حرية – (5/2/2024)
في معظم الأحداث التي تخص المرأة ينقسم المجتمع بين مؤيد ومعارض، فلكل وجهة نظر وزاوية رؤية مستمدة من تاريخ تراكمي مورس بحق النساء، إذ إن المرأة أُخضِعت عبر العصور إلى نظام الوصاية الذكورية، الذي جعل من بعض الرجال مستغلاً تارةً، ومتحكماً تارةً أخرى، وفق مصالحه.
ومع بدء ملكية الأرض بدأت مكانة المرأة بالانخفاض، إذ لاحظ علماء التاريخ أن المرأة المصرية القديمة التي كانت تُرسم على الجدران بحجم زوجها تماماً دليلاً على التساوي في المكانة والقدر، أصبحت تُرسم بحجم أصغر من زوجها وهذا يعني أنها أصبحت أقل قدراً منه.
ويشير العلماء إلى أنه بعد أن كانت المرأة إلهة الخصب والخير والوفرة والحياة، أصبحت حليفة الشيطان ورمزه الوحيد المجسد على الأرض، وبعد أن كانت ملكة، داخل البيت وخارجه، أصبحت خادمة خارج البيت وجارية داخله.
وعن هذا تقول الدكتورة نوال السعداوي في كتابها “الأنثى هي الأصل”، “إنه لم يعد خافياً على من يلم إلماماً شاملاً بالتاريخ أن يدرك الأسباب الاقتصادية التي دعت إلى ذلك، والظروف التي جعلت الرجل يتعلم الجشع وملكية الأرض والعبيد وأطفاله، وثم ملكية المرأة وسلب النسب منها والشرف”.
وبلغت ملكية الرجل للمرأة في العصور الوسطى أوجها، وانتقلت هذه المفاهيم من العالم الغربي إلى العالم العربي، حيث كانت المرأة أعلى شأناً، ولكنها تراجعت مع تأويلات وأحكام فرضها رجال الدين، بحسب تفسيراتهم.
أساس بناء الهوية
وأصبح كل شيء يدخل في خانة المنع والحرام، على اعتبار الأنثى كائناً حراً في فطرته ويتناغم مع الحياة، ويسعى للجمال في كل تفاصيله، وهذا ما حذا بالمجتمع أحياناً إلى تقييدها وتسليعها أو التحكم بها أحياناً عبر تعليبها في قواعد ضيقة. إذ سعى الغرب لتسليع المرأة عبر تاريخه واستغلالها، فجعل من جسدها عامل جذب لصناعة الصورة التي أراد تسويقها، ومنها “مسابقات جمال الاستحمام” التي وجدت في ثمانينيات القرن التاسع عشر في أميركا، إذ كانت الفتاة تستعرض ثياب السباحة، ومن هذه الفكرة انطلقت فكرة مسابقات ملكات الجمال. وكانت أول مسابقة ملكة جمال حقيقية بالمعنى الحديث للكلمة في عام 1921، في “أتلانتيك سيتي”، بولاية نيو جيرسي، وتطور هذا الحدث على مدار العقدين التاليين إلى مسابقة ملكة جمال أميركا.
وفي عام 1951، أنشئت أول مسابقة ملكة جمال دولية في المملكة المتحدة، حيث بدأت كمسابقة للبيكيني في المهرجان، وعن هذا الحدث قالت الصحف الأجنبية، “أثبتت المسابقة أنها كانت سابقة لعصرها بعض الشيء، حيث أدى الغضب من كمية الجسد المعروضة إلى استبدال البيكيني بملابس سباحة أكثر احتشاماً في العام التالي”.
وفي عام 1954، بثت مسابقة ملكة جمال أميركا تلفزيونياً للمرة الأولى على قناة “أي بي سي” (ABC)، ما حوّل تجربة ذلك الحدث إلى ظاهرة وطنية، وبعدها انتشرت مسابقات ملكات الجمال المحلية في جميع أنحاء الولايات المتحدة، إضافة إلى أنه بحلول أوائل ستينيات القرن العشرين أصبحت مسابقات ملكات الجمال عنصراً أساسياً في بناء الهوية الأنثوية حول العالم.
اقتصاد العولمة والتيارات الإسلامية
ولكن ما زالت هذه المسابقة إلى حد اليوم تُنتقد في الغرب من قبل عدد من الأكاديميين والمراقبين من صحافيين وناشطين في حقوق الإنسان، إذ يرون أن بعض تفاصيل هذه المسابقة تجعل من الحدث مصلحة تجارية ضخمة بحجة الاحتفاء بالجمال، فعلى رغم إعلان المنظمين اهتمامهم بالشق الثقافي والمعرفي للفتاة، لكن برأيهم أن هذا الجزء تغطية وتحايل على الحدث، فالظاهر شيء والباطن شيء آخر، وبخاصة مع وجود نظام اقتصاد العولمة الذي “يشيّء” الإنسان، أي يتعامل معه كشيء ولا يحترم إنسانيته، فهو إما مُستهلِك وإما وسيلة لتسويق الاستهلاك.
أما في العالم العربي فهناك طرفا نقيض واضحان، فقلة يتحدثون بانفتاح، بحجة عدم مشابهة الغرب، وغالبية عظمى متشددة تضع تحركات المرأة في ميزان، فإن أخلّت به تعرضت لرجم المجتمع بحجة تخطي العادات والتقاليد ومخالفة الدين، ولكن هناك فئة ثالثة ترى الأمور من منظار آخر وهي فئة شبه هامشية مثقفة تعي أصل الأفعال وغاياتها وتحاول التنوير ولكنها تهاجَم من الطرفين، ولكل حجته.
أما الغالبية العظمى فمدفوعة من قبل التيارات السياسية الدينية التي اعترضت وما زالت تعترض في كل مناسبة على هذه المسابقات، معتبرةً نفسها وصية على المرأة، لذلك جرت في مصر مسابقة ملكة جمال المحجبات ووضعت لها شروط، وأولها أن تكون المتقدمة للمسابقة مرتدية الحجاب من دون نقاب أو أسدال أو خمار مع مراعاة الجمال الشكلي وامتلاك ثقافة دينية عامة.
ولكن حتى هذه المسابقات تعرضت لهجوم من قبل علماء الدين الأكثر تشدداً الذين رأى أغلبهم، “أن تنظيم مسابقات ملكات الجمال بمشاركة محجبات بدعة وإهانة واضحة للمرأة المسلمة”، موضحين أن “رعاة هذه المسابقة من شركات أزياء وقنوات تلفزيونية هم نفس رعاة مسابقات العري المرفوضة شرعاً”، وأنهم “غيروا المسمى كنوع من الخدعة والتحايل”، مؤكدين أن “الفتاة المثالية في منظور الإسلام هي التي تتصف بالحياء وتمتنع عن عرض مفاتنها باستخدام الحجاب وسيلة جديدة للإغراء”.
مع وضد
وعليه فما حدث أخيراً مع ملكة جمال السودان يوضح الانقسام، فبعد ترشح تسابيح دياب إلى مسابقة ملكة جمال العالم، انبرى كثيرون في المجتمع العربي بكل فئاته لإبداء رأيه، وذلك بغض النظر إن كان عارفاً أو جاهلاً بحيثيات الحدث، فوسائل التواصل الاجتماعي فتحت الأبواب للعارفين والجهلاء وأنصاف العارفين، وبالتالي فإن الرقيب غير موجود، وهو الأمر الذي عرّض الفتاة السودانية للهجوم والتقليل من شأن ما تقوم به، إضافة إلى رفع عصا العادات والتقاليد والدين في وجهها، وهو ما سارعت إلى الإجابة عليه قائلةً إنها لن تخالف العادات والتقاليد التي تربت عليها في بلدها، وفعلاً ارتدت الفتاة في فقرة لباس السباحة، لباس البوركيني بعد أن أعلمت الجهة المنظمة رفضها ارتداء البيكيني لأسباب ثقافية واجتماعية.
وهناك مَن أثنى عليها وشد على يدها، مدفوعاً بحماسة وطنية وعرقية وبغايات اعتبرها سامية، كأن توصل اسم بلدها السودان وما يتعرض له الآن من صراع وقتل لتظهر وجه الآخر الحضاري.
ولكن السؤال الأساس، من المستفيد الرئيس من هذه المناسبات، المشاركات أم جهات التنظيم؟
وستجيب الغالبية أنها شركات التنظيم وتلك الراعية وهذا ما يتفق مع ما تقوله بعض وسائل الإعلام الغربية، إذ إنه بعد هذه المناسبة ترتفع نسبة مبيعات هذه الشركات بشكل ضخم.