حرية – (10/2/2024)
لا شك في أن عدداً من الدول العربية يعاني من عدد كبير من النزاعات والتوترات السياسية والتي تؤثر بالسلب ليس فقط على الواقع الاقتصادي الحالي وإنما أيضا على التوقعات الاقتصادية في المستقبل سواء في الأجل القصير أو المتوسط.
وبالفعل تركت الحساسية المفرطة لدول المنطقة تجاه التغيرات والضغوط الجيوسياسية آثارها على الحياة الاقتصادية للأفراد والحكومات في المنطقة ككل، وظهر ذلك في تباطؤ معدلات النمو، وزيادة حدة التفاوت في الدخول، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة بين السكان، وكلها مؤشرات يدعم استمرارها تراجع فرص السلام والاستقرار في دول المنطقة.
ورغم التركيز على التداعيات الاقتصادية الناجمة عن بؤرة الصراع الحالي في الحرب الإجرامية على قطاع غزة، إلا أن الواقع أكثر اتساعا وأشد ألما، حيث تتفاقم الأوضاع في السودان وتتزايد التوترات في جنوب لبنان بالإضافة إلى الضربات الأميركية على العراق واليمن والصراع المتواصل في سورية، وكلها نزاعات من المنطقي أن يترتب عليها المزيد من التباطؤ الاقتصادي والتراجع في المؤشرات الكلية بصفة عامة.
وقبيل اندلاع الحرب النازية على غزة توقع صندوق النقد الدولي أن يتباطأ النشاط الاقتصادي في المنطقة من 5.6% في عام 2022 إلى 2% في عام 2023، وسبقه البنك الدولي في ذلك، حيث توقع انخفاضا حادا لمتوسط معدل النمو بالمنطقة إلى 1.9%، بنهاية العام الماضي قياسا إلى نمو بواقع 6% في العام السابق له.
المشكلات لا تتوقف عند الصراعات فقط
مع الأسف تتشارك التوترات الأمنية مع العديد من الأزمات الأخرى لتفاقم أوضاع الأزمات الاقتصادية في بعض دول المنطقة، فطبقا لصندوق النقد الدولي، فإن الدول العربية لا تحتاج فقط إلى تدبير وفورات لزيادة معدل النمو، بل إنها تحتاج أيضا إلى توفير إمكانات إضافية لتحقيق الصلابة والقدرة على التحمل في ما يتعلق بأزمات البيئة، وتحديات نمو قوة العمل، وضرورة توفير الاحتياجات الغذائية الأساسية للمواطنين.
وبالفعل أظهرت بعض الأحداث التي مرت بها دول عربية في العام الماضي، مثل زلزال مراكش، وكارثة السيول في ليبيا، والجفاف وندرة المياه في العراق، الهشاشة الاقتصادية الكبيرة تجاه الفواعل البيئية في تلك الدول، الأمر الذي يؤكد استنتاجات صندوق النقد الدولي أن بناء الصلابة والاستدامة والقدرة على التحمل الاقتصادي هي قضايا عاجلة تحتاج إلى جدية كبيرة في مواجهتها، وهو الأمر الذي لم تولِه الحكومات العربية اهتماما كافيا حتى الآن، ربما نتيجة للعوز المالي الشديد الذي ضرب العديد من الدول في المنطقة.
يضاف إلى ذلك تفاقم أزمة المديونية والنقد الأجنبي في بعض الدول العربية، وفي مقدمتها تونس ومصر، خاصة أن معظم الدول العربية تعتمد على الدولار الأميركي في تسوية مدفوعاتها التجارية، وكذلك نظرا لأن النسبة الأعظم من ديونها مقومة بالدولار، وهو الأمر الذي يتعاضد مع التوترات الجيوسياسية وانخفاض معدلات النمو في خلق بيئات أكثر تعقيدا في مواجهة الأزمات الاقتصادية، ويدلل على ذلك بوضوح فشل السياسات الاقتصادية التقليدية في تحسين المؤشرات الاقتصادية وضياع هامش المناورة المحدود من الأساس الذي كانت تستخدمه بعض الحكومات لمواجهة التراجعات الاقتصادية وآثارها على الطبقات الأكثر احتياجا.
ففي تونس على سبيل المثال، تشير الموازنة العامة للدولة للعام الجاري إلى تخصيص أكثر من 77% من الاعتمادات لثلاثة مكونات رئيسية، هي خدمة الدين الحكومي (31.8%)، والرواتب (30.5%)، والتعويضات (14.6%)، وبالطبع لا يتبقى شيء يذكر من مخصصات الإنفاق العام ليتوجه نحو الاستثمار الذي لن يمثل سوى 6.8% فقط من إجمالي الإنفاق العام، وهو الأمر الذي يوضح التراجع الكبير المتوقع ليس فقط لدور الدولة في تقديم الخدمات العامة، ولكن أيضا لتعظيم معدلات النمو المستقبلية ومواجهة التحديات الحالية للدولة.
كما أن الاقتصاد المصري يئن تحت وطأة أزمة انخفاض سعر الصرف والناجمة عن الإفراط في الاقتراض وتبديد الموارد في مشروعات بدون عوائد تساهم في سداد الأقساط والفوائد، وهي المشكلات التي تسببت في تخفيض التصنيف الائتماني للحكومة المصرية أكثر من مرة، بالإضافة إلى تخفيض التصنيف لأهم البنوك المصرية.
معضلة الأمن الغذائي في الوطن العربي
يمتلك الوطن العربي كافة المقومات والموارد اللازمة للاكتفاء الذاتي من الغذاء، ولكن مع الأسف تتوالى التقارير الدولية التي تحذر ليس فقط من تفاقم أزمة الأمن الغذائي في المنطقة، بل أيضاً من تزايد أعداد الجوعى. وفي مارس/ آذار من العام الماضي، أصدرت كل من منظمة الأغذية والزراعة، والصندوق الدولي للتنمية الزراعية، وبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الصحة العالمية، واليونيسف، والإسكوا، تقريراً حذر بشكل مباشر من أن مستويات الجوع وسوء التغذية وصلت إلى مستويات حرجة في المنطقة العربية.
وكشف التقرير أن ما يقدر بنحو 53.9 مليون شخص عانوا من انعدام الأمن الغذائي الشديد في المنطقة العربية في عام 2021، أي بزيادة قدرها 55 في المئة منذ 2010، وزيادة قدرها 5 ملايين عن العام السابق، كما حذر التقرير من أن انعدام الأمن الغذائي المعتدل أو الشديد واصل منحاه التصاعدي، ليؤثر سلباً على ما يقدر بنحو 154.3 مليون شخص في عام 2021، بزيادة قدرها 11.6 مليون شخص عن العام السابق، ويصدمنا التقرير في النهاية بذكر أن أكثر من نصف سكان الدول العربية، أي 162.7 مليون شخص، لم يستطيعوا تحمل كلفة تبني نمط غذائي صحي في عام 2020.
ربما توضح هذه الأرقام الصادمة الواقع الغذائي المأساوي الذي يعيشه العالم العربي والذي بالقطع لا يحتاج إلى التأكيد على ضرورة الحفاظ على الأمن الغذائي ودعم كل العوامل والفواعل التي يمكن أن تؤدي إليه، وتبني استراتيجيات منهجية تستثمر في تطوير الأصناف وإدارة المياه والتربة بالإضافة إلى رفع كفاءة العنصر البشري.
المشاكل أكبر من الإحصاء
في الحقيقة أن التوترات السياسية كشفت عورات المشكلات الاقتصادية الكثيرة التي يعاني منها المواطن العربي والتي بالطبع يصعب الحديث عنها جميعا في مقال واحد، ولكن المؤكد أن الأمثلة السريعة السابقة عن أزمات الغذاء والمديونية والنقد الأجنبي تفاقمت بصورة أكثر تسارعا كنتيجة للتوترات السياسية التي تجتاح المنطقة وتهدد الجميع.
وربما يجب التذكير هنا بأن تلك المشاكل تستعصي على المواجهة الفردية والتي فشلت فيها الكثير من الحكومات، بل وتسببت في تفاقمها عبر أكثر من نصف قرن مضى، وأن الحل أو على الأقل إيقاف هذا النزيف الذي وصل إلى درجة الموت جوعا للبشر أن تتكاتف الدول العربية لبناء استراتيجية للمواجهة الجماعية الفاعلة لخلق حالة من الأمن الغذائي المستدام بالإضافة إلى علاج مشاكل العجز المزمن في المالية العامة، ولكن يسبق كل ذلك بالتأكيد التعاون باتخاذ إجراءات عاجلة للقضاء على الجوع وعلى سوء التغذية بجميع أشكالهما من خلال ضمان توفر كميات كافية من الأغذية الآمنة والمغذية وبأسعار معقولة للجميع، فمهما كانت الصراعات وقوتها والتوترات واتساع رقعتها تبقى الإنسانية والحق في الحياة الأساس الذي يجب ألا يختلف عليه أحد.