حرية – (25/2/2024)
شكلت الحرب العالمية الأولى أبرز الأحداث التي أدت إلى تحول جذري في صناعة الأزياء وأسهمت بإطلاق صيحات عديدة لم يكن لها وجود سابقاً
تتأثر الموضة إلى حد بعيد بالظواهر الاجتماعية والأحداث العالمية الكبرى، فكما تؤثر الظروف السائدة في حاجات المستهلكين وتترك أثراً في صناعة الموضة تلقائياً، فإن العكس صحيح، خصوصاً أن الأزياء تستخدم غالباً كوسيلة للتعبير عن الذات والهوية والشخصية. حتى إن صيحات عديدة حققت انتشاراً واسعاً بسبب حركات اجتماعية أو توجهات سائدة في مراحل معينة في التاريخ. لذلك، شهدت الموضة تطوراً لافتاً في مختلف الحقب، وسجلت فيها تحولات في ظل منعطفات اجتماعية أو ثقافية معينة، وكان آخرها جائحة كورونا التي كان لها أثر بارز في صناعة الموضة والأزياء الأكثر رواجاً.
أهم المنعطفات في تاريخ الموضة
في حقب عدة، أسهمت حروب وأزمات وأحداث كبرى في حصول تحولات بعالم الموضة. وشكلت الحرب العالمية الأولى منعطفاً في هذا المجال نظراً إلى التغيرات الكبرى التي حصلت آنذاك في المجتمع. ففي تلك المرحلة، شكلت النساء النسبة الكبرى في المجتمع مع توجه معظم الرجال إلى الحرب، مما أحدث تغييراً جذرياً في النمط السائد في الأزياء النسائية. فعندما توجه الرجال إلى ساحات المعارك للقتال، عملت النساء في مجالات كانت تخص الرجال آنذاك، مما انعكس على أزيائهن أيضاً. فعملن مكان الرجال في المصانع والمزارع ومحطات القطار، فتغيرت الصورة التقليدية للمرأة من الناحيتين المادية والمعنوية، بعدما طبعت الأنثوية تلك الصورة. حتى إن هذا التحول ترافق مع تغيير يرتبط بمكانة المرأة في المجتمع مع مطالبتها في حق التصويت وقيادة السيارة. في ظل هذه التغييرات، لم يعد هناك ميل لدى المرأة إلى ارتداء الفساتين والتنانير والتصاميم الضيقة والأنيقة، لا بل على العكس، أصبحت الأزياء النسائية ترتكز على السراويل والقطع الملائمة لعملهن في المصانع، وأيضاً على الزي الرسمي أحياناً بما يتلاءم مع ظروف العمل. وكان من الطبيعي أن يحصل التحول في عالم الموضة انطلاقاً من الحرب وظروف الحياة التي باتت بعيدة من أجواء الترفيه والجلسات الهادئة المعتادة حول فنجان الشاي. ومالت الملابس إلى البساطة مع تخلي المرأة عن أسلوب البذخ والمجوهرات. وأكثر بعد، تأثرت الملابس بأجواء الحرب من ناحية أخرى مع انتشار الأسلوب العسكري في التصميم، وظهرت عندها السترات النسائية ذات الطراز العسكري. حتى إن التغيير الجذري طاول أزياء المرأة لجهة الألوان التي أصبحت قاتمة ورصينة، ولجهة الطول، فأصبحت التنانير أقصر لتلائم ظروف العمل.
البدلة النسائية والأكسسوارات المضيئة
في تلك الفترة، حصل تحول بارز آخر في عالم الموضة، إذ ظهرت البدلة النسائية التي حققت رواجاً واسعاً. وكانت كوكو شانيل أشهر المصممين الذين أطلقوا البدلة النسائية بأسلوبها الحديث، مع الحفاظ على الأناقة والأنوثة المطلقة. وكانت الظروف مواتية لانتشارها وتحقيقها هذه الشعبية فيما كانت الصورة التقليدية للمرأة تتغير من النواحي كافة، بعيداً من الكورسيه والملابس الأنثوية.
وأسهمت الحرب في رواج صيحات أخرى، كما يحصل عادة في الأزمات أيضاً. فمع فرض نظام الظلام في الطرقات في بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، كانت هناك دعوة إلى ارتداء الملابس البيضاء التي حققت انتشاراً كبيراً. كما راجت الأكسسوارات المضيئة في الظلام.
تترك الحروب أثراً واضحاً في عالم الموضة بسبب الظروف وتغير حاجات المستهلكين
صيحات يفرضها الواقع
من جهة أخرى، يفرض الأمر الواقع في أوقات الحروب تحولات على عالم الموضة، وفق ما تؤكد خبيرة الموضة ريتا سركيس، مشيرة إلى حصول نقص هائل في المواد الخام والأقمشة. في الحرب العالمية الأولى مثلاً، اعتبرت التنانير الطويلة والواسعة التي راجت، والقمصان النسائية ذات الأطواق العريضة هدراً للأقمشة. فكانت هناك دعوة إلى مزيد من التأني والتحفظ في استخدام القماش، فكانت العودة للتنانير الضيقة. أيضاً، في الحرب العالمية الثانية، حصل انقطاع في الجلد الذي كان مستخدماً آنذاك حصراً للجنود لتوفير الحماية لهم من البرد والمطر. لذلك، كان لا بد من التوجه إلى مواد أخرى بديلة لاستخدامها في التصاميم حرصاً على حفظ المواد الجلدية للجنود.
“بطبيعة الحال، كان من الطبيعي أن تتوقف عمليات الاستيراد والتصدير، وحصل نقص هائل في الموارد في الحرب العالمية الأولى كما الثانية. وتوقف عن التصميم في مجال الهوت كوتور كبار المصممين الذين كانوا رواداً في عالم الموضة، مثل بول بواريه وتشارلز وورث، مما ترك أثراً مهماً في عالم الموضة. حتى إن الحرب أدت إلى تغيير طريقة التفكير بالموضة والأزياء ودعت المستهلكين إلى التركيز على الملابس العملية”، وفق سركيس.
وعلى رغم تراجع الاهتمام بالموضة خلال الحرب والظروف الصعبة والنقص في المواد الخام وارتفاع الضرائب على الملابس، سلكت الموضة مساراً مختلفاً من أجل البقاء والاستمرار. وعلى رغم سياسة التقشف، سرعان ما عادت المجموعات الأنيقة والاقتصادية. وحتى يومنا هذا يستمر أثر الحروب واضحاً في عالم الموضة. ففي حرب غزة اليوم، أظهر كثر من المصممين تعاطفهم من خلال تصاميم ابتكروها وصيحات لاقت رواجاً واضحاً في مختلف دول العالم. وتشير سركيس إلى أن بعض المصممين استفادوا حتى من هذا الاتجاه للترويج والتسويق لمجموعاتهم وتصاميمهم.
شخصيات تترك أثراً
وإضافة إلى التحولات الاجتماعية التي تؤثر في الموضة، كان لأشخاص معينين أثر في الأزياء في حقب معينة. فبين عامي 1890 و1900، في العصر الفيكتوري، كان أمير ويلز يتمتع بشعبية كبرى، وفيما تميزت الملكة بأسلوب تقليدي، عاش الأمير حياة لم ترق لوالدته، وكانت باريس وجهته المفضلة، لذلك تأثرت الموضة آنذاك بأزيائه وتتبعها كثر وقاموا بتقليده.
وتوضح سركيس أن ثمة أهمية كبرى لوجود شخصيات تترك أثراً في عالم الموضة وتؤدي إلى تحولات فيه، عندما يتتبعها كثر ويتأثرون بها. وكانت جاكلين كينيدي من الشخصيات التي تركت هذا الأثر البارز. فكانت أيقونة في الموضة يتتبع الكل أزياءها وإطلالاتها. وكذلك بالنسبة إلى جيهان السادات التي أسهمت أزياؤها في إطلاق صيحات اعتمدها كثر.
كورونا
بعد كل التحولات التي شهدتها الأزياء في حقب عدة في ظل أحداث وظواهر اجتماعية، تبدو جائحة كورونا أحدث التحولات الكبرى التي أحدثت منعطفاً في مجال الموضة، إذ صنعت تغييراً جذرياً بسبب ظروف الحياة المرافقة لها. فمعها راجت الأزياء العملية والمريحة، والواسعة الملائمة للحياة اليومية لنمط الحياة الذي فرضه الوباء. فنظراً إلى الظروف الحجر وتراجع معدلات المناسبات الاجتماعية والحفلات، وضعت التصاميم الأكثر بذخاً جانباً واستبدلت الملابس المريحة بها. وكانت “بربري” من العلامات التي اشتهرت دوماً بتصاميمها الكلاسيكية، فإنها أصدرت في ظل الجائحة الملابس الرياضية التي لم تكن يوماً موجودة لديها. ففي تلك الفترة، فقد الاهتمام بالأزياء والملابس الفاخرة بسبب أسلوب العيش السائد، مما شكل منعطفاً مهماً في صناعة الموضة مع الاتجاه إلى الملابس المريحة والرياضية.
أثر ثقافي
لا تعد الحروب والأزمات وحدها سبباً للمنعطفات التي شهدناها في عالم الموضة. فتمازج الثقافات من العوامل التي قد تسهم في ذلك أيضاً وتخلق خطاً جديداً في مجال الموضة مع التداخل بين عادات وثقافات مختلفة، وعلى أثر التبادل بينها.
وتبرز أيضاً تلك المجموعات التي تعبر عن تمرد على المجتمع بما فيه من عادات وتقاليد متعارف عليها، من خلال الأزياء. وهذا ما سجل في حقب عدة، وانعكس بصورة واضحة على الموضة، كما فعل عشاق الروك والبيتلز. فأرادوا التعبير عن ذواتهم في مواجهة القمع، وتركوا أثراً في الموضة مع الترويج لصيحات معينة كالـ”streetwear” والملابس الجلدية وراجت في الوقت نفسه صيحة الـ”Piercing”.
ولعل الزي الأفريقي التقليدي الشهير المعروف باسم “داشيكي” خير دليل على العلاقة الوثيقة التي تربط بين تلك الظواهر الاجتماعية والموضة. فحقق انتشاراً واسعاً في ظل المساعي لتحقيق المساواة بين البيض والسود في حقبة معينة. فكانت هذه وسيلة للأفريقيين، وتحديداً المصممين منهم، ليعبروا بفخر عن هويتهم من خلال الأزياء. فصمموا مجموعات كاملة متأثرة بزي “داشيكي” الذي يعد من الأزياء التقليدية للأفارقة، حتى إن كثراً من المشاهير كانوا يصففون شعرهم آنذاك متأثرين بالأسلوب الأفريقي للتسريحات مع الضفائر الرفيعة التي لقيت رواجاً واسعاً، وراجت الأزياء الأفريقية إلى أن أصبحت تدمج مع التصاميم التقليدية وتترك أثراً فيها.
ومع العودة لهذه المنعطفات الكبرى في صناعة الموضة والشخصيات التي تركت أثراً فيها، تأسف سركيس إلى انعدام الأسس حالياً نظراً إلى كثرة المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي الذين يمكن أن يطلقوا صيحات ويروجوا لها بطريقة عشوائية، وإن كانت لا ترتكز أبداً إلى أي من المعايير المطلوبة في الموضة والجمال. وهذا ما يختلف تماماً عما كان سائداً في حقب تميزت بأيقونات الموضة التي استطاعت أن تفسح المجال لخطوط جديدة في عالم الأزياء.