حرية – (23/1/2024)
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يؤثر على العملية الدبلوماسية من المرحلة الأولى إلى المرحلة الأخيرة، والتي تشمل الاتفاق ومراقبة عملية التنفيذ.
مضى أكثر من عام على قيام “Open AI” بإتاحة الذكاء الاصطناعي القائم على النصوص للمستخدمين بعد أن كشفت عن أداة “Chat GPT”، لتنطلق على أثرها الشركات الأخرى وتزيح الستار عن تصاميم جديدة ونسخ أكثر تطورا للذكاء الاصطناعي.
لاشك أن ما يقدمه الذكاء الاصطناعي للبشرية لم يكن له مثيل، لكن في بعض الأحيان كان يهيمن الجانب المظلم على ميزات هذه الأداة التكنولوجية. ومع مرور الوقت، ستجعل هذه الظاهرة مهامنا البشرية أسرع وأكثر دقة وأقل تكلفة. ولذلك سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن هذه الأداة لن يكون لها حضور في القضايا الدبلوماسية في المستقبل. وهنا يطرح السؤال الجوهري، ما هو تأثير الذكاء الاصطناعي على الدبلوماسية؟
الدبلوماسية فن يتطلب وجود نوع من الإستراتيجية والإقناع وحتى الخداع. ما سبق هي قدرات ومهارات لم يتمكن سوى البشر من التعامل معها حتى سنوات قليلة مضت، بل وحتى أمهر وأفضل أجهزة الكمبيوتر لم يكن لتمتلك هذه القدرات كما يمتلكها ويتقنها البشر. لكن مع ظهور الذكاء الاصطناعي تغيرت القصة قليلا، بحيث باتت الحدود هذه الأيام تتلاشى بين القدرات البشرية والرقمية.
يمكن للتكنولوجيا اليوم أن تحدث تغييرات جوهرية في توازن القوى بين الدول وطريقة تفاعلها، وبالتالي، طريقة تنفيذ الدبلوماسية. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يؤثر على العملية الدبلوماسية من المرحلة الأولى إلى المرحلة الأخيرة، والتي تشمل الاتفاق ومراقبة عملية التنفيذ. ولكن كيف؟
تجربة سيناريوهات مختلفة
يعلم كل مفاوض أن أحد الأجزاء الأساسية والمستهلكة للوقت في المفاوضات هو النظر في سيناريوهات مختلفة في الاتفاقية. الهدف الوحيد للتفاوض ليس التوصل إلى اتفاق، بل دراسة الاتفاقيات المحتملة، فيما تعد قيمتها هدفا آخر للتفاوض. هذا الأمر يستغرق الكثير من الوقت ويتطلب أشواطا من الجهد والعمل، ناهيك عن تكدسه بالأخطاء البشرية. وهنا يأتي الذكاء الاصطناعي ليساعد في العثور على هذه السيناريوهات والتحقق منها.
استخدم المفاوضون في السابق تقنية Cognitive Trade Advisor لشركة IBM، للعثور بسرعة على إجابات لبعض التحديات أثناء إبرام المفاوضات. قد يستغرق هذا الأمر أياما أو أسابيع أحيانا بدون الذكاء الاصطناعي. ويمكن لأنظمة مماثلة أن تساعد الدبلوماسيين على اكتشاف الفرص الجديدة، وإلقاء نظرة على ما فاتهم، وفهم المخاطر التي لم يكونوا على علم بها.
تحليل الرأي العام
يحظى الرأي العام في الاتفاقيات والمفاوضات بمكانة مرموقة في الدبلوماسية. فالاتفاق الذي لا يلقى إعجاب الرأي العام قد يفشل لا محال. لكن تحليل الرأي العام والتنبؤ برد فعله المحتمل مهمة معقدة للغاية. وهنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي.
يُصمم الذكاء الاصطناعي بطريقة يمكن من خلالها التنبؤ بسلوك الأفراد عبر الاستفادة من المصادر الهائلة للمعلومات المتوفرة في وسائل الإعلام والصحف وشبكات التواصل الاجتماعي التابعة لبلد ما. وكلما كانت هذه المعلومات متاحة للدبلوماسيين بشكل أسرع، كلما أدت إلى اتخاذ قرارات صحيحة في الوقت المناسب.
تحليل لغة الجسد
لا يقتصر الذكاء الاصطناعي على القراءة والكتابة فحسب، بل فاق التوقعات وأصبح بإمكانه الرؤية أيضا. فالآن، وبفضل التكنولوجيا، يمكن لأجهزة الكمبيوتر استقبال الصور ومعالجتها باستخدام الكاميرات، الأمر الذي أدى تباعا لتطوير مفهوم “الرؤية الحاسوبية” والتي تمكن الذكاء الاصطناعي من الاستفادة منها لتلبية تقنيات الرؤية.
ويتيح لنا وصول الذكاء الاصطناعي إلى هذه المعلومات أثناء المفاوضات تحديد ما يجب فعله وما لا يجب. وتساعد هذه الأداة الدبلوماسي على تعديل كلماته وإيماءاته بناءً على هذه المعلومات.
تسريع الأمور الإدارية
ربما تكون سرعة أداء المهام إحدى أفضل ميزات الذكاء الاصطناعي وأكثرها جاذبية. إذ يمكن للذكاء الاصطناعي، في حال تم تصميمه بشكل صحيح، أن يتولى بعض المهام الإدارية ويقوم بها بسرعة مذهلة. بالإضافة إلى ذلك، كلما كانت المهام الروتينية أقل لدى الموظفين، زاد الوقت المتاح لهم للتركيز على المهام الأكثر أهمية، أي المسائل المهمة حقًا في المجال الدبلوماسي.
وتستخدم السفارات الأمريكية بالفعل الذكاء الاصطناعي في جزء من عملها. على سبيل المثال، تستخدم سفارة الولايات المتحدة في غينيا “Chat GPT” للحصول على ملخص لمحتوى وسائل التواصل الاجتماعي في هذه الدولة.
الاستنتاج
يعد الذكاء الاصطناعي بثورة مذهلة في جميع جوانب الحياة البشرية. ومن السذاجة الاعتقاد بأن العلاقات بين الدول والدبلوماسية هي استثناء لهذه القاعدة. كما أن إهمال مزامنة هذا الأمر سيؤدي بلا شك إلى التخلف في شتى المجالات المهمة للحكم والمكانة العالمية للدول. لكن الذكاء الاصطناعي بقوته قد يصبح قدرة تقوم كل دولة أو مجموعة بتطويرها لنفسها حصريا، لذا يجب أن يتم البدء بالاستثمار في هذا المجال بشكل جدي من الآن فصاعدا.
ومن الضروري أيضًا أن يدرك المجتمع المدني أن استخدام الذكاء الاصطناعي يتطلب مسؤولية كبيرة، فقد جاءت هذه الأداة لتغير الطرق التي تدار وتنفذ بها الأمور، ومع المزيد من المسؤولية والإدارة الحكيمة سيكون للذكاء الاصطناعي دور أكثر فعالية.