حرية – (24/1/2024)
وضع مقتل 24 جندياً إسرائيلياً في غزة بعد تفجير مبنيين ومدرعة بثلاث قذائف “آر بي جي” أطلقها مسلحو “حماس” متخذي القرار أمام مفترق طرق حول المسار الذي يتوجب اتباعه في قراراتهم في الحرب، ما بين الاستمرار فيها أو التوجه نحو خطة سياسية قبل غرق إسرائيل في وحل غزة.
وأمام صرخات متظاهري بلدات الشمال الداعية إلى استقالة الـ “كابينت” الحربي وتحميله مسؤولية مقتل هؤلاء الجنود في عملية واحدة وخلال دقائق، أثير النقاش حول تخطيط العملية لكن الصوت الأعلى كان للأمنيين والعسكريين والمحللين الذين وجد معظمهم أن أي وقف للحرب هو تحقيق لهدف “حماس” وقائدها يحيى السنوار، مما يجعل الثمن الذي ستدفعه إسرائيل أضعاف ما يمكن دفعه إذا استمرت في القتال.
الثمن الباهظ
وحتى ساعة متأخرة من ليل الثلاثاء لم يخرج الجيش باستخلاص أولي لما أدى إلى مقتل هذا العدد الكبير في عملية واحدة، لكن جهات أمنية قالت إن التخطيط لتجميع عدد كبير من الجنود داخل مبان ووضع كميات هائلة جداً من المتفجرات من دون الأخذ بالحسبان أن تكون “حماس” قد وضعت كميناً للجنود، أو أنها تراقبهم ومن ثم تستهدفهم داخل المبنى، هو تخطيط جعل ثمن العملية باهظاً.
وأمام ما سماها الإسرائيليون “كارثة حرب غزة”، حاول متخذو القرار تهدئة الأوضاع بعد أن كانت مشتعلة على مدى أيام طويلة في ظل انقسام بين أعضاء الـ “كابينت” الحربي ورئيس الحكومة ووزراء في حكومته وداخل الـ “كابينت”، وقد ظهروا في مؤتمر صحافي وأكدوا خلاله أن الحرب مستمرة، وهو موقف هيمن على معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية ليكون الصوت الأعلى هو استمرار القتال وتكثيفه في خان يونس بموازاة التقدم بمسارين متوازيين، صفقة الأسرى والسيطرة على محور فيلادلفيا.
وبررت الأصوات الخافتة خارج صندوق عائلات الأسرى رؤيتها لضرورة وقف الحرب بأن استمرارها سيعرقل تنفيذ صفقة الرهائن ويعرض من بقي منهم لدى “حماس” لخطر الموت، وفي الوقت نفسه فإن هذه العملية ستدفع بالحركة لبذل جهود لتنفيذ عمليات نوعية أخرى.
متى يعود السكان؟
العملية التي كان الجيش الإسرائيلي ينفذها في منطقة على بعد يتراوح بين 300 و600 متر من الحدود كانت تهدف بالأساس لتحضير المنطقة التي تخطط إسرائيل لأن تكون عازلة من أجل ضمان أمن سكان الجنوب، ومنع تكرار أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وبحسب الجيش فإن خطة التحضيرات شملت هدم جميع المباني في هذه المنطقة، مدعياً أن منفذي هجوم السابع من أكتوبر خرجوا منها، وتسوية مساحة واسعة بالأرض لضمان المراقبة الإسرائيلية بعد الحرب والرؤية الواضحة في عمق الحدود.
لكن السؤال الذي أثار نقاشاً عاصفاً في إسرائيل هو اختيار وضع كميات ضخمة من المتفجرات داخل المباني المخطط هدمها من خلال دخول عناصر الوحدة وبينهم وحدة الهندسة، لضمان تفجير المناطق والبنى التحتية للمنطقة المحيطة أيضاً، وتساءل كثيرون لماذا لم ينفذ الجيش عملية تفجير المباني من الجو كما فعل في معظم مناطق غزة؟
وبحسب الجيش فإن الخطر الكامن حتى الآن هو وجود أنفاق في كل المنطقة المحاذية للحدود، وتفجير المباني من الجو لن يؤدي إلى اختراق المتفجرات لهذه الأنفاق. وتبين أن الكمية الضخمة من المتفجرات التي وضعها الجيش كانت معدة أيضاً لاختراق الأرضية وتدمير الأنفاق في حال كانت موجودة.
وكانت العملية تنفذ على مرأى من الإسرائيليين القريبين من الحدود، وكما قال مسؤول في قيادة الجنوب فإن العمل فيها كان ضمن محاولات طمأنة السكان بأن الجيش يعمل لضمان أمنهم وعدم إبقاء أي إمكان لتكرار السابع من أكتوبر.
لكن مسألة الأنفاق عند الحدود إشكال كان أول من طرحه سكان البلدات المحاذية للحدود وغلاف غزة، إذ أبلغوا أنهم يسمعون أصوات عمل قرب الحدود تحت سطح الأرض، لكن القيادة والجيش تجاهلوا حديثهم، ومع فشل العملية التي قتل فيها 24 جندياً، كما تحدث للقنوات التلفزيونية أكثر من واحد من سكان الجنوب الذين يرفضون العودة لبيوتهم، فإن خوفهم اليوم تضاعف، وإذا لم يؤكد لهم الجيش أنه قام بتدمير الأنفاق فلا عودة لهم للجنوب.
