حرية – (22/1/2024)
في أكوان التاريخ المبهم، تتلألأ المدن الأسطورية المفقودة كنجوم يراقصها الفضول والتساؤل.. تلك المدن الّتي أذهلت العلماء وشغفت الباحثين، من أتلانتس القديمة بتطورها الهائل إلى مدينة طروادة التي شهدت حروب التاريخ في أرض تركيا، وصولاً إلى ممفيس الفرعونية المفقودة، عاصمة مصر القديمة في عام 3100 قبل الميلاد.
وفي ساحة هذا الاستكشاف الفريد، تبرز مدينة النحاس في المغرب كلغز يحمل بين طياته قصة خيالية خاصة. يُقال إن الجن كانوا وراء بناء هذه المدينة، وإنهم سُخِّروا لسيدنا سليمان لخدمته. إنها قصة لا تخلو من السحر والغموض، حيث يندمج التاريخ بالأساطير في حضرة مدينة النحاس المفقودة.
في عالم من الجن والإنس والسحر، سيدنا سليمان يظل النبي الوحيد الذي استفاد من تسخير الله لخدمته. فالرياح والطيور، وحتى النمل والجن، كلها كانت تنفذ أوامره. ومن بين العظائم الذين سُخِّروا له كانوا مردة الشياطين الذين يستكشفون أعماق المحيطات لاستخراج كنوز اللآلئ والجواهر.
فما هي قصة مدينة النحاس بالمغرب؟ وما علاقتها بسيدنا سليمان؟ وما الروايات التاريخية التي تناولت في طياتها هذه المدينة المفقودة؟
مدينة النحاس.. بناية الجن لسيدنا سليمان
تلك القصة المذهلة تكشف لنا عن مدينة النحاس، التي تم بناؤها بالكامل من النحاس، كما يروى. حسب كتاب السرد القديم فإن هذه المدينة الغامضة قد شُيدت بأمر من سيدنا سليمان، حيث جاء الجن ليقوموا بتحقيق هذا العمل الرائع في موقع قريب من بحر الظلمات.
لكن المفاجأة تكمن في أن هذه المدينة هي نفسها مدينة فيافي الأندلس في المغرب، والتي تعرف اليوم بمدينة تطوان. يتميز هذا البلد بلقب “مدينة الصفر”؛ نظراً للون الأصفر الساطع للنحاس الذي بنيت منه. تمزج تطوان بشكل فريد بين الثقافات العربية والأندلسية والفرنسية، وتقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، بين مرتفعات جبل درسة وسلسلة جبال الريف.
بدأت رحلة البحث عن هذه المدينة الأسطورية عندما وصلت أخبارها إلى عبد الملك بن مروان، الخليفة الخامس لبني أمية. وكان عبد الملك بن مروان وقتها حاكم المغرب، حيث بدأ في استكشاف هذه القصة الرائعة وأرسل وكيله في المغرب، موسى بن نصير، للتحقق من حقيقة هذه المدينة الأسطورية.
مع وصول رسالة عبد الملك بن مروان، خرج موسى بن نصير إلى رحلة استكشافية مليئة بالغموض والمغامرات. مع فريقه الذي يحمل مؤونة تكفي لشهور، سلكوا طريقاً قاحلاً وعراً لم يعتد البشر على سلوكه. ومع ذلك، استطاعوا الوصول إلى بقعة شاسعة تتخللها العيون والأشجار والنخيل، وفيها حيوانات وطيور غريبة.
على إثر هذا الحادث، أدرك موسى بن نصير أن القوة والكيان الذي قام بهذا الفعل هو الجن. وعندما قرر التراجع والرحيل، اكتشفوا لوحاتٍ من الرخام الأبيض تحمل نقوشاً وكتاباتٍ تشير إلى أسماء الأنبياء والفراعنة والملوك، إلى جانب بعض الوصايا. وفي لوحة من النحاس، وجدوا صورة لرجل يحمل لوحاً من النحاس، وعليه مكتوب: “ليس ورائي مذهب، فارجعوا ولا تدخلوا هذه الأرض فتهلكوا”.
لكن الأمير موسى لم يقتنع بهذا التحذير، وأمر رجاله بالتقدم، ليصادفوا مفاجأةً لا يمكن تصورها. ظهر نمل ضخم خرج من بين الأشجار، مزقهم وخيولهم إلى أشلاء. وعندما اقترب هذا النمل الأسطوري، حدث شيء غير متوقع، حيث توقف فجأة أمام الصورة النحاسية وعادوا إلى وضعهم السابق. كانت الصورة النحاسية تحمل قوة غامضة لا يمكن تفسيرها.
مساجين من الجن والبحيرة الغريبة
واصل الأمير موسى ورجاله رحلتهم بعيداً عن سور مدينة النحاس حتى وصلوا إلى أرض جديدة لم يروا مثلها من قبل. كانت تلك الأرض تزخر ببحيرة كبيرة وأشجار مثمرة وخضرة فائقة وأزهار ملونة تزين المنظر. جذبت البحيرة انتباه الأمير، الذي قرر استكشاف ما يحتويه قاعها.
أمر الغواصين بالنزول في البحيرة لرؤية ما يكمن في قاعها، ولم يكونوا يتوقعون ما سيجدونه. اكتشفوا نوعاً من الفخار النحاسي الذي كان مغلقاً بأغطية من مادة الرصاص، وكان على هذه الأواني ختم. قرروا فتح أحد الأواني، ولكن الناتج كان أكثر من مجرد مفاجأة.
فقد خرج من الآنية جني، يحمل رمحاً نارياً، وطار في الهواء ينادي: “يا نبي الله لا أعود”. كانت هذه المشاهد غير المألوفة تثير دهشة وتعجب الحاضرين. وعندما قاموا بفتح أوانٍ أخرى، اكتشفوا نفس المشهد.
لكن الأمير موسى عاقل وحكيم، وعلى الفور قرر عدم فتح المزيد من هذه الأواني. أدرك أنها قد تكون محل سجن للجن من قبل سيدنا سليمان عليه السلام بسبب تمردهم. بناءً على هذا الإدراك، قاموا بإعادة جميع الأواني النحاسية إلى البحيرة.
وفجأة، ظهر شخص عملاق يشبه البشر في الهيئة يخرج من وسط البحيرة. سألوه عن هويته، وأجابهم بأنه من الجن الذين سجنهم سليمان في تلك البحيرة. خرج بسبب أصواتهم، واعتقد أنهم هم صاحبو الكلام.
وعندما سألوه عن هوية صاحب الكلام، أخبرهم بأنه رجل يمر بالبحيرة سنوياً، يذكر الله ويسبح ويقدس ويكبر ويستغفر، ثم ينصرف. لكنه لا يعرف اسمه أو هوية صاحب الكلام. وأخيراً، اختفى عندهم في لمح البصر.
الروايات القديمة والمدينة المفقودة
عبر العصور، انتقلت قصص مدينة النحاس الأسطورية من جيل إلى جيل، وتشكلت تفاصيلها بتأثير الزمن وتفاعل الناس معها. تنوعت الروايات وتغيرت مع مرور السنين، حيث زادت بعض التفاصيل وانقصت أخرى، ما أضفى عليها جواً غامضاً ومثيراً.
وفي هذا السياق، هناك رواية تشير إلى وجود 25 بوابة في سور المدينة، وفارس واحد تمكن من التغلب على تأثير المدينة ولم يسقط داخلها. تمكن هذا الفارس من فتح الباب ليدخل موسى بن نصير ورجاله، ليجدوا داخلها كنوزاً ومجوهرات وذهباً.
بالنسبة لتاريخ بناء المدينة، هناك اختلاف في الروايات. فبينما تقول إحدى الروايات إن الجن هم من بنوا المدينة بأمر من سيدنا سليمان عليه السلام، تدعي رواية أخرى أن ذي القرنين هو من بناها ليكنز فيها ثرواته ويضع عليها سحراً وطلاسم لمنع الدخول إليها.
وفيما يتعلق بالإيمان بوجود مدينة النحاس، ينقسم الناس إلى فئتين: هناك من يؤمن بوجودها فعلياً، وهناك من يعتبرها مجرد قصة خيالية بدون أساس واقعي. ومن بين النقاد الذين شككوا في صحة هذه القصة، ذكر ابن خلدون والياقوت الحموي، حيث أعربوا عن رأيهم في عدم وجود أساس عقلي ومنطقي لقصة مدينة النحاس، واعتبروها تخالف مبادئ القوانين الطبيعية.
تظل مدينة النحاس قضية مثيرة ومحط اهتمام، مع تنوع الروايات والتساؤلات التي تثيرها حول وجودها وتاريخها الحقيقي.