حرية – (4/2/2024)
تجلس السيدة الثلاثينية أميرة في النادي الرياضي الشهير ممسكة بالإبرة والخيوط الملونة ومنهمكة فيها بصورة كاملة بانتظار انتهاء ابنها من تمرينه الرياضي، تقوم بالفعل ذاته ثلاث مرات أسبوعياً تعتبرها وقتها الخاص الذي تنفصل فيه عن العالم وتفعل شيئاً من أجل استمتاعها الشخصي.
تقول أميرة، “وجدت ضالتي في التطريز استغلالاً لهذا الوقت، وأحببت هذا الفن بشدة، وكنت سابقاً أهوى الرسم ولكن التنقل بالألوان والفرش واللوحات شيء غير عملي، بينما الأمر أسهل بكثير في حال التطريز، فأنتقي تصميمات تضم مناظر طبيعية ونباتات وطيوراً وفراشات لتنقلني إلى عالمها المبهج، وأشعر بسعادة غامرة عند انتهاء القطعة التي أضعها في بيتي أو أهديها لشخص عزيز”.
منذ أقدم العصور وجدت أشغال الإبرة بأشكال وصور مختلفة في كثير من الحضارات، ولم تكُن فقط أدوات للحياكة أو لإنتاج بعض الأشياء التي يحتاج إليها الناس مثل الملابس والمفروشات وغيرها، بل وسيلة لتأكيد الهوية والتراث الذي توارثته الأجيال.
خلال القرن الـ20 كان تعليم البنات أشغال الإبرة المختلفة أمراً أساسياً ولا خلاف عليه في جميع الطبقات
خلال القرن الـ20 كان تعليم البنات أشغال الإبرة المختلفة أمراً أساسياً ولا خلاف عليه في جميع طبقات المجتمع، فحتى الطبقة الحاكمة والأميرات كن يتلقين دروساً في التطريز، وكان صف الاقتصاد المنزلي في المدارس لا يخلو من دروس في الحياكة وقص الباترون وتصميمات التريكو وغيرها من أشغال الإبرة المختلفة.
وارتبطت أشغال الإبرة المختلفة أيضاً بالموضة، ففي فترات معينة انتشرت “تابلوهات الكانفاه” التي لم يكد يخلو منها أي منزل، وفي أوقات أخرى انتشر الـ”أوبيسون” الذي كان عبارة عن قطعة فاخرة يحرص الناس على اقتنائها، وكذلك أنواع المفارش والديكورات المختلفة وكانت دائماً تصنع بأنامل نساء العائلة في أوقات الفراغ.
عصر الذكاء الاصطناعي
قد يعتقد بعضهم بأن العصر الحالي بكل مفرداته من تكنولوجيا وذكاء اصطناعي والاتجاه للاعتماد على الآلات بصورة كاملة سيكون سبباً في القضاء على الاهتمام بهذه الفنون اليدوية، لكن العكس هو الصحيح، إذ إن الأعوام الأخيرة شهدت كثيراً من الاهتمام بهذه الفنون وانتشار عدد من الورش والدورات التدريبية لتعليمها، وانطلاق كثير من المشاريع الصغيرة للحرف اليدوية المختلفة لتحقق نجاحاً كبيراً، وفي الوقت ذاته اتجهت كثيرات لممارسة أشغال الإبرة المختلفة مثل هواية في أوقات الفراغ ووسيلة للاسترخاء والتخلص من الضغوط النفسية.
تقول سارة ربيع، وهي صحافية، “تعلمت أشغال الإبرة من أمي رحمها الله، وكانت مهنتها تتعلق بالأرقام لعملها في مجال الشؤون المالية، ولكنها أخبرتني أن شغل الإبرة مثل التريكو والكروشيه واحد من الوسائل التي تساعدها على التركيز وتنشيط الذاكرة لأنه يتطلب عد الغرز وتصميمها، بخاصة في التريكو، ومنذ أن كنت في المدرسة بدأت بممارسة هذه الهواية وتنفيذ قطع صغيرة للألعاب والعرائس، وكانت واحدة من أفضل أوقاتي هي زيارتي محل الخيوط القريب من بيتنا في منطقة حلوان بجنوب القاهرة، حيث كنت أشاركها في اختيار الألوان وتنسيقها والانتقاء بين الأنواع المختلفة من الخيوط”.
وتضيف سارة أنه “مع مرور الأيام والتحاقي بالعمل الصحافي بكل ما تمثله المهنة من ضغوط، بخاصة مع التعرض للأخبار الصعبة في كثير من الأوقات، كنت أبحث عن شيء يفصلني عن ذلك الضغط، وكانت أشغال الإبرة هي الملاذ، فهي تسحب الطاقة السلبية وتشتت الانتباه عن جميع الضغوط”.
وتتابع أنه “في البداية كنت أقوم بتنفيذ قطع بسيطة لنفسي، ومن بعدها بدأت المشاركة في بعض المعارض وأثارت مشغولاتي إعجاب الناس، وعلى صعيد آخر قمت باستغلال هذه الموهبة في عمل الخير، فلمدة سبعة أعوام نفذت بعض المشغولات بالتعاون مع واحدة من الجمعيات الخيرية توزع على الأطفال في صعيد مصر، وأضاف هذا سعادة مضاعفة بفرحة الأطفال بها”.
وتشير سارة إلى أن أية قطعة منفذة يدوياً تكون مميزة باعتبار أن بها جزءاً من روح صانعها، وتكون مصنوعة بحب واهتمام كبيرين، وتقول إنها ستسعى إلى استكمال مسيرة أمها مع ابنتها منذ البداية عبر اصطحابها إلى محال الخيوط، ومن ثم تعليمها أشغال الإبرة باعتبارها واحدة من أجمل الهوايات.
الإحساس بالإنجاز
مع انتهاء القطعة المشغولة يدوياً وظهورها بشكلها النهائي تشعر صاحبتها بالسعادة والإنجاز، خصوصاً مع تعليقات الإعجاب من الناس على القطعة، لينعكس هذا الشعور على الحال النفسية بصورة كبيرة، مما يجعل جميع الحرف اليدوية من بين الأمور التي ينصح بها كثير من المتخصصين للتخلص من الضغوط اليومية.
تقول هبة فؤاد، طبيبة أمراض نساء، “منذ طفولتي وأنا أحب الأشغال اليدوية بجميع أنواعها، وفي المدرسة علمتني مدرستي في حصص الاقتصاد المنزلي الخياطة والتطريز سواء بالخيوط أو الخرز، وكان التطريز هوايتي طوال هذه الأعوام، ومع بداية المرحلة الجامعية ودخولي كلية الطب ابتعدت لفترة من هذه الهواية مع صعوبة الدراسة والانشغال في العمل ولاحقاً الأسرة والأطفال، وبعد أن كبر أولادي نسبياً حاولت العودة للهواية مرة أخرى ولكن باستكشاف شيء جديد وهو الكروشيه، فاشتريت الإبرة والخيوط وبدأت محاولة التعلم من خلال فيديوهات الـ’يوتيوب‘، وبدأت بإنجاز بعض المشغولات البسيطة التي تطورت مع الوقت”.
وتضيف أنه “مع إتقاني للعمل بدأت بتنفيذ بعض قطع الملابس لي أو لأطفالي ولأسرتي، وكانت تلقى إعجاب كل من يراها لأنها تكون قطعة مميزة ليس لها شبيه، وأشغال الإبرة بصورة عامة تعطي إحساساً كبيراً بالسعادة والطاقة الإيجابية وتكون وسيلة للانفصال التام عن ضغوط اليوم”.
مشاريع صغيرة
قد يستغل بعضهم الهواية ويحولها إلى مشروع صغير يكبر مع الأيام، فخلال الأعوام الأخيرة ظهرت مشاريع صغيرة عدة تقوم عليها نساء حوّلن هواياتهن إلى منتجات تنافس في السوق، واعتمدن في تسويقها على إنشاء صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي أو المشاركة في المعارض المختلفة التي تقام دورياً في كثير من النوادي والمراكز التجارية.
الإحساس بالإنجاز بعد الانتهاء من القطعة يؤدي إلى حال من الطاقة الإيجابية وينعكس على الصحة النفسية
من بين هؤلاء أسماء السيد التي تقول “كانت أشغال الإبرة هوايتي لأعوام طويلة، وابتعدت منها لفترة عملت فيها في مجال المحاسبة، ولكنني لم أحبه على الإطلاق وظل شغفي بالفنون يلح عليّ، فقررت إنشاء مشروعي الصغير وبدأت بعرض مشغولاتي التي لاقت الإعجاب وبدأ الطلب عليها يزداد، ففكرة أن يكون عملي هو هوايتي تسعدني جداً، وأتمنى التوسع فيه مستقبلاً، وأن تكون لدي علامة تجارية باسمي”.
تأثير في الحال النفسية
وأجرت مجموعة من الباحثين دراسة نشرت في دورية علمية تابعة لجامعة “أوسلو” بعنوان “لماذا تحب عقولنا الفنون والأشغال اليدوية؟”، وتجيب الدراسة أن هذه الحرف تساعد في السيطرة على التوتر، وتدفع ممارسها نحو الاسترخاء والتعامل مع المشاعر المختلفة، وفي الوقت ذاته تساعد على تحسين جودة النوم، مما ينعكس على الصحة بصورة عامة.
وأفادت الدراسة أيضاً بأن الأعمال اليدوية بجميع أنواعها مفيدة لكل المراحل العمرية، فحتى الأعمال البسيطة التي يقوم بها الأطفال تساعد على التركيز وتحسين القدرات الدراسية وتؤدي إلى الثقة بالنفس والإحساس بالذات.
وعن تأثير الأشغال اليدوية في الصحة النفسية تقول استشارية الصحة النفسية أمل محسن إن “هناك كثيراً من النشاطات البسيطة التي لها تأثير كبير في الصحة النفسية ومن بينها الرياضة بجميع أنواعها حتى لو مجرد المشي، وأيضاً كل ما يتعلق بالأعمال الفنية والحرف اليدوية بجميع أنواعها مثل الرسم وأشغال الإبرة وغيرها، فهي تسيطر على تركيز الشخص وتجعله يتناسى مشكلاته حتى ولو لفترة، فالتدقيق والتركيز التام في الخيوط والغرز والتصميم يجعل الشخص في حال تندرج تحت ما يطلق عليه مسمى ’The power of now‘، مما ينتج منه أن المخ يكون في وضعية الابتعاد من التركيز على المشكلات والتحديات المختلفة”.
ليست للنساء فقط
الحال التي تخلقها الحرف اليدوية بجميع أنواعها لا تقتصر على النساء وأشغال الإبرة، ولكن التأثير ذاته ينطبق في الرجال ولكن بحرف يدوية مختلفة، وتشرح محسن أن “الأمر لا يقتصر فقط على أشغال الإبرة، ولكن أي شيء يتم تنفيذه باليد يؤدي إلى الحال نفسها مثل الطبخ على سبيل المثال، فهو يمكن أن يساعد على التخلص من التوتر بانشغالنا وتركيزنا بالكامل فيه، ولا بد من أن نبحث بداخلنا عن جانب إبداعي ونسعى إلى ممارسته لتخفيف الضغط والتوتر، كما يجب إدراك قيمة هذا الأمر ونشر الوعي بين الناس بأهميته باعتباره واحداً من الوسائل البسيطة التي يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي في الصحة النفسية”.