لنحافظ على إنجازاتنا
الاتجاه الأكثر وضوحاً بعد هذه العملية ليس فقط الاستمرار بالحرب بل وتكثيف القتال، خصوصاً في خان يونس التي وصفها أمنيون وعسكريون بأنها المعقل الأهم والأخير لقيادة “حماس” في قطاع غزة.
الرئيس السابق لوحدة العمليات العسكرية في الجيش يسرائيل زيف الذي دعا خلال الشهر الأخير إلى العمل من أجل إنهاء الحرب، قال بعد هذه العملية إن ذلك من شأنه الآن أن يكون جائزة ومكسباً لـ “حماس” وليحيى السنوار بخاصة.
وأضاف في تعليقه على العملية، “لا شك في أنه يوم صعب جداً ويعكس الثمن الذي ندفعه وصعوبة وتعقيدات القتال في خان يونس والمخيمات الفلسطينية وفي كل مكان تجري فيه المعارك”، واستدرك “مع هذا علينا الاستمرار في العمليات كون الضغط العسكري على خان يونس، المعقل الأخير والمهم لقيادة ’حماس‘ سيجلب النتيجة في النهاية، وهي دفع الحركة نحو خطوات تسرع بإنهاء الحرب”.
وبرأيه فإن المشكلة مع “حماس” ليست فقط حول الأسرى والشروط التي تضعها لتنفيذ صفقة تحقق لها إنجازاً ما، وإنما أيضاً لدى وقف الحرب، موضحاً “علينا عدم تفويت الفرصة الحالية والاستمرار في القتال، فما حققناه حتى اليوم من إنجازات كبيرة سنفقده في لحظة تعليق الحرب، كما أن تضحية جنودنا الذين تجاوز عددهم الـ 500 قتيل حتى الآن ستذهب هباء”.
وحتى نواب “المعسكر الوطني” الذين قادوا حملة واسعة النطاق ضد نتنياهو وطالبوا باستقالته وبانسحاب زعيم حزبهم بيني غانتس من الـ “كابينت”، خرجوا يطالبون باستمرار الحرب كما قال عضو الكنيست متان كهانا، مضيفاً أنه “في حال وقف القتال فلن نحقق الأهداف التي نريدها، بل أهداف يحيى السنوار”.
لكن خلافاً لآخرين شدد كهانا على أن “استمرار الحرب من دون وضع خطة سياسية ورؤية مستقبلية لليوم الذي يليها، في موازاة تكثيف الجهود للتوصل إلى صفقة الأسرى، سيدفعنا فقط نحو الخسارة”.
تقويض شرعية الحرب
التطورات التي سيطرت على أجندة الإسرائيليين في غزة الثلاثاء جاءت بالتزامن مع استهداف قاعدة “ميرون” العسكرية في الشمال، وتعرض منطقة واسعة لعشرات الصواريخ والطائرات المسيرة من لبنان، وقد اختار الـ “كابينت” عقد اجتماعه في مستوطنة جنوب روشبينا بعد أن توصلت القيادة إلى قناعة بأن جهود الحل الدبلوماسي باءت بالفشل.
لكن وصولهم بعد مقتل 24 جندياً أثار حفيظة مئات ممن تبقوا في الشمال ورفضوا مغادرة بيوتهم، ليخرجوا إلى الشارع ويعترضوا طريق دخولهم إلى مكان الاجتماع بشعارات تطالب باستقالتهم فوراً، هاتفين “إذا كنتم عاجزين عن حماية الجنود فلا ترسلوا أبناءنا إلى الموت في غزة”، و”نتنياهو مسؤول عن مقتل 24 جندياً خلال لحظات داخل غزة”.
المتخصص العسكري رون بن يشاي اعتبر أن “يوماً دموياً يقتل فيه 24 جندياً خلال ثوان قليلة من شأنه أن يقوض الشرعية التي يمنحها الجمهور الإسرائيلي للحرب، وهذا أيضاً يجب أن يؤخذ في الاعتبار عند اتخاذ قرار باستخدام أطنان من المتفجرات قرب مقاتلينا”.
واعتبر أن التخطيط للعملية لم يأخذ بالحسبان كثيراً من الجوانب التي أدت إلى مقتل الجنود، مضيفاً “يجب التأكد من أن أولئك الذين لا حاجة إلى وجودهم في موقع الانفجار يبتعدون منه، وأولئك الذين يشاركون مباشرة في الإعداد للانفجار يجب أن يكونوا ماهرين، والاتصال بين الألغام أو المتفجرات بواسطة فتيل مدوي أو وسائل أخرى لا يتم إلا في اللحظة الأخيرة عندما تكون الغالبية العظمى من أفراد القوة قد ابتعدت بالفعل، وإن مأساة فقدان 24 من جنود الاحتياط في حادثة دفاعية لن تذهب سدى إذا تعلمنا الدروس وغيرنا الإجراءات بطريقة تمنع وقوع مزيد من الكوارث”.