حرية – (6/2/2024)
حدث ذلك تحديداً يوم الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1836، حين تلقى شاعر روسيا الكبير ألكسندر بوشكين نسخة من رسالة مكتوبة باللغة الفرنسية، “مجهولة” المصدر والكاتب، تقول ما معناه إن “أعيان ونبلاء أخوية الأزواج المخدوعين قد عيّنت، وبالإجماع، السيد ألكسندر بوشكين، زعيماً أول للأخوية”. ولئن كانت الرسالة الساخرة التي سيتبين لاحقاً أنها كانت تهديداً سينفذ بعد حين لينتهي بموت الشاعر في تلك المبارزة الشهيرة القاتلة، غفلة من التوقيع، فإن بوشكين كان يعرف هوية مرسلها: إنه البارون جاكوب فان هكرين، سفير هولندا في بطرسبورغ… وهو الأب بالتبني للبارون جورج دانتيس، الذي كان لا يتوقف عن ملاحقة ناتاليا غونتشاروفا زوجة بوشكين، بعناد ويغازلها. على الفور أرسل بوشكين إلى السفير، رسالة بالفرنسية أيضاً، حافلة بالسباب، ويقول فيها: “إنك، يا سيدي، مثل أي داعر عجوز مهووس، ستواصل مطاردة زوجتي في كل زاوية لكي تحدثها عن غرام ابنك السفاح بها”. أمام هذا الرد كان لا بد من المبارزة بين الشاعر والعاشق الولهان… ووقعت الواقعة بالفعل يوم 27 كانون الثاني (يناير) من العام التالي. وكان فيها القضاء على بوشكين بعدما أصيب بجروح مميتة. أما غريمه – وكان فرنسياً – فقد أصيب فقط بجرح طفيف في ذراعه. وهذه الحكاية تستكمل عادة بأن ناتاليا صارت بعد ذلك عشيقة قيصر روسيا، لا عشيقة الفتى الفرنسي. ويضيف البعض بأنها ربما كانت عشيقة القيصر حتى قبل مقتل بوشكين. غير أن ما يهمنا هنا من هذه الحكاية، هو أن الرسائل المتبادلة في صددها كتبت بالفرنسية، فهل كان هذا لأن غريم بوشكين كان فرنسياً؟ أبداً، وذلك بكل بساطة لأن اللغة الفرنسية كانت في روسيا ذلك الحين، لغة الطبقة الراقية وكبار المثقفين في المجتمع، يشهد على هذا كتاب صدر في باريس قبل نهاية القرن العشرين، يضم عدداً كبيراً من رسائل كتبها بوشكين خلال سنوات حياته القصيرة، بالفرنسية مباشرة، مع أن معظمها كان موجهاً إلى معارف روس…
لغة الطبقة الراقية الروسية
يبلغ عدد هذه الرسائل في الكتاب أكثر من 180 رسالة، تأتي لتؤكد ما كان ليو تولستوي نفسه أكده في صفحات روايته “الحرب والسلام” من أن أهل المجتمع الروسي، كانوا وحتى قبل وصول نابوليون في حملته العسكرية الفاشلة إلى أطراف موسكو، يتحدثون بين بعضهم بعضاً بـ”تلك الفرنسية الرهيفة التي كان جدودنا يستخدمونها ليس فقط في حديثهم، بل في تفكيرهم أيضاً”. أما في مجال الأدب، فإن تولستوي كان يرى أن “الأسباب التي أدت إلى تأخير تقدم أدبنا الروسي إلى الأمام، تعتبر عديدة وفي مقدمها الاستخدام المعمّم للغة الفرنسية واحتقار اللغة الروسية”. ومع هذا يذكر لبوشكين أنه أولى كل اهتمامه، في أدبه وأشعاره، للغة الروسية منمقاً إياها، محسناً ألفاظها. غير أن هذا لم يمنعه من أن يكتب عدداً كبيراً من الرسائل باللغة التي كان يراها أسهل في التخاطب وأقرب إلى الحميمية: الفرنسية.
بالنسبة إلى بوشكين إذاً، لا يبدو استخدام الفرنسية في التراسل، ظرفياً. بل يبدو جزءاً أساسياً من طبيعته، ومن هنا فإن إطلالة على هذه الرسائل، ترينا كم أنه عبّر فيها، عن أمور عدة – وأحياناً شديدة الخصوصية – تشغل باله، في الأدب والفن كما في الحياة اليومية أيضاً. بل لا بد لنا من ملاحظة أن جزءاً كبيراً من هذه الرسائل يتعلق بشؤونه الغرامية، هو الذي كان يقول عن ناتاليا غونتشاروفا، التي تزوجها أخيراً وهي في السادسة عشرة فيما كان هو في الثلاثين، إنها تحمل الرقم 113 بين النساء اللواتي أحب في حياته.
ألكسندر بوشكين (1799 – 1837)
عاجز عن التعبير بلغته عن شؤون الجنس!
إذاً، بفرنسية أنيقة ومسهبة كتب بوشكين رسائل حول النساء وإليهن… ولكن أيضاً إلى رجال السلطة، وصولاً إلى القيصر نفسه، وإلى أصدقائه وحتى إلى أشخاص لم يكن يعرفهم… بما في ذلك في نهاية الأمر تلك الرسالة التي أوصلته إلى نهايته. في مجمل رسائله، كان يبدو دائماً، مزاج بوشكين مطلاً حاسماً، وكان يبرع في استخدام الكناية والرمز، وفي استنباط تعابير مدهشة، يتسم معظمها بإشارات جنسية كان يبدو عليه أنه غير قادر على التعبير عنها باللغة الروسية على الإطلاق. وفي شكل خاص كانت الفرنسية تسعفه في مجال الحديث عن المسرح، لا سيما في مجال الحديث عن الكاتب التراجيدي الفرنسي كورناي. إذ ها هو يقول في واحدة من الرسائل: “إن عباقرة التراجيديا الحقيقيين لم يهتموا أبداً بمسألة الإيهام بالواقع، أو بأن تبدو مسرحياتهم قابلة لأن تصدق. خذوا كورناي مثلاً وانظروا كيف حرك شخصية السيد في المسرحية التي تحمل اسمه… وراقبوا كيف أن هذا الكاتب عرف كيف يراكم في ساعتين، أحداثاً تدور خلال أربعة أشهر”.
وفي المجال العائلي يستخدم بوشكين الفرنسية، مثلاً، للإعلان عن ولادة ابنته الأولى، قائلاً للمرسل إليه: “تصوروا أن زوجتي كانت من الخرق بحيث ولدت نسخة طبق الأصل مني. والحال أن هذا يرديني مهاوي اليأس على رغم سروري التام”… وفي رسالة أكثر حزناً يقول: “لا نؤمنن بالأمل. فالأمل ليس سوى امرأة حسناء لا تتوقف عن معاملتنا وكأننا مجرد أزواج عجائز”. وهو يكتب إلى امرأة أحبها: “وهاك ما أنت عليه… وما أنتن عليه جميعاً. وهاك كيف أن النساء والعواطف الكبرى هي أكثر شيء أخشاه في هذا العالم”. وفي رسالة يوجهها إلى كارولينا سوبانسكي، أخت مدام هانسكا يكتب: “عاجلاً أو آجلاً، سأجدني هاجراً كل شيء لآتي وأخرّ عند قدميك”. ويرى محرر كتاب “رسائل بالفرنسية” لبوشكين، برنار كرايز، أنه لو قيض لألكسندر بوشكين أن يتزوج من كارولينا كما كان يأمل، لأصبح عديلاً لبلزاك…