر ويبث، فالحقيقة أن المشكلة ليست في وجود هذا الكم من المحتوى، إنما في عدم خضوعه لأي رقابة علمية تحدد الحقائق من المغالطات.
إضافة إلى إسهام مستخدمي “السوشيال ميديا” اليوم في نشرها عبر خاصية المشاركة أو النسخ واللصق وتداولها والتعامل معها على أنها حقائق مطلقة، من دون التأكد من مدى صحتها، ومع تكرار ظهورها أمامهم وترديدها من حولهم تتحول إلى حقائق ومعتقدات راسخة، وهذا يشمل جميع جوانب الحياة وجزئياتها. لذا من الطبيعي أن يكون الجيل الذي يستقي مفاهيمه طوال الوقت من مصادر متعددة مما حوله، الأكثر تخبطاً على الإطلاق، إذ يشكل مفاهيمه وثقافته الجنسية من مصادر عدة متنوعة، وربما متناقضة في كثير من الأحيان.
مصادر تشكيل الإدراك
لا نستطيع القول اليوم إن المواضيع الجنسية ما زالت تحظى بذات الدرجة المبالغ بها من التعتيم عند تناولها في المجتمعات الصغيرة وداخل أسر العالم العربي، لكن الأكيد أنها ما زالت ضمن التابوهات، وما زال الحديث عنها يحيط صاحبها، حتى وإن كان متخصصاً، بشبهة خفية غير مفهوم سببها بصورة واعية، لكن الأكيد أن لها أساساً عميقاً في اللاوعي.
الحقيقة أن موضوع الجنس من الملفات شديدة الإحكام داخل العقل العربي، إضافة إلى ما تحمله من تشويهات وتأويلات وأحكام، إذ إن هناك عوامل عدة ثقافية واجتماعية، تؤثر في وجهات النظر حول النوع الاجتماعي والجنس، منها القوانين والدين والأعراف الاجتماعية، وإذا توقفنا عند الأخيرة سنجد أن سوء حال المرأة في بعض المجتمعات تحكمه بصورة أساسية هذه الأعراف وطريقة تطبيقها، لذا فالمكاشفة الحقيقية ووضع النقاط على الحروف لدى الجيل الراهن بإمكانها أن تسهم بصورة أساسية في تمكين المرأة، كأم بالدرجة الأولى، من ثم نمو الأسر والمجتمعات على الطريق الصحيح. والحقيقة أن الثقافة الجنسية تتطلب مصدراً موثوقاً محملاً بمفاهيم علمية قائمة على دراسات وتجارب مع قدر كبير من الوعي والانفتاح والفهم الحقيقي لمدى تأثير هذا الملف في كامل حياة الفرد، فما يحمله الإعلام بصورة عامة، وتسوق له الصناعات الإباحية يختلف عما يحاول الأهل تنشئة الشباب عليه، والذي يختلف بدوره بصورة كبيرة عن الحقيقة العلمية.
معظم أهالي “جيل z” هم من “جيل x”، (وهم من أوائل الستينيات إلى أوائل الثمانينيات)، والذين من الممكن أن يكونوا تعرضوا إلى محتوى ثقافي جنسي خجول ويسوده كم كبير من المغالطات، لذا فالممارسات الاجتماعية وما يروى للجيل الحالي وما تعرضه عليهم وسائل التواصل من طريق التلميح والمباشرة، هو الذي يبني ثقافتهم وأسس هويتهم محاولين استيعاب الكم الكبير من المفاهيم المتعارضة المقدمة في صورة نصوص وعروض صورية ومتحركة تلاحقهم في كل مكان وتطل عليهم في أي وقت من شاشات هواتفهم المحمولة.
فكيف الحال إذا ما قصدوا الحصول على معلومات؟ وماذا يمكن أن يجدوا في عصر أصبحت فيه الإباحية صناعة تصمم رقمياً تبعاً لغايات السوق وحجم المتابعات التي تحظى بها، وتقدم من وراء الشاشات بقصد التجارة والأرباح؟
وبغض النظر عما يتشربه الجيل من مفاهيم مغلوطة عن العلاقات، يستقي الشباب الجزء الأكبر من مفاهيمهم من منصات تسلع البشر ويدرس محتواها بدقة لجذب انتباههم من خلال فهم سيكولوجيا البشر من جهة وتسديد متطلبات معاصري المرحلة الحالية من جهة أخرى.
شكل العلاقات
المفاهيم الجنسية تبنى أيضاً من خلال صورة العلاقات التي تطرح في الإعلام اليوم، إذ غالباً ما تطرح العروض التلفزيونية صورة أوحد للعلاقات بين الرجل والمرأة، بحصرها في إطار العلاقات الرومانسية، ويدعم تكثيف هذا النوع من السيناريوهات تفاعل الجمهور معه، فاليوم يبنى مسار كامل في مسلسل تلفزيوني على فكرة اللقاء بين البطل والبطلة. ونرى الجمهور ينتظر بترقب اللحظة التي سيتوقف فيها أحد الطرفين عن المكابرة ليسمح لهذه العلاقة بأن تبدأ، ولنتخيل هنا حجم الفراغ الذي نعانيه عندما نعيش أيامنا مترقبين حدثاً من هذا النوع، فما بالك إذا كان لا يتعدى كونه قصة تمثيلية، لا صلة لها بالواقع أصلاً.
وفي حال أردنا الخروج من تأطير شكل العلاقة إلى طريقة تقديمها، سنرى المشاهد الرومانسية تطغى على المشهد البصري، فقد وجد استطلاع لآراء 1500 مراهق قامت به “يو سي أل أي” (جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس)، أن نسبة كبيرة من المراهقين الذين تراوحت أعمارهم ما بين 13 و24 سنة يريدون رؤية مزيد من العروض والأفلام والمحتوى الذي يتمحور حول الصداقات والعلاقات الأفلاطونية (صداقة عميقة من دون وجود رغبة جنسية)، بدلاً من تلك الرومانسية (علاقة جسدية حميمية).
وقالت الغالبية إن الجنس لم يكن ضرورياً في معظم الأفلام والبرامج التلفزيونية، بينما أعربت نسبة أخرى عن أن الرومانسية مبالغ فيها في وسائل الإعلام.
وفي حين تكثف الأعمال التلفزيونية والسينمائية على المشاهد الحميمية، يرى الغالبية من “جيل زد” أن موضوع الرومانسية مبالغ بها في وسائل الإعلام، كما أعرب المراهقون أيضاً عن عدم رضاهم عن عديد من الاستعارات أو المجازات، مثل توقع وقوع الأصدقاء الذكور والإناث في الحب، إذ يجب ألا تكون العلاقة بين كل فتى وفتاة رومانسية في مرحلة ما، ويمكن للناس أن يكونوا مجرد أصدقاء في بعض الأحيان، لذا من المهم لصناع المحتوى أن يدركوا أن المراهقين يريدون قصصاً تعكس الطيف الكامل للعلاقات، بدلاً من استخدام العلاقات الرومانسية كطريق مختصر للتوصل بين الشخصيات.
أما في العالم العربي فليس لدينا دراسات إحصائية لمعرفة رأي “جيل زد” العربي بالعلاقات وصورة طرحها عبر الإعلام، لكن من خلال المتابعات على أرض الواقع، نجد أن هذا الجيل، على رغم مما يشاع عن انفتاحه، حذر للغاية وشديد القلق في شأن العلاقات الرومانسية، ويحاولون على الدوام إعادة تقييم صورة العلاقة الرومانسية ويعربون من خلال نقاشاتهم عن عدم تقبلهم للصورة التي تروج من خلالها العلاقات، فهم ميالون أكثر للصدقات العميقة والداعمة والمحادثات الفكرية والاتصال العاطفي أكثر من الجسدي.