حرية – (9/3/2024)
في زاوية بمدخل سوق القيسارية بمدينة إسنا جنوب محافظة الأقصر، يجلس مصطفى معوض القرفصاء فوق دكة خشبية، وأمامه طاولة تتراص عليها أختام نحاسية. بخفة ومهارة يلتقط الشاب الثلاثيني إحداها، وينقش فوق الختم اسم أحد الزبائن المنتظرين.
توارث معوض مهنة كتابة الأسماء على الأختام النحاسية من عائلته، التي اشتغلت بهذه الحرفة منذ زمن بعيد. يقول لـ”النهار العربي”: “تعلمت المهنة منذ 7 سنوات من والدي الذي توارثها عن جدي، والآن علمتها لأخي الصغير حتى تستمرّ جيلاً بعد آخر”.
في المعتاد تتطلب مزاولة مهنة صناعة الأختام الحصول على تصريح من السلطات، إلا أن التراخيص متوقفة منذ ثمانينات القرن الماضي، لكن معوض يقول إنّه يمارس عمله الآن استناداً إلى الترخيص الذي كان بحوزة جده. وعلى رغم أن الترخيص لم يبقَ سارياً، إلا أن الرجل يعتمد على الثقة المتوارثة.
وفي الماضي، كان يلزم صناعة ختم وجود اثنين شهود إلى جانب صاحب الختم، وكانت البيانات تُسجّل في دفتر يسلم إلى السلطات في نهاية كل شهر، وكان الالتزام بهذه الإجراءات التي اختفت، من أجل ضمان عدم تزوير الأختام.
يجلس مصطفى معوض إلى طاولته الخشبية بينما ينقش على الأختام
مراحل التصنيع
يجلب معوض الأختام النحاسية الخام من القاهرة، والتي تعرف باسم “أختام غشيمة”، وتُصنّع هذه الأختام بحارة اليهود في القاهرة؛ حيث يصنعها مسبك وحيد يعود لشخص يعرف بالخواجة عريان، يتعامل معه كل من يمارس هذه المهنة.
في جلسته، يستخدم معوض عدداً من الأدوات البسيطة التي تساعده في إتمام عمله؛ إذ يمسك في بيده اليمنى قلم الحفر المصنوع من الحديد الصلب، ويمسك باليد الأخرى ملزمة خشبية أشبه بالكماشة تثبت الختم، حتى يتمكن من نقش الاسم عليه، وقبل البدء يمسك بالمبرد الذي يعمل على تهذيب الختم النحاسي من عيوب الصناعة.
في دقائق معدودة ينتهي مصطفى معوض من نقش الاسم على الختم، على أن يكون النقش بخط عربي مقلوب، حتى يكون الخط في وضعه الطبيعي عندما يطبع على الورق، ويقول معوض إنّ “المعيار الأساسي هو وضوح الخط، ولا يشترط معيار جمال الخط”.
يقول الختّام المصري: “بعض المصالح الحكومية ترسل إليّ المواطنين لصناعة الأختام عندي، ثقة في جودة ووضوح الخط الذي أكتب به”.
ويشير إلى أن ثمّة أنواعاً مختلفة من الزبائن الذين يتعاملون معه، يأتي على رأسهم كبار السن الذين لا يجيدون الكتابة، وثمة أيضاً ذوو الاحتياجات الخاصة من غير المبصرين، أو الذين فقدوا أطرافهم، أو ممن لديهم مشكلات عصبية تمنعهم من الإمساك بالقلم، كما يقبل أيضاً على الأختام بعض السياح الذين يأتون لزيارة إسنا، ويعجبون بهذه الصناعة التقليدية.
يستخدم معوض قلم الحفر لنقش الأسماء على الأختام النحاسية
تاريخ ممتد
من جهته، يقول مصطفى كامل، باحث ماجستير في التراث الشعبي، إنّ “صناعة الأختام تعود إلى مصر القديمة، وعبر الحقب التاريخية المختلفة ظلت حاضرة بقوة، فثمة أختام من تل العمارنة، وأختام من عصر المماليك، وغيرها من الأزمنة المختلفة”.
ويضيف كامل لـ”النهار العربي”: “استخدمت الأختام في الخطابات وغيرها من الوثائق الرسمية، وكان من المعتاد أن يرتدي الملوك خواتم منقوشة عليها أسماؤهم تستخدم في هذا الغرض”.
وعثر على أختام أسطوانية تخص أشخاصاً في مقابر العامة من السكان المحليين في مصر القديمة، في العصر العتيق (3200 – 2800 قبل الميلاد)، وكانت تحتوي هذه الأختام على ألقاب وأسماء هؤلاء الأشخاص. كما سادت الأختام الرسمية في الدولة القديمة؛ حيث كان يكتب بعد اسم الإدارة الحكومية الاسم الحوري للملك.
واستمرّ الاعتماد على الأختام حتى أيّامنا هذه؛ إذ تستخدم الأختام في جميع المصالح الحكومية. ويشير كامل إلى أن ثمة أوجهاً لاستخدامها في منظومة القضاء المصري؛ حيث يختم أمناء السر في النيابة أو المحكمة الأحراز مثل: إيصال الأمانة، أو الشيكات، أو العقود. كما يكون بحوزة كل وكلاء النائب العام ختم آخر، تُختم به الأحراز أيضاً.
يشار إلى أن الدولة المصرية في العصر الحديث اتخذت النسر شعاراً لها؛ وقد استخدم بقرار داخلي كخاتم حكومي للمرة الأولى عام 1914، وترسخ هذا الاستخدام لختم النسر رسمياً؛ وفقاً للقانون 130 الصادر في كانون الأول (ديسمبر) 1923، الصادر عن الملك فؤاد.
وقد دخل عدد من التغييرات على الخاتم الرسمي، أهمها إبّان اتحاد مصر مع سوريا عام 1958، حين أدخل تعديل طفيف على شكل النسر، ثم استبدله الرئيس المصري أنور السادات بصقر قريش عند إقامة اتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسوريا وليبيا عام 1971.
لكن القانون الرقم 145 لسنة 1984 أعاد نسر صلاح الدين مجدداً إلى الخاتم الرسمي، إذ يتألف من شعار نسر صلاح الدين، موضوعاً في إطار دائري، ومحاطاً بزخارف عربية الطراز.
وتُمهر بالخاتم الرسمي القوانين، والمراسيم، والمعاهدات، وأوراق الاعتماد، وجميع الوثائق الرسمية الأخرى. والجهة المنوطة بإصدار الخاتم الرسمي هي مصلحة سك العملة، إذ يرتبط كل ختم برقم مسلسل، أو بصمة بحسب كل جهة رسمية.