حرية – (9/3/2024)
رياض قهوجي
تواجه أميركا والغرب اليوم خيارات صعبة في كيفية التعامل مع التهديد الحوثي في البحر الأحمر، خصوصاً بعد الإدراك المتأخر بأن الخطر الذي يمثله الحوثي مع التسليح الثقيل من إيران ليس محلياً، بل هو على مستوى دولي، وقد يضعه المراقبون في خانة صراع القوى العظمى. فالميليشيات الحوثية تهاجم السفن الغربية تحديداً، واستمرار تعرضها للسفن العابرة مضيق باب المندب يؤثر سلباً على الاقتصاد ويزيد من التضخم في دول أوروبية. أضف إلى ذلك الأبعاد العسكرية لعمليات الميليشيات الحوثية المستمرة رغم الغارات الجوية لأميركا وبريطانيا المترافقة مع القصف البحري لقواعد الحوثيين في مناطق عدة في اليمن. فكون الحوثيين جزءاً من محور الممانعة الذي تقوده إيران، يجعل أعمالهم في سياق جهد أكبر قد يشمل التعاون العسكري المتنامي بين طهران وكل من موسكو وبكين.
لقد دخلت الميليشيات الحوثية التاريخ لكونها أول من يستخدم صواريخ بالستية مضادة للسفن في نزاع عسكري. فهذا النوع من الصواريخ موجود في ترسانة دول عدة، وكانت الصين أول من قام بتجربته وإدخاله الخدمة ليستخدم كسلاح رئيسي ضد حاملات الطائرات الأميركية. ولقد حصلت إيران على هذه التكنولوجيا من الصين وكوريا الجنوبية، وزّودت الحوثيين بها في الشحنات التي شملت أنواعاً أخرى من الصواريخ البالستية والجوالة، والمسيرات الهجومية، والانتحارية، وغيرها. كما عملت إيران على تزويد الميليشيات الأخرى التابعة لها في المنطقة بالصواريخ البالستية والجوالة والمسيرات، وهي جميعها تصنف ضمن الأسلحة البعيدة المدى والعابرة للحدود. كما أن إيران حصلت على تكنولوجيا مكّنتها من زيادة دقة الصواريخ البالستية واستخدامها كأسلحة تكتيكية.
وتمكنت إيران من زيادة مدى صواريخها البالستية ومسيراتها. فالميليشيات الحوثية أطلقت صواريخ بالستية على مدينة إيلات الإسرائيلية على ساحل البحر الأحمر، وهي على مسافة تزيد عن 1500 كيلومتر. ورغم أن إسرائيل تمكنت من اعتراض هذه الصواريخ، إلا أن امتلاك الحوثي القدرة على ضرب أهداف بعيدة بهذا الشكل يجعله من الناحية العملية والتقنية قادراً على استهداف المدخل الجنوبي لقناة السويس ومضيق هرمز. كما يمكن للصواريخ البالستية لدى ميليشيات محور الممانعة في لبنان وسوريا الوصول إلى المدخل الشمالي لقناة السويس واستهداف الملاحة في البحر الأبيض المتوسط. وعليه فإن الميليشيات الحوثية منفردة أو بالتعاون مع حلفائها تستطيع تعطيل الملاحة في كل الممرات المائية الاستراتيجية في الشرق الأوسط بمجرد أن تأتي الأوامر من طهران بذلك. وهذا مستوى من الخطر لم تكن تعيه العديد من القوى العالمية، وتحديداً الغربية.
بالنسبة إلى الخبراء في معهد دراسات الحرب في واشنطن، فإن تنامي علاقات إيران العسكرية مع روسيا والصين يضع ما يقوم به الحوثي في البحر الأحمر في خانة جديدة ومهمة لدى القوى الغربية. فالميليشيات الحوثية تستخدم الصواريخ البالستية والجوالة والمسيرات في هجمات يومية ومنسقة ضد السفن الحربية الأميركية والأوروبية، معتمدة على إحداثيات توفرها لها سفن التجسس والحربية الإيرانية في المنطقة، بالإضافة إلى أقمار اصطناعية لإيران وحلفائها (الصين وروسيا). فالغارات الأميركية دمرت كل ما تملكه الميليشيات الحوثية من منظومات رادار ومراكز قيادة وسيطرة، وبالتالي فإن الحوثيين يتسلمون إحداثيات من جهات خارجية (إيران وحلفائها) تمكنهم من التمييز بين السفن العابرة وتحديد هوية كل منها وأي منها يجب استهدافها وأين تحديداً وبأي سلاح. وهذا عمل يتخطى قدرات الحوثيين.
كما أن الاستهداف المتكرر من الميليشيات الحوثية للسفن الحربية الغربية، مستخدمة تشكيلة من الصواريخ والمسيرات يساعد الإيرانيين على التعرف إلى آلية عمل الدفاعات الأميركية والأوروبية وسرعتها والبحث عن نقاط الضعف للتفوق عليها. ويرجح الخبراء أن تكون إيران تشاطر ما تكتشفه في الهجمات اليومية مع الروس والصينيين. فالعلاقات الروسية-الإيرانية الدفاعية تزداد متانة منذ بدء الحرب الأوكرانية. وموسكو تتسلم ذخائر ومسيرات “شاهد” الإيرانية مقابل تكنولوجيا لتحسين الصناعات العسكرية وتعزيز القوات الجوية لإيران.
وتجري إيران مناورات بحرية مشتركة سنوياً مع روسيا والصين، وهي تستعد حالياً لمناورات هذا العام والمتوقعة خلال الشهر الجاري. وتعمل الصين منذ زمن على تطوير قواتها البحرية لنفي التفوق البحري الأميركي المهيمن على بحار العالم، وهو هدف تستفيد منه روسيا أيضاً. وبالتالي، أي معلومات تكشف أماكن الضعف في الدفاعات الجوية للبحرية الأميركية ودول الناتو ستكون بالغة الأهمية لبكين وموسكو.
وتفيد مصادر غربية بأن واشنطن وحلفاءها الأوروبيين يشعرون بالندم بسبب الضغط الذي مارسوه على التحالف العربي بقيادة السعودية عام 2018 لوقف الحملة العسكرية للسيطرة على الساحل الغربي لليمن وطرد الحوثيين من الحديدة. وتضيف هذه المصادر أن هذه الدول تبحث في وضع خطة لدعم عمل عسكري لقوى الشرعية في اليمن من أجل طرد الحوثيين من المناطق الساحلية. لكن عملية كهذه ستكون مكلفة ويصعب تحقيقها من دون دعم دول الخليج العربية التي لا يبدو أنها متحمسة للتورط بحرب جديدة في اليمن. وكلما طالت فترة الحرب سيزداد الضغط على واشنطن والعواصم الغربية لإيجاد حل جذري لتهديد الحوثيين لباب المندب والبحر الأحمر ولمسألة نشر إيران أسلحة استراتيجية متقدمة في المنطقة عبر عملائها. فلقد بات واضحاً لهذه الدول أن التهديد الحوثي ليس شأناً محلياً، بل بات موضوع أمن دولي تتأذى منه الدول الغربية أساساً. فالسفن الروسية والصينية والإيرانية تمر بأمان وغير مضطرة للإبحار عبر طريق رأس الرجاء الصالح. حتى أنهما – روسيا والصين – لم يضطرا لإرسال سفن حربية لمرافقة سفن الشحن لدولتيهما كما فعل غيرهما، مثل الهند والاتحاد الأوروبي على سبيل المثال.
وعليه، فإن الجبهة التي فتحها الحوثيون في البحر الأحمر ضمن ما يعرف باستراتيجية توحيد الساحات لمحور الممانعة دعماً لـ”حماس” في قطاع غزة، لفتت انتباه القوى الغربية إلى الخطر الحقيقي الذي باتت تمثله الميليشيات الحوثية على صعد عدة. ولم يعد تعاملها معها على أنها خطر سيزول مع توقف حرب غزة، بل سيبقى قائماً وربما سيزداد قوة بانتظار جولة مستقبلية من النزاعات في المنطقة قد تقرر إيران خلالها فتح هذه الجبهة. كما أن السماح لقوة غير نظامية مثل الميليشيات الحوثية، والتي تصنفها دول عدة بأنها إرهابية، بامتلاك القدرة على إغلاق الممرات الاستراتيجية في الشرق الأوسط يسبب إشكالية كبيرة لقوى إقليمية ودولية عدة تحتم أخذ إجراءات في المستقبل القريب للوصول إلى حل جذري يزيل هذا التهديد. كما أن هذه الدول تعيد النظر بتغاضيها عن انتشار الصواريخ البالستية والتي قد يصل مدى بعضها من لبنان وسوريا إلى داخل أوروبا ودول حلف الناتو. فهذه الميليشيات قد تصبح أدوات تستخدمها الصين أو روسيا عبر إيران مستقبلاً ضمن إطار تحالف عسكري بينها.