حرية – (24/2/2024)
دخلت منصة “فيسبوك” عامها الـ 20 في الرابع من فبراير (شباط) الجاري، متصدرة الشبكات الاجتماعية الأخرى، إذ ما زال أكثر من ثلاثة مليارات شخص (حوالى 60 في المئة من مستخدمي الإنترنت) يراجعون موجزها اللانهائي كل شهر، وما زالت ست تطبيقات من الـ 10 الأكثر تنزيلاً، العام الماضي، تعود لشركة “ميتا”، كما تجاوزت القيمة السوقية للشركة تريليون دولار، وسجلت في الربع الثالث من العام الماضي إيرادات بلغت 34 مليار دولار.
لكن معايدات هذا العام جاءت مختلفة بعض الشيء من قبل بعض الصحف العالمية الكبرى، فقد عنونت صحيفة “الإيكونوميست” غلاف هذا الشهر بـ “نهاية الشبكات الاجتماعية”، وكذلك سبقتها ثم لحقت بها صحف عدة أخرى، لتنذر بتحول تخضع له الشبكات الاجتماعية سيغير شكلها الحالي.
اضطرت “فيسبوك” إلى تجديد نفسها بعد وصول المنافسين
لكن الحقيقة لو عدنا إلى الخلف قليلاً لوجدنا أن عملية التحول هذه ليست وليدة اليوم، لكن تحولاً شهدته الساحة الاجتماعية الرقمية بعد تزايد عدد الشبكات وتنوع اتجاهاتها، سحب ميزة القطب الواحد من الشبكات المعروفة “فيسبوك” و”تويتر” (سابقاً)، والتي تسيّدت الساحة العامة لأعوام خلت.
لكن ماذا تقصد “الإيكونوميست” في عنوانها هذا؟ وهل ستخرج الشبكات الاجتماعية من الساحة الرقمية؟ أم أن تحولاً عميقاً سيطرأ عليها؟
التفاعلات الشخصية والتواصل الجماهيري
بحسب “الإيكونوميست”، تقوم فكرة وسائل التواصل الاجتماعي على التواصل بشكل أساس وليس أي شيء آخر، وربما يكمن نجاحها الأكبر بقدرتها على أن تمثل الطريقة الرئيسة التي يستخدمها الناس لخوض تجربة الإنترنت وكذلك جزء كبير من كيفية تجربتهم للحياة، إذ اكتسبت الشبكات الاجتماعية سحرها اللافت في قدرتها على الجمع بين التفاعلات الشخصية والتواصل الجماهيري.
وتستهلك تطبيقات التواصل الاجتماعي ما يقرب من نصف وقت استخدام الهاتف المحمول، وأكثر من ربع ساعات الاستيقاظ تم إنفاقها على الهواتف. والعام الفائت، قضى مستخدم الإنترنت العادي ما يقرب من ساعتين ونصف الساعة يومياً على منصات التواصل الاجتماعي، وارتفع إجمالي الوقت المستغرق في استخدام تطبيقات التواصل الاجتماعي على أجهزة “أندرويد” (والتي تمثل حوالى 70 في المئة من الهواتف والأجهزة اللوحية في العالم) ليصل إلى 2.3 تريليون ساعة في العام الماضي، وفقاً لشركة الأبحاث “داتا أي آي”.
وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، فضلاً عن كونها ممتعة، بوتقة للنقاش عبر الإنترنت وأداة لخوض الحملات السياسية، فهي تمثل اليوم بحسب مارك زوكربيرغ (مؤسس شركة ميتا) ساحة المدينة الرقمية حيث تتم مناقشة الحجج وتشكيل الآراء العامة.
فقد أثارت وسائل التواصل الاجتماعي الحركات الاجتماعية بدءاً من #MeToo و#BlackLivesMatter وصولاً إلى “الربيع العربي” وأعمال الشغب في “الكابيتول”، وفي الوقت الذي سيتوجه فيه نصف العالم إلى صناديق الاقتراع هذا العام، سيكون، حتى السياسيين، ناشطين على الإنترنت.
لكن هذا النوع من الشبكات الاجتماعية، والذي كانت “فيسبوك” رائدة فيه، بدأ بالتغير والاختفاء تدريجاً، ويمكننا ملاحظته بشكل واضح في التحول إلى الفيديو، إذ أثار النجاح الهائل الذي حققه تطبيق “تيك توك” الصيني، بعد إطلاقه عام 2017، موجة من المقلدين، لتقوم “ميتا” بإضافة ميزة فيديوهات “الريلز” إلى “فيسبوك” و”إنستغرام”، وكذلك رأينا “شورتس” في “يوتيوب” و”ووتش” في “بنترست” و”سبوت لايت” في “سناب شات”.
وبحسب التقرير، شكلت هيمنة حفنة من المنصات الضخمة، في الماضي، نوعاً من الثقافة السياسية الأحادية، بخاصة في اللحظات الكبرى مثل الحملات الانتخابية، إذ كان من الممكن إيصال خبر حدوث أمر ما بسرعة كبيرة في أنحاء البلاد كلها، أما اليوم فلم يعد الأمر يجري على هذا النحو، فقد أصبحت هناك مجموعات عدة مختلفة وفي أماكن مختلفة أيضاً، فتوزع الشباب على “سناب شات”، والصحافيون تسمكوا بـ “إكس”، بينما يقول أحد الناشطين في بريطانيا إن موقع “لينكد إن” أفضل مكان للوصول إلى المساعدين البرلمانيين، لذا يتوجب على السياسيين أن يتواجدوا في كل مكان، حتى أن الرئيس الأميركي جو بايدن انضم إلى شبكة “تروث سوشيال” Truth Social، المملوكة من قبل منافسه الجمهوري دونالد ترمب.
الابتعاد عن الأخبار
وعلى رغم اتهام الشبكات الاجتماعية بإثارة الاستقطاب السياسي، إلا أنها تبدو حريصة على نحو متزايد على توجيه المستخدمين بعيداً من الأخبار والأوضاع الحالية، وفي هذا الصدد، قامت دراسة بمقارنة مجموعة من مستخدمي “فيسبوك” و”إنستغرام”، الذين كانوا يتابعون موجزات الأخبار بترتيب زمني في الفترة التي سبقت الانتخابات الأميركية عام 2020، مع مجموعة أخرى استخدمت خوارزمية التوصية الخاصة بالمنصات، ووجدت أن أولئك الذين يستخدمون الموجز الزمني شاهدوا محتوى سياسياً أكثر بنسبة 15 في المئة على “فيسبوك” وخمسة في المئة أكثر على “إنستغرام”، مقارنة بأولئك الذين عرضت عليهم الأخبار بواسطة الخوارزمية، ومنذ ذلك الحين، ابتعدت المنصات أكثر عن الأخبار، وكان هذا التحول حاداً وواضحاً للغاية في شركة “ميتا”، التي تقول اليوم إن الأخبار تشكل أقل من ثلاثة في المئة مما يراه الناس على المنصة.
ونظراً لانخفاض تعرض المستخدمين للأخبار في خلاصاتهم، أصبحوا أقل احتمالية لمشاركتها أو التعليق عليها علناً، ففي حين كان حوالى 26 في المئة من الأشخاص يشاركون مقالات إخبارية على وسائل التواصل الاجتماعي أسبوعياً على الأقل في عام 2018، فإن 19 في المئة فقط فعلوا ذلك في العام الماضي، وفقاً لدراسة أجراها معهد “رويترز” بجامعة “أكسفورد” في 36 دولة، ويبدو أن تراجع المشاركة يؤثر، في الوقت ذاته، على حجم المحتوى السياسي بشكل خاص.
الاستهلاك السلبي
واليوم، بعد عقدين من التطور، اضطرت “فيسبوك” وغيرها من الشركات القائمة إلى تجديد نفسها، بعد وصول المنافسين مثل “تيك توك”، المدعوم بالذكاء الاصطناعي، فالمنصات التي بدأت كأماكن للأصدقاء للتفاعل ومشاركة المحتوى الخاص بهم، تتحول الآن إلى قنوات ترفيهية شبيهة بالتلفزيون، مخصصة للاستهلاك السلبي، ونظراً لأن موجز الأخبار الخاص بالمستخدمين أصبح غير مرتبط بشبكة أصدقائهم وعائلاتهم، فإنهم ينشرون عدداً أقل حول أنفسهم.
والسمة اللافتة للنظر على وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة، هي أنها لم تعد اجتماعية بالقدر الكافي، فاليوم يتصدر نظام من المقاطع التي يختارها الذكاء الاصطناعي وفقاً لسلوك المشاهدة وليس العلاقات الاجتماعية (مستوحية من تيك توك)، فاليوم ستجلب لك الخوارزميات القائمة على السلوك مشاركات من خارج مجتمعك، والموجز يستقطب المحتوى من أي مكان.
في السابق لكي ينتشر شيء ما على شبكة التواصل الاجتماعي، كان على الأشخاص اختيار مشاركته، لكن، اليوم، أصبحوا يوافقون عليه من خلال المشاهدة فقط، إذ تكافئ الخوارزمية المحتوى الذي يجذب أكبر قدر من التفاعل. لقد انطفأت الأضواء في ساحة المدينة، بحسب “الإيكونوميست”.
من المنصات المفتوحة إلى المغلقة
وفي استطلاع أجرته شركة “غارتنر” لأبحاث السوق، العام الماضي، قال 28 في المئة فقط من الأميركيين إنهم يحبون توثيق حياتهم عبر الإنترنت، بانخفاض عن 40 في المئة عن عام 2020، ويصرح حوالى 61 في المئة أنهم أصبحوا أكثر انتقائية بشأن ما ينشرونه، والأمر الذي أدى إلى ظهور ما يسميه معهد “رويترز” “مستهلك الأخبار السلبي”، الذي يرى الأخبار ولكنه لا يعلق عليها أو يشاركها أو يتفاعل معها بأي شكل من الأشكال.
وبدلاً من ذلك، ينتقل النشر العام بشكل متزايد إلى المجموعات والفئات المغلقة، مثل البريد الإلكتروني، إذ وجد معهد “رويترز” أن نسبة البالغين الذين ينشرون مقالات إخبارية أسبوعياً عبر منصات المراسلة الفورية ارتفعت من 17 في المئة إلى 22 في المئة في السنوات الخمس الماضية حتى عام 2023، لتختفي المحادثات العامة التي اعتدنا عليها في الأحداث الكبرى ما يؤدي إلى إبطاء انتشار الأفكار على المستوى العام، في حين تأتي المنشورات على تطبيقات المراسلة تبعاً للترتيب الزمني، وليس من خلال خوارزمية لزيادة التفاعل، الأمر الذي يقلل من الحافز للإثارة، ويجعل الخطاب هادئاً وملتزماً عكس الساحات العامة.
ومع ذلك، فإن هذا العالم الاجتماعي الجديد يحمل معه مشكلاته الخاصة، فتطبيقات المراسلة بغالبها غير خاضعة للإشراف، وهذا أمر جيد بالنسبة للمجموعات الصغيرة، لكن المجموعات الكبيرة مثل مجموعات “تليغرام” المكونة من 200 ألف شخص، تبدو اليوم أشبه بعمليات نشر وبث غير منظمة أكثر من كونها محادثات